لا نقول أنّ حزب الله تجربة معصومة لا تخطئ، فنحن لسنا في عالم اليوتوبيا، ضف عليه أنّنا في بلد قلّ قرينه لجهة تشوّه واقعه ونسبيّة المعيار فيه، بلد استحكمت فيه العصبييات والتحيّزات بحيث يجد المرء نفسه مدفوعاً أحياناً لعرض الواضحات والبديهات وإعادة التذكير بالمسلمات. فأن يغيب عن البعض سيرة حزب الله لعقود أربعة وما قدّمه وحقّقه فيستغرق يفتّش عن سلبية هنا أو هناك لتكبيرها وتوظيفها وأحياناً كثيرة لتخليقها، مثله كمثل من يضع إصبعه في أذنه ويستغشي ثوبه كرهاً وتنكراً للحقائق البينة، وربّما هو دليل إضافي أنّ هذا البعض يريد بناء «دولة» بنقيض ماهيتها، دولة بمقاسه، عندئذ يكون التنوّع والتعدّد المدّعى ليس أكثر من تلوينة يحتاجها أو يريد تنوّعاً بلون واحد لكن بدرجات متفاوتة. إذا أردت أن تبحث عن قيمة استثنائية–مضافة في لبنان والمنطقة خلال العقود الأخيرة، فلا بد أن نعترف أنّ حزب الله وما ضخّه من معنى وبناه من نموذج في البيئتين اللبنانية والعربية يشكل القيمة الأهم التي يمكن إضافتها على البناء اللبناني والعربي وعمارته.
ليس خافياً أنّ دراسة أي ظاهرة اجتماعية تفترض الأخذ بمنهج معيّن، كأن تدرس أفكارها ومعتقداتها أو خطابها (وهو ما يحتاج إلى مساحة عرض مختلفة عن هذه الأوراق) أو أن تستقرئ سيرتها ومواقفها منذ انطلاقتها وتتوقّف عند انجازاتها المفصلية (وإخفاقاتها في ما لو حدثت) وتعاطيها مع كليهما -الإنجاز أو الإخفاق- وتستخلص النتائج على ضوئه، ثم أن تدرس الأفق المأمّل لها، أي أن تستشرف مستقبلها ربطاً بالمؤشرات والأمارات القائمة والمتوقعة.
كون المقال ليس بحثاً علمياً محكماً ولا يتّسع المقام لاستحضار السلوك، سنحاول أن نغلّب التحليل والنتائج، مستبطنين حضور سلوك حزب الله عند القارئ العربي واللبناني عن قرب، وهذا سيسعف المهتمين أن يمسكوا بمفاتيح هذه التجربة الجديدة والفريدة في الساحة اللبنانية بل والعربية:

في النتائج المرتبطة بسلوكه لأربعين عاماً
- لم ينجر حزب الله إلى الصراعات الداخلية. جانب الانخراط فيها أو التصادم مع أي من المكونات الطائفية رغم طبيعة الانقسام حينها وحدّته وسهولة تبريره.
- لم يقف كمنتظر سلبي حيال القيّمين على السلطة ويجلدهم على فشلهم في تقويم التجربة وإعادة إنتاجها على أسس سليمة، هم غير قادرين على ذلك أصلاً، بل بادر لملاقاة عملية الإصلاح والنهوض من بنائها التحتي فحفز المجتمع وشرائح اجتماعية واسعة ووجه قدراتها لملء الفراغ بما يلاقي روح الدستور ويثبّت استقلالية الكيان ويعرّفه. أفضى هذا الفهم إلى أنه أسّس لإنشاء مرجعية وطنية ناظمة افتقدها لبنان منذ نشأته ولم يهتد إليها الدستور اللبناني. إنّ النظر إلى الدولة كـ«مؤسسة المؤسسات» هي تالية لوجود الوطن والشعور بالانتماء «الواعي»، والأخير مفقود عند مختلف المكونات، فكيف ستُبنى المؤسسات وعلى أية أرض؟! بالنسبة إليه، إذا كان الدستور عادة ما يعبّر عن توازنات كما ينظر إليه البعض فإنّ قيامة الدولة تحتاج إلى شيء سابق، إلى قيم ومثال أعلى ونموذج يعلي من قيمة الوطن وينبّه لسمو كينونته بنظر مواطنيه، وهذا كان أحد نواتج فعل المقاومة العميق وربما غير المتطور.
- نظر حزب الله ونظّر أنّ بيئته، بشكل خاص، وعموم الشعب اللبناني، يفترض أن ينتقل إلى الفعل والمبادرة وصناعة التاريخ وليس أن يستغرق في التلقّي والانفعال. وهو يرى ويؤمن أنّ الشعب ليس طرفاً في المعادلة بل هو مصدر السلطات في لبنان. حينما تكون في دولة ضعيفة منهكة كلبنان فالشعب أمام خيارين، إمّا أن تُمعن مكوناته وأحزابه في إضعافه أو أن تضع يداً للنهوض والدفع لخلق وجهة وتقديم النموذج للتنافس.
- خالف الاتجاه العام الذي حكم الأداء اللبناني، لم يستسغ المسارعة إلى المغانم في بلد رآه مفكّكاً يحتضر، استبدل ذلك بأن لجأ لإعادة إنتاج الفكرة الوطنية والقيم المتعلقة بها من خلال منهج «المقاومة». فإن لم يكن هناك قيمة عليا لا يمكن بناء الاجتماع، فأعلى بمقاومته من قيمة الكينونة الوطنية ومعناها.
- لم يُغر حزب الله تظاهر القوى الداخلية على بعضهم البعض والتي كثيراً ما كانت على حساب الكيان، بل فكّر في الكيان ككيان رغم تحفظاته على نظامه السياسي والطبقة الحاكمة، فالانغماس الإضافي في بلد قلق ويعيش الهواجس لن يقدّم شيئاً بل سيفاقم الأزمات كما رأى، خصوصاً حين يربو عدد المتنافسين الداخليين على قدرة الدولة «الشركة» للتوظيف فيها أو لتوظيفها.
- لم تسعف ذاكرة خصومه الحيّة أن استدلّوا ولو على اعتداء أو إساءة جرت من حزب الله أو من جمهوره المؤيّد على أي من مقدسات الآخرين حتى في ذروة الانقسام اللبناني (المسلم–مسيحي) والحرب الأهلية، ولم يسمع أحد في لبنان أنّه قام بما قامت به قوى لبنانية أخرى من صنوف تعذيب منافية لأدنى معاير الأخلاق والإنسانية أو تجارب «الخوات» التي استغرقت فيها غالبية القوى.
- لم يغره خطاب التقسيم والفدرلة رغم ما بدا عليه من مصلحة خصوصاً لحزب نما في بيئة مضطهدة تاريخياً، بيئة افتقدت للدولة وحضورها وأبسط أنواع الرعاية، بيئة نشأت على نوع من الشعور بالخذلان والتشكيك بدور الدولة حيالها، لتعود وتتحول إلى بيئة مؤمنة ومتعلقة بلبنان وفادية له.
- بالغ في المحافظة على استقلالية قراره السياسي والجهادي منذ نشأته عن الأقربين والأبعدين ودفع أثماناً كبيرة ومعلومة عند اللبنانيين من أجل ذلك.
- لم تأخذه نشوة القوّة والانتصارات غير المسبوقة في تاريخ العرب إلى تجاوز هواجس الآخرين، بل أصرّ كغيره، إن لم نقل أكثر، على التزام مضمون التنوّع وأهمية حماية هذه الميزة كأصل في كينونة لبنان. تراه لم يتجاوز التنوّع في الحالتين عملاً بالمأثور أنّ في تقلب الأحوال علم جواهر الرجال: حين كان ضعيفاً وبعدما بلغت قوته ما بلغت، فلم يتغّير خطابه في المرحلتين، بما يؤكد أنّ خطابه بنيوي وليس تكتياً مصلحياً تغلّبياً، فالتنوّع بالنسبة إليه ليس شعاراً يستخدمه القوي حتّى إذا ما تراجع بدأ باستهداف أصول التنوّع ورفض قيم الآخر ومزاياه. التنوّع ليس كلاشيه لتلوينة تقوم على اللون الواحد بدرجات متفاوتة بل هو القبول بتلاوين متعدّدة متنافسة لرسم المشهد اللبناني وإصباغ الجمالية عليه والدفع والتقدم. بالنسبة إليه، لبنان مكانة ودور وقيمة ورسالة وليس تعداداً أو بازاراً أو متجراً أو مجتمعاً أجوفاً مقلِداً، وربّما أمكن القول أنّ نجاح لبنان في ما فشل فيه العرب في صراعهم مع العدو الصهيوني أكد حقيقة خصوصية وتميّز هذا البلد واستعداداته العالية ليكون نموذجاً رائداً وقائداً مولّداً للأفكار والقيم يوماً ما للبيئة العربية وبرهن على صحة منطقه ونظرته لقوة لبنان وحقيقته بين العرب. ولا يُنكر حزب االه أنّ هناك انتقاداً كبيراً عليه وملامة لإصراره على الديموقراطية التوافقية رغم ما يعتريها من سلبيات.
- ساهم في إعادة تعريف الصراع وموضوعه بعيداً عن «الشرق والغرب»، فانتقل به من «ثنوية تخطي الجغرافيا أو تقسيمها» إلى بت مسألة النهائية كثابتة. وتقدّم بكل ثقة لطرح الحوار حول «ما هو تعريف الأمن القومي للبنان، وما هي مسؤولية الدولة والمجتمع والمكونات حيالها» وهو ما لم تجرؤ عليه غالبية الطبقة السياسية التي كانت تعتبر لبنان كياناً تحمى سيادته ويحفظ بالاستجداء والتوسّل والوقوف على رغبات الخارج والعيش تحت رحمة تقلباته.
- رفض نظرية تبرير الضعف والتبعية والانحياز الصامت للغرب لصالح نظرية قوة لبنان في قوته واستقلال قراره وتكافؤ وندية علاقاته، ومارس بالمقابل نموذجاً مثالياً لتحسين استفادة الأطراف من علاقاتهم لصالح لبنان.
- لم يقبل حزب الله بمقولة الحياد ولم ير فيها مبرراً لا فلسفياً ولا أخلاقياً ولا دينياً ولا وطنياً ولا مصلحياً حتى، فليس في قاموس بناء الدول ولا يوجد في عالم اليوم ولم يعد موجوداً شيء اسمه الحياد (حتّى نموذج سويسرا انتهى). ترانا نتساءل: هل مرّ في التاريخ أنّ هناك كياناً بجنبه عدو سرطاني توسعي عنصري مغتصب لأرض ومهجر لشعب يمكنه أن يطالب بالحياد؟! كيف والحال أنّ هذا الكيان الصهيوني محمي من الغرب الذي نستنجد به ومحل رهانهم وأداة إنفاذ له، فهل يمكن أن يدرك الحق بالباطل، والنصر بالجور، لذلك هو يسأل الحياد ممّن وكيف؟! ناهيك أنّ الحياد بلحاظ قضية إنسانية محورية وقيم وقدسيات هو إنهاء لحيويات المجتمع والإنسان وحرية إرادته إلا إذا كان المقصود وضع المجتمع والفرد بقوالب وأطر وإعدام مسار الديموقراطية والتحولات التي تصيب المجتمعات نتيجة عوامل عدّة. وليس آخراً، فإن حزب الله لا يرى لبنان بلداً ضعيفاً كي يسعى في حياد وهروب، بل يراه مفعماً بالامكانيات والقدرات والبشائر وهو ما أكدّته تجربة حزب الله نفسها ونجاحاته التي عجزت عنها الحكومات العربية مجتمعة لعقود.
- حرص هذا الحزب وجمهوره على السلم الأهلي والاستقرار رغم ما أحاط به من دوائر وأصيب به من طعنات ومحاولات استفزاز لا تطاق. لم يتعاط بانفعال رغم عظيم التحديات وكثرتها، بل دوماً أعاد إنتاج الظرف بعقلية الفعل بدل الإنفعال. فحتّى اجتياح العدو عام 82 نقله حزب الله إلى فرصة في سياق إعادة انتاج الفعل في الأمة بدل الإنفعال.
- في حدود علاقاته العربية حافظ على علاقات مستقرة وثابته وتضامنية مع كل الشعوب العربية وناصر قضاياها المحقّة بالكلمة والموقف والمساندة إذا أمكن، ولا يمكن الحديث عن أزمة علاقة حتى مع الأنظمة إذ استمرّ بعدم تظهير خلافاته معها أو التفاهم على الحد الأدنى. نموذج نظام حسني مبارك في مصر وأنظمة الخليج كالسعودية، ويمكن القول أنّ بعض هذه العلاقة دخل مرحلة من النزاع والتصعيد منذ 2006، بشكل خاص حين اكتشف حزب الله بالمعطيات أنّ بعض الأنظمة العربية كانت مساندة وداعمة للعدوان على لبنان لاستئصال شأفته، بل ذهبت أحياناً أكثر ممّا ذهب العدو نفسه. ولا ينكر حزب الله أنّ أحداث ما بعد 2011 ومطالبات التغيير التي انفع أو دُفعت إليها مجتمعاتنا تركت ندوباً في علاقاته العربية. إن تباين الرؤى والتشخيصات، خصوصاً مع غياب أي ناظم أو تصوّر لبناني علمي قدّمته الدولة للتحولات الجارية في الإقليم والموقف منها. وكان ولا زال حزب الله يجري تقييمات دقيقة لكيفية تقويم وإصلاح ما تأذى من علاقاته في عالمنا العربي، فهذا الأمر أولوية أخلاقية ودينية وسياسية بالنسبة إليه، إنما أن التجربة لناحية بما حملته من فتن وإدعاءات لا تثني حزب الله عن المطالبة بالضرورة لإعادة تعريف العروبة بدل التنازع على تمثيلها ومن يمثل قيمها.
- لم يقطع حزب الله مع الأنظمة الغربية الأوروبية بالذات رغم خصومته العميقة معها، تعاطى ببراغماتية عالية مراعياً خصوصية بعض الفئات اللبنانية وعلاقتهم الثقافية والتاريخية حين لم يراعوا خصوصية علاقته الثقافية والتاريخية والدينية مع الجمهورية الإسلامية في إيران. وتراه إلى اليوم لم يجيّر إمكاناته لابتزاز الغرب الأوروبي بمسألة النزوح السوري كما فعلت تركيا مثلاً، ولم يرفض الوساطات الفرنسية ولا حتّى الدور الفرنسي في المسألة اللبنانية رغم ما عاناه من فرنسا حليفة الكيان العنصري الصهيوني ودورها السلبي والعدائي في الأزمة السورية حين دعمت الأخيرة الإرهاب وراهنت على إسقاط حليف حزب الله في سوريا.
- لم يرَ في فائض قوّته حالة طبيعية بالنظر إلى الكيان اللبناني، فهو يميّز بين التحدّي والسياق الذي أوصل الأمور إلى امتلاكه هذا الفائض الهائل من القوّة، لذلك هو ما انفّك يبادر ويطالب أن يبحث موضوع الأمن القومي للبنان، وما من شأنه ضمان أمنه وأمانه من خلال عطف نقاط القوة وتوليفها في استراتيجية دفاعية خاصة تشبه هذا البلد واحتياجاته دونما اسقاطات خارجية أو تمثّلات.
- ربّما انتقده البعض في أدائه الداخلي لجهة حدود انخراطه وتدخله. مؤخراً همّ حزب الله لإعادة نظرية مقاربة حضوره في الدولة بعد مراجعة شاملة أجراها.
- ينتقده البعض على حادثة 7 أيار باعتبارها تنفي ما ادعيناه في سردنا الطويل، لكن يبقى لحزب الله ما يبّرره وما قاله ويقوله، ومع ذلك هو لا يفتأ يؤكّد أنّ هذه الحادثة، بما حملته، ليست إلّا عارضاً لا يفترض البناء عليه وتوظيفها في استعراض التجربة. هذه الحادثة من وجهة نظره هي نتيجة مسار صبر عليه لسنوات ولم ينجر إلى مواجهته، إلى أن ذهب القوم في 5 أيار مذهباً آخر بقرار خارجي اعترفوا هم به، فاعتبر حزب الله أنّ هناك حاجة لفعل يقي لبنان ما هو أسوء وما خطّط له الخارج بأداة الداخل. بطبيعة الحال سيبقى هذا الجرح موجوداً وملاباساته عند البعض قائمة لكنّ حزب الله طوى هذه الصفحة، وسعى ويسعى لمعالجة مخلفاتها.

في الإنجازات الكلية
- لم يهزم في معركة منذ انطلاقته، صغيرة كانت أم كبيرة، جولة كانت أم حرب، ولقد حقّق انتصاراته في الزمن الأميركي وليس في زمن القطبين. وهنا عنوان الفرادة والتعّجب. ومعه بدأ يختل مسار الميزان لأوّل مرّة منذ زمن الرئيس جمال عبدالناصر لصالح خطاب المقاومة وكفاءته.
- هو أوّل حالة لادولتية تصل لمرتبة تهديد وجودي لإسرائيل وتؤمّن ردعاً موثوقاً للبنان منذ نشأة الأخير.
- أعطى أملاً جديداً للأمّة ونبّه لمحورية «الثقة بالنفس» وبرهن بالملموس على قدرة الثقة على تخليق خيار آخر، خيار ممكن وناجح. بمعنى آخر إن حزب الله وسّع خيارات المجتمعات العربية والإسلامية واستعداداتها، وهذا الأمر هو عين التحرّر وركيزته الأولى وبداية تحرّي الخروج من التبعية. فأن يتحقّق التقدّم في الحرية الفردية أمر مطلوب وجيّد، لكنّ الأخطر والتحدّي الأكبر هو أن يتحقّق تحرّر المجتمع.
- ساهم مساهمة كبيرة في إعادة الزخم إلى القضية الفلسطينية ومحوريتها في الوعي العربي والإسلامي بعد تراجعها عن أجندة الحكومات العربية، وحتى عن بعض النخب «العربية».
- يشكّل اليوم قطباً لغالبية الجماعات المظلومة في الإقليم، وأوسع، تلك التي ترى تظلّماً عليها من قوى الاستكبار. تراها تتطلع إلى تجربته وفكرته والعقل الذي نقله من التهميش إلى اللاعب الإقليمي (والمؤثر الدولي، بعد حين - في المستقبل).
- قدّم نموذجاً أخلاقياً وإنسانياً راقياً من خلال مقاومته، وفي التعاطي مع انتصاراته ولم يوظّفها ويجيّرها لحسابه، بل أهداها لكل لبنان ولكل اللبنانيين إلا من كان منهم لا يحب النصر ولا يتذوّق طعمه فستكون المشكلة في المقابل.
- أعاد مسألة الدين إلى الساحة بفهم وإدراك ومنهج مختلف بعد أن تردّدت الأفهام الدينية بين سطحية ووظائفية وانفعالية آذت جدارة الدين وحيويته وقدرته على الاستجابة. فصار للجهاد رونق خاص يُضاف إلى النضال، وللثورية نكهتها الخاصة بجنب العقلانية، وللرسالية مكانتها بدل الانتقام، وللفعل بدل الانفعال، وللتخطيط والصبر والتصميم بدل التواكل والانتظار.
- حوّل انتصاراته من عسكرية إلى أنظومة قيمية وخطاب ونموذج، وهذا ما جعلها تعبر، فالحاجة تعبر دون استئذان، ثمّ إنّه هل يعقل أن يعبر رأس المال ويمنع عبور الأفكار والقيم والنماذج. لذلك يرى حزب الله أنّ قوته في حجيته وليس في عدد صواريخه وعدّته رغم أهميتها وضرورتها، فالمسألة بالنسبة إليه ليست سلاحاً تمتلكه مهما عظم، فغيره امتلك أكثر منه عدّة وعديداً ودعماً خارجياً ولم يحقّق أي من الأهداف طوال عقود، لا بل إنّ بعضهم انحرف عن أهدافه.
- يسجّل له القدرة على التركيز الاستراتيجي وعدم التشتيت، علماً أنّ مسألة التركيز والتشتيت تعاني منها القوى الكبرى فضلاً عن الصغرى في عالمنا المتحوّل فلم تغره أو تضعفه العروض السخية أو التهديدات.
- لم يمارس الكذب على امتداد حياته السياسية مع صديق أو عدوّ بل دوماً كان شفافاً وصادقاً ومسؤولاً وقدّم تجربة جديدة في علاقته مع حلفائه رغم فارق القدرة لصالحه، لكنّه تعاطى باحترام وندية وتساوٍ ولم يفرض رأيه واحترم اللعبة الديموقراطية بخصائصها. هذا لا يعني أنّه ليس حزباً محنّكاً ولم يمارس فنون اللعبة السياسية بامتياز. فالكل يقر له بذلك، لكنه يعتقد أنّ من «يتجاوز الصدق يضيق مذهبه».
- تميّز بحيوية شبابية فائقة في بنيته، فمن يقترب أكثر من حزب الله يعرف أنّ جلّ من أنجزوا هذه الإنجازات هم جيل شباب مفعمين بالحيوية ويتطلعون بأمل كبير إلى الأربعين عاماً المقبلات ولدور تاريخي ينتظرهم.
- تميّز بتماهيه مع بيئته لدرجة أنّه يصعب أن ترى حزباً أو حركة لديها هذا الكم والنوع من المشاركة والتفاعل مع جمهورها في الأفكار والقضايا والمشروع، ولا أبالغ في القول أنّ مستوى الوعي في بيئته هو أحد أسرار انجازاته ونجاحاته الكبرى، قلّما تجد بيئة تتلاقى فيها أهداف القيادة بأهداف الجمهور بهذا المستوى والحجم والسعة.

حزب الله واحتمالات المستقبل
ترتبط فرصه للمستقبل بإرادته وباستشراف طبيعة المرحلة المقبلة والعناوين المحركة للسياسة الإقليمية والدولية فيها ومساراتها. إنّ المشهد الدولي دخل تحولات وفرزاً جديداً بإجماع المتابعين، ويُنتظر أن ينشأ من رحمه اتجاهات سياسية كبرى منها ما يعادي الولايات المتّحدة الأميركية وهيمنتها، بينما سيكون هناك اتجاه آخر يتعنون تحت «بداية تمايز حلفاء أميركا عن أميركا» لا معاداة هيمنتها، فلا يُجاري أميركا بكل ما تريد إنّما وفقاً لمصلحته ورؤيته، والمعضلة الأكبر ستكون تلك المتوّلدة من الاتجاه الثالث الذي سيتمظهر على شكل انزياحات اجتماعية سياسية نحو القومية واليمين الشعبوي في أوروبا، وفشل الأنظمة االليبرالية في الاستجابة للتحديات التي تهدّد الغرب وليس آخرها تعاطيهم مع الحرب في أوكرانيا.
إنّ هذه التحولات الكبرى ستعيد رسم المشهد والخريطة الدولية من جديد، والتوازنات وحدود نفوذ الأقطاب ضمن مسار معالمه تتظهّر تدريجياً في المنطقة والعالم، وسيضع أميركا بمواجهة أكثر من نصف البشرية، بل سيضعها بمواجهة أكثر من نصف شعبها أيضاً.
- دولياً وإقليمياً: ستكون نتائج حرب أوكرانيا المسمار الأخير في نعش نظام الآحادية وهذا سيصب في مصلحة حزب الله ومحور المقاومة. وستعطي حاجة الغرب للطاقة من المتوسط فرصة كبيرة لنفوذ حزب الله وتأثيره في المعادلة المافوق إقليمية، كما أنّ عودة الأميركي إلى خطة العمل الشاملة ستقوي محور المقاومة كقطب أوّل في المنطقة وهذا سيدعم موقف حزب الله وحلفائه السياسي ويعطيه هامشاً واسعاً للحركة وتقديم العروض وسيتقوّى منطقه ومحاججته: لماذا يحق للسعودية والإمارات ومصر وفرنسا وألمانيا وغيرهم أن يكون يستفيدوا من إيران ولا يحق للبنان! وسيكون محور المقاومة أمام فرصة اقتصادية بامتلاكه ناصية العلم النووي، فلأوّل مرّة لم يعد حكراً على مجموع القوى التي فرضت شروطها عقب الحرب العالمية الثانية. وهذا يدخلنا إلى مسألة الطاقة النووية واستخداماتها في مجالات البحوث والتنمية المختلفة. ومع إمكانية التفاهم الإقليمي الناتج عن الاتجاهات الدولية الناشئة كما أسلفنا ستخرج سوريا حليفته، ولو بعد حين، من الحصار ويتعزّز نفوذ خصوم أميركا في روسيا أكثر.
- القضية الفلسطينية وتطوراتها المتسارعة والمتصاعدة، تؤكد أنّ حل الدولتين قد انتهى عملياً وأنّ قوى المقاومة يزداد ردعها بموثوقية، فما حصل مع «الجهاد الإسلامي» مؤخراً في معركة «وحدة الساحات»، ومن قبلها في «سيف القدس»، عبّر عن قدرة وجاهزية لمواجهة الكيان الصهيوني وإلحاق الهزائم به باستغلال نقاط ضعفه لا سيما مناعته الداخلية وتراجع الثقة الداخلية بـ«دولته» ومؤسساته. ما يفيد بأنّ إسرائيل ستكون مستقبلاً عاجزة عن تحقيق أي انتصار، وهذا سيعزّز من موقف وموقع حزب الله في المعادلات. خصوصاً أنّ حزب الله لا يرى في مسار التطبيع (ابراهام) فرصة نجاح فعلية فهذا المسار لا يقوم على مقومات متينة.
- سيستفيد حزب الله من تجربة الحصار الأميركي والثغرات التي تعتري الواقع اللبناني ليعيد استدراك ما أمكن مع بيئته وبلده، لذلك سيتطلع بجد وتصميم أكبر مستفيداً من الفرصة الكبرى والتاريخية لانتاج إمكانية معتد بها لإنقاذ لبنان اقتصادياً وتحريره من خلال تنويع خياراته الاقتصادية. فمن نافل القول إنّ حزب الله اليوم مسلّط على شريان النفط لدول شاطىء المتوسط من بحر اليونان حتى حدود قناة السويس. ومع توقّعه لتراجع النفوذ الأميركي النسبي في المنطقة على أثر ضعف التركيز وتبدل الأولويات الاستراتيجية وتقدم منافسين إقليميين ودوليين سيحتّم ذلك زيادة نفوذ قوى المقاومة في الإقليم لأنّ بنية العلاقة ستقوي من موقعهم وهذا سيتيح لهم مزيداً من الفاعلية السياسية، ويعطي لبنان فرصاً من بوابة حزب الله.
- ولن يألو جهداً في تعزيز مؤسسات الدولة ومواجهة الفساد من خلال الأطر التي ضمنها الدستور وسيكون منفتحاً ومتعاوناً بعيداً عن الكيديات لتدعيم أي تلاق بين المكونات المؤمنة بالكيان ومكانته ولأي إجماع وتفاهم لتطوير الدستور والتجربة اللبنانية، وعنده ما يقوله في ذلك.
ليس آخراً، هو عازم على تدعيم بيئته (وبالتبع بيئة حلفائه) اجتماعياً واقتصادياً من خلال سلسلة أعمال تتوسّع باضطراد ترتكز على تطوير قدرة المجتمع للنهوض الذاتي وتمكنه من تلافي وطأة أي أزمة اقتصادية وايجاد بيئة لاقتصاد مقاوم.
في المستقبل القريب ربّما، أو المتوّسط، سنكون إزاء تجربة مقاومة لا تشكّل حاجة عسكرية وسياسية واستراتيجية لمجتمعها والعرب فحسب بل أيضاً حاجة تحرّر اقتصادي ونماء.

* باحث لبناني