ليست الغاية من المسار السياسي الحالي الذي باشرته الأمم المتحدة برعاية روسية وأميركية إنهاء الأزمة تماماً، بل ضبط منسوب الصراع (الذي سيستمرّ بأشكال أخرى ليست عسكرية بالضرورة) وعدم تركه يتوسّع إلى الحدّ الذي يشكّل فيه خطراً على مصالح تلك الدول نفسها. من مصلحة هؤلاء الآن حصول هذا الضبط وبأسرع وقت ممكن، فمسارات الصراع العسكرية لم تفلح في إسقاط النظام أو هزيمة المعارضة، وبقيت تراوح لفترة طويلة عند حدود الستاتيكو الذي أفضى إليه "التعادل العسكري" والميداني على الأرض. وفي المرّة الوحيدة التي لم يحصل فيها التعادل كانت "داعش" هي السبب، نظراً لعدم ارتباطها بأيّ معادلة سياسية واعتبارِها الصراع العسكري غايةً في حدّ ذاته. هذا الأمر هو الذي سرّع بالتقريب بين الاستراتيجيات المتعارضة للقوى الدولية، على أساس أنّ القتال في ظلّها لن يكون من أجل القتال فحسب، وسيرتبط حُكماً بمعادلات دولية لا مكان فيها لمنظمات تقاتل بمعزل عن الإطار السياسي الذي من أجله اندلع القتال أصلاً.

حتمية عزل "داعش"

في حالة «داعش»،
فإنّ السياسة هي آخر ما يمكن العثور عليه
وفي حالة "داعش" تحديداً فإنّ السياسة هي آخر ما يمكن العثور عليه، لأن القتال هنا لا يحدث في إطار العلاقة مع المجتمع، وحتى لو حصل لا تكون الغاية منه الضغط من أجل تحقيق مطالب يريدها هذا المجتمع من السلطة، وإنما الحصول على السلطة كاملة من أجل تحطيم المجتمع الموجود وإحلال آخر "مُتخيّل" محلّه. لا أحد بإمكانه تحمّل هذا النمط التدميري من الصراع، وخصوصاً إذا فاض عن حدود الدولة التي يجري فيها وبدأ ينتقل إلى أماكن أخرى من الإقليم والعالم، في حين أنّ التمرّد الذي بالإمكان احتماله هو ذاك المنضبط بحدود معيّنة والملتزم بقواعد الصراع العسكري على السلطة، مهما كان هذا الصراع عنيفاً أو دموياً. ويمكن القول إنّ هذه هي حال المجموعات المتمرّدة في سوريا التي مهما وصل بها التمرّد المسلّح تبقى محكومة بأطر معينة لا تستطيع التفلّت منها، وهو ما يقودها بالضرورة إلى تفاهمات موضعية سياسية وعسكرية مع الخصم، حتى لو لم تصبّ في مصلحتها على المدى القريب. وجود الإطار السياسي هنا يساعد على تمكين هذه التفاهمات ويفتح أفقاً لإنهاء الصراع أو تجميده في الأماكن الأخرى التي لم تعد فيها العملية العسكرية مجدية أو مفيدة لأيّ من الطرفين. في المحصّلة يعرف المتمرّدون المحلّيون أنهم ثاروا وحملوا السلاح من أجل مطالب معينة، وحين تعقّدت المسألة وأصبح استمرار الصراع عبئاً على مجتمعهم وبيئتهم المحلّية أعلنوا استعدادهم للتفاوض، معتبرين أنه الخيار الوحيد الممكن في ظلّ انتفاء الخيارات الأخرى أو استحالتها. مع هؤلاء يمكن الوصول إلى "حلّ وسط" فتمرّدهم يتعيّن بأفق سقفه المجتمع وقدرته على التحمّل، بينما مع "داعش" لا يمكن إقامة تواصل مماثل، ولذلك فهي ستكون في لحظة اتفاق الأطراف الدولية على "استراتيجية واحدة" حجر العثرة الوحيد أمام "التسوية". الجميع أدرك هنا أن الستاتيكو الذي حرّكته "داعش" لفترة من الزمن سيعود للتغير من جديد، ولكن هذه المرّة في مواجهتها، بحيث يصبح القتال من أجل "التسوية" أو التفاوض قتالاً ضدّها وضدّ من تمثّل في الداخل السوري. هكذا، صدر الأمر بتجميد الصراع مع القوى التي تُقاتلها والإبقاء عليه في أماكن سيطرتها، على أن يتم تطويره ليتناسب مع "التفاهمات السياسية" التي جرت ترجمتها على الأرض بأكثر من تحالف عسكري.

العزل بالتحالفات العسكرية

كان واضحاً مثلاً أنّ حظوظ القتال ضدّ النظام قد ضَعُفت بشكل كبير بعد إنشاء هذه التحالفات، ومع أنها كانت متعارضة سياسياً إلا أن الاتفاق بينها على تحييد النظام عن الغارات الجوية كان قد تمّ بالفعل، وبدأت نتائجه بالظهور مع أوّل غارة شُنّت على مواقع "داعش" في عام 2014. لم تتحقق نتائج كبيرة على الأرض في البداية ولكن الاتفاق على تحييد السلطة عن القتال في مواجهة "داعش" كان قد بدأ يؤتي مفعوله، وأخذ أحياناً شكل التنسيق معها كما حصل في أماكن معينة من الجزيرة. في هذه المرحلة تغيّر شكل القتال تماماً، وأصبحت هذه الجبهات هي التي تحظى بجلّ الدعم الذي يأتي من الأميركيين، بينما الجبهات التي كانت تحظى بدعمهم سابقاً في مواجهة النظام جُمّدت تماماً، أو ظلّت تعمل بوتيرة منخفضة ومن دون دعم وإسناد كبيرين (الجبهة الجنوبية تحديداً). هكذا، وبدعم من التحالف الأميركي صمدت عين العرب - كوباني وتقدّمت وحدات الحماية الكردية على محاور الحسكة - القامشلي وصولاً إلى شمال الرقة في تل أبيض وعين عيسى وسواهما. الوحدات هنا كانت تقاتل ضمن تحالف عسكري لها اليد الطولى فيه ولكنه لا يخلو من وجود قوّات متمرّدة سبق لها أن قاتلت النظام في أماكن كثيرة قبل أن تتخلّى عن قتاله وتتفرّغ لمواجهة التنظيم. استراتيجية القتال على هذه الجبهة عسكرية بحتة ولكنها تحصل في إطار سياسي من التنسيق مع مختلف القوى التي لها مصلحة في مواجهة التنظيم والحدّ من تأثيره وسيطرته على الأراضي السورية. استمرّ هذا التفاهم طيلة العام 2014، ونجح بتحقيق اختراقات عديدة على الجبهة التي كان يسيطر عليها "داعش" بمفرده، ولكن نجاحه بقي مرهوناً برغبة الأميركيين في جعل النظام يتقدم على الجبهات التي أخلاها "داعش" أو تراجع عنها، وهو ما لم يحصل نظراً للتعارض الواضح بين أجندتي السلطة وحلفائها والتحالف الأميركي، فكان الخيار بأن تشرف وحدات حماية الشعب على هذه المناطق بعد توسيع تحالفها وضمّ مكونات عسكرية أخرى إليه، مع الإبقاء على خيار التنسيق مع النظام قائماً بحسب الحاجة والظرف. بقي الأمر على هذه الحال إلى أن حصل التدخّل الروسي في أيلول من العام الماضي، حيث تطورت مع هذا التدخّل استراتيجية العزل المتبعة ضدّ "داعش"، وضمّ الروس إليها بالإضافة إلى التنظيم فصائل أخرى لا يرون أنها ستساعد في الربط بين التغيّرات الميدانية والعمل السياسي الذي يجرى التحضير له.

المضيّ قُدُماً

هذا الضمّ كان محور خلاف دائم مع الأميركيين، وتسبب لهم بفوضى على صعيد إدارة عملهم ميدانياً وسياسياً. فبالإضافة إلى سماحه للنظام بتشكيل محاور قتالية متصلة على طول الجبهة مع القوى المدعومة من التحالف (حلب مثلاً)، أثبت أيضاً فاعليته على المستوى السياسي، حيث دفع إلى الأمام بخيار اعتبار مجموعات أخرى غير "داعش" و"النصرة" "إرهابية"، وبالتالي استثناؤها من عملية التفاوض، واعتبار "ممثّليها السياسيين" غير مرغوب فيهم. وقد لاقى هذا الخيار قبولاً لدى قطاعات شعبية واجتماعية ليست موالية بالضرورة، ويمكن اعتبار بعضها محسوبة على المعارضة. وبذلك يكون الروس قد نجحوا فضلاً عن توسيع مروحة المجموعات المُصنفة "إرهابية" في إضفاء شرعية على استبعادها من التفاوض، وهذا يعني أن دورهم لم يعد محصوراً في تغطية النظام فحسب، بل أصبح أيضاً "رافعة" لقطاعات كانت حتى وقت قريب تعتبرهم من ضمن المتدخلين سلباً في البلد. حصل ذلك في وقت قصير نسبياً، وحصوله بهذا الشكل سببّ إرباكاً كبيراً داخل المعسكر الأميركي ودفع بالتناقضات داخله قدماً. على الإثر أخذت السعودية وتركيا تتشدّدان، وبدأتا إلى جانب تسعير القتال في الميدان بوضع شروط جديدة قبل البدء بأيّ عملية سياسية، وذلك في محاولة لعرقلة "التقدم الروسي" ومنع الأميركيين من المضي قدماً لملاقاته.
طبعاً هذه المحاولات ستتكرّر كثيراً وخصوصاً بعد خسارة السعودية وتركيا للمزيد من المواقع في الميدان (ريف اللاذقية، الشيخ مسكين... الخ) ولكنها لن تستطيع إيقاف العمل بالمسار التفاوضي. إذ بالإضافة إلى الاتفاق الدولي على كونه الخيار الوحيد المتاح في ظلّ انتفاء البدائل الأخرى فإنه يحظى بدعم "أكثرية" سورية تريد إنهاء الحرب بأيّ شكل كان، وهذه الأكثرية ليست مع النظام ولا مع المعارضة، وموقفها من أيّ قوة سواءً كانت إقليمية أو دولية يتحدد في ضوء ما تبديه من دعم للعملية التفاوضية، فإذا دعمتها كان به، وإن لم تفعل كما يبدو من موقف السعودية وتركيا فستكون الخسارة بالنسبة إليها خسارتين، مرّة في الحرب وأخرى في الطريق إلى إنهائها.
*كاتب سوري