لا تخرج معركة رئاسة الجمهورية التي تبدأ انطلاقتها الدستورية مطلع أيلول المقبل، عن السياق العام لمجريات الصراع الدائر بشأن الأزمة التي ضربت اللبنانيين منذ حوالي 3 سنوات وتستمر، طاحنة ضارية مؤذية، حتى نهايات قد تكون في غاية الخطورة على مصير البلد وشعبه. يشدّد الفريق الذي تُوجّه مواقفَه واشنطن، وهو فريق «روحي» ومدني، حزبي وغير حزبي، جديد وقديم، على «مواصفات» الرئيس العتيد. وهي مواصفات سياسية تتصل بالصراع الإقليمي قبل الداخلي («الحياد الناشط» للبطريرك الراعي ونموذجه زيارات المطران موسى الحاج للكيان الصهيوني). وتركّز على نتائج الأزمة لا على أسبابها، ومسؤوليات الأفراد لا على أسبقية وفداحة الخلل القائم في صلب النظام السياسي اللبناني. في هذا الشأن، يختصر قائد ميليشيات القوات اللبنانية الأمر بضرورة انتخاب رئيس نقيض للرئيس ميشال عون: تحديداً في موقفه المتعاون مع حزب الله. تتطابق مواصفات الرئيس المطلوب مع مواصفات «الحكيم» نفسه بوصفه الأقوى والأقدر والأوضح: الدليل كمين الطيونة! لم يقل هذا، بعد، علناً. هو يقوله في كل المناسبات واللقاءات مع حلفائه في الداخل ورعاته في الخارج. فرع ثالث من الفريق «السيادي» يمثّله تجمّع «الكتائب»، أشرف ريفي، ميشال معوض، نعمة فرام... وبعض النواب الجدد. هو، تقريباً، يتبنى نفس الشعار والهدف الذي يسعى إليه جعجع، لكنه ينافس على «الأنسب» لجهة الاستقطاب والأصوات والعلاقات... ولا يخرج آخرون مترددون عن هذا المناخ إلا بالتركيز على ضرورة تلبية «إصلاحات» صندوق النقد الدولي وشروطه التي أوضح مديرو الصندوق المذكور، بوقاحة، أنها شروط سياسية لجهة «الجدوى». واشنطن، بالنتيجة، هي صاحبة القرار بالمنح والمنع. من المتوقع، في هذا السياق، أن تتكثف الجهود الخارجية (واشنطن والرياض خصوصاً) والداخلية، من أجل توحيد الموقف والمرشح وخوض معركة كسب المعركة، أو على الأقل منع الخصم من تكرار تجربة انتخاب رئيس المجلس ونائبه. على المقلب الآخر، تبدو معركة رئاسة الجمهورية أكثر تعقيداً، بما لا يُقاس، من معركة رئاسة المجلس. ههنا ثمّة معركة مريرة وضارية قائمة بذاتها بين مرشّحَين (فرنجية وباسيل)، ليس من السهل أبداً التوفيق بينهما: في صفقة أو تسوية، هذا فضلاً عن التباسات أخرى في مواقع مؤثرة كموقع رئيس مجلس النواب وحساباته الخاصة أو العامة. هذا الفريق، أيضاً، محكوم برد فعل على الأولويات التي فرضتها الخطة الأميركية في لبنان. بعض أطرافه، في واقع الأمر، لا يبدو مستاءً كثيراً طالما أن تلك الأولويات تُبعد الأنظار عن المسؤوليات الداخلية عن الانهيار والفساد والنهب، والتي هي مسؤوليات أساسية تتحمّلها المنظومة والنظام بالتكافل والتكامل.
بين هؤلاء وأولئك، يقف في الوسط «اللقاء الديموقراطي» بقيادة رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، باحثاً عن مكاسب استثنائية، مستغلاً توازناً دقيقاً، يستطيع هو أن يجعل أحد طرفيه راجحاً وفق الشروط التي يراها «الاشتراكي» أكثر تلبية لمواقفه ومصالحه. و«الاشتراكي»، بالتأكيد، لا ينطلق، هنا، هو الآخر، من هاجس إصلاحي افتقده منذ استشهاد مؤسسه القائد الوطني الكبير كمال جنبلاط عام 1977.
لا شك أن الصراع الإقليمي في غاية الأهمية والخطورة. الموقف من مقتضياته ذو أولوية دائمة خصوصاً في الحقبات العادية. لكن الوضع اللبناني شكَّل، منذ ثلاث سنوات، استثناءً بسبب الأزمة الهائلة التي عصفت به. وهي أزمة غير مسبوقة لجهة نهب السكان وإفقارهم بالجملة. وكذلك لجهة استمرار المسؤول عن الأزمة في موقعه ممسكاً بزمام السلطة، رغم هول ما حدث. ثم، ثالثاً، لجهة مراوحة السلطة في نفس السياسات والخيارات والعلاقات التي فاقمت الأزمة وصولاً إلى الخراب والانهيار الكاملين. والأسوأ فوق كل ذلك، أيضاً، مبادرة ومسارعة قوى خارجية تتزعمها وتقودها واشنطن، للاستثمار في هذه الأزمة، مما أدّى، بشكل مباشر، إلى تعميقها ودفعها إلى مستوى الاستعصاء الكارثي الذي عرّض وسيعرّض لبنان واللبنانيين لأسوأ الخسائر والمخاطر.
طبعاً، ينبغي التأكيد أن الصراع الإقليمي والصراع الداخلي هما على تفاعل وتداخل كبيرين. لكن إغفال السبب المحلي الأساسي للأزمة هو أحد العوامل الرئيسية في حصولها ثم في تماديها وفي الانسداد والاستعصاء القاتلين اللذين تدفع أثمانهما المدمِّرة الأكثرية الساحقة من اللبنانيين. إلى ذلك، فإن التركيز على المقاومة وسلاحها ومسؤوليتها، هو أمر ليس خاطئاً فقط، بل هو مكرَّس لخدمة العدو الصهيوني ولحماته، وللمطبعين القدماء والجدد. هذا فضلاً عن أنه يصرف الأنظار عن المسؤول الحقيقي الداخلي، أشخاصاً وسلطة ونظاماً، والخارجي ممّن زرع بذور الأزمة وغذاها ورعاها «لغاية في نفس يعقوب» وحماته في واشنطن.
وفق اللوحة الراهنة وما سبقها لا يتحدّث، إذاً، أحد عن مسؤولية السلطة ونظامها. يغمز بعضهم، مراوحاً في المحاصصة نفسها، من أمر «المثالثة» الطائفية–المذهبية في كل حديث عن التغيير وإعادة التأسيس. الحديث عن مسؤولة النظام السياسي هو من المحرمات بالنسبة للجميع. يصادف، مرة جديدة، أنه يمثّل، الآن، أمام اللبنانيين، في ذروة مأساتهم الممتدة، النموذج العراقي المستنسخ، أميركياً وطائفياً، عن «المعجزة اللبنانية». هناك أيضاً أزمة حكم ونظام وتعطيل وعجز وفشل، بسبب نظام المحاصصة الطائفية والمذهبية والإثنية، ما سمح، في وقت قياسي، ومن دون مقاومة تذكر، باجتياح بلاد الرافدين من قبل إرهابيي «داعش»، وبهزيمة الجيش الذي دربته واشنطن ويضم مئات آلاف الجنود والضباط.
لا يفوتنا التكرار، مرة جديدة، بأن التيار التغييري الوطني، العريق في النضال من أجل التحرر الشامل، يواصل غيابه شبه الكامل عن المشهد السياسي. يشجّع ذلك طبعاً على تمادي المرتكب وتعقد الأزمة وتجذُّر الخلل، وكأنه قدر لا راد له، وليس نظاماً ومنظومة قررهما المستعمر وتواطأ معهما أصحاب مصلحة وفئويون وغافلون.
ماذا ننتظر بعد لكي نوجّه ما يكفي الأنظار والأضواء، إلى الخلل في نظامنا السياسي. كم من الخسائر بعد سننتظر ونكابد، حتى ندرك أن العلاج يبدأ من تحرير نظامنا من المحاصصة والتقاسم ومعهما النهب في الداخل والتبعية في الخارج؟ من هنا نبدأ!

* كاتب وسياسي لبناني