هناك حالة نجاح خاصة لحزب الله في تاريخ حركات التحرر الوطني ولا سيما على المستوى الإقليمي. يتجلّى نجاحه في كفاءته العسكرية البارزة في مواجهة كيان العدوّ الإسرائيلي تحريراً وردعاً، وفي تأثيراته الإقليمية الناعمة والصلبة، وفي قدرته على التكيّف السياسي داخل النظام اللبناني. لهذا النجاح أسبابه وظروفه، الذاتية والموضوعية، التي يضيف إليها الحزب عوامل غيبية وإيمانية (التسديد والموفّقية الإلهيين) ترتبط بهويّته الدينية. والحديث عن نجاح النموذج في مسيره التاريخي لا يعني خُلوّه من مواضع الإشكال والضعف والإخفاق، وهذه حال كل فاعل سياسي من أعظم الإمبراطوريات إلى أصغر المجموعات السياسية. حزب الله هو منظمة صغيرة منخرطة في قتال إسرائيل كياناً ومشروعاً إقليمياً ذا سند دولي مفتوح، لذلك كان يلزمه مقدرات مادية ومالية، وكوادر بشرية، وبيئة حاضنة، وبنية لوجستية، وقيادة ديناميكية وكارزماتية وعمق استراتيجي جغرافي وسياسي (وطني وما فوق وطني). فكيف حقّق حزب الله ذلك؟
(أرشيف - مروان طحطح)

إن أبعاد هذا النجاح وظروفه التاريخية متداخلة ولكن كان لا بدّ من فرزها وتفكيكها بما يسهّل التعامل معها. كما أن التركيز على عناصر النجاح والفرادة لا يلغي أن هذه العناصر تشهد عقبات وتحدّيات وتبدّلات ينبغي الاشتباك معها. تسهم الإضاءة على هذه العناصر في تعزيز فهمنا لأهمّيتها ودورها في مسيرة الحزب بما يشجّع على التفاعل معها إصلاحاً وتصويباً وعناية، ولذا لم يكن عرضها من باب الاستكانة أو الزهو.
1- تراكم تجارب جيل المؤسّسين: إن الرعيل الأول لحزب الله بنى خبرات وتجارب في حركات سياسية وعسكرية لبنانية وفلسطينية، وذلك في أوقات عصيبة من الحرب الأهلية ومواجهة العدو الإسرائيلي. لقد عايشوا تحديات وإشكالات وإخفاقات عزّزت من رغبتهم وحاجتهم للعمل بطريقة مختلفة وأتاحت لهم موارد ومهارات ضرورية وشبكات من العلاقات الشخصية المؤثّرة. إن عدداً من كوادر الرعيل الأول مروا بتجارب غنية في أحزاب كبيرة مثل حركة أمل وحركات إسلامية محلّية وأطر علمائية ومسجدية وعدد قليل منهم مرّ بتجارب قوى مقاومة غير إسلامية (حركة فتح). وقد عاصر هذا الرعيل الأفكار الشيوعية والقومية وتجادل معها وردّ عليها وتنافس معها على جمهور واحد غالباً. وعانى هذا الجيل خيبات هزيمة المشروع الناصري واختطاف الإمام موسى الصدر واغتيال السيد محمد باقر الصدر في العراق والعمليات العدوانية الإسرائيلية المتكررة وإخراج منظمة التحرير الفلسطينية من الأردن ثم لبنان، وهذا كله استثار جيل المؤسسين لمحاولة التفكير بطريقة مغايرة. مثلاً، من الناحية العسكرية أسهمت التجارب المتراكمة لكوادر الجيل الأول في تخطيط وتنفيذ أخطر العمليات العسكرية والأمنية خلال الثمانينيات والتي أقامت أساساً صلباً لأسطورة الحزب.
2- استلهام الثورة الإسلامية والتكامل معها. لقد مثّل انتصار الثورة في إيران تحوّلاً واسعاً في العالم الإسلامي عموماً، ولدى الشيعة خصوصاً، إذ وجدوا فيها فرصة تاريخية للخروج من حالة الاستضعاف. كان الشيعة اللبنانيون السبّاقين في التشبيك مع الثورة المنتصرة وبخاصة أن كوادر منهم قد بنوا علاقات شخصية متينة مع كوادر إيرانية معارضة لنظام الشاه وقدّموا لهم العون انطلاقاً من بيروت، فضلاً عن العلاقات الدينية مع شخصيات إيرانية بفعل التواصل الحَوزوي في النجف وقُم. وهكذا انهمرت ثمار الثورة الإسلامية سريعاً في لبنان وكان من أبرزها مجيء مجموعات التدريب التي أرسلها حرس الثورة الإسلامية بأمر من الإمام الخميني إلى البقاع عبر سوريا إثر الاجتياح الإسرائيلي عام 1982. احتاجت هذه المقاومة للاستمرار والنمو إلى أطر تنظيمية أصبحت تتشكّل بالتدرج حتى ظهرت بنية حزب الله.
إن وجود هذا السند الإقليمي للمقاومة لا غنى عنه في ظل اختلال ميزان القوى، فقد أتاح الدعم السياسي الإقليمي الإيراني والموارد المادية الإيرانية (التسليح والتدريب والمال) لحزب الله طوال العقود السابقة أن يركّز على الصراع مع العدو الإسرائيلي من دون أن يحتاج للانشغال الدائم في تأمين الدعم أو البحث عن تسويات مع قوى إقليمية سعياً للحماية. وقد عمل الرابط الديني/ الأيديولوجي بين الحزب والوليّ الفقيه على تنظيم علاقة الحزب مع إيران وتيسير التفاهم بينهما وجعل الأخيرة تنظر إلى الحزب من عدة مناظير في آن واحد هي الثورة الإسلامية المعادية لمنظومة الهيمنة الأميركية في المجال الإسلامي (بالتحديد المقاومة في لبنان وفلسطين) والأمن القومي الإيراني وحفظ التشيّع.
3- تأكيد الإطار التاريخي المقاوِم للشيعة اللبنانيين. أعاد حزب الله قراءة وتأكيد وإنتاج تاريخ الشيعة اللبنانيين من زاوية دورهم في مقاومة العثمانيين والفرنسيين والصهاينة. وقد كان لفتوى الإمام الخميني لوفد التسعة (شكّلوا نواة تأسيس حزب الله) بواجب مقاومة الاحتلال الإسرائيلي بالإمكانات المتاحة مهما كانت متواضعة دوراً محورياً في تفعيل مشروع المقاومة باعتباره واجباً شرعياً في المقام الأول.
بذلك أصبح حزب الله وفق هذه السردية النضالية امتداداً طبيعياً واستكمالاً وتزخيماً لتجارب الثوار الشيعة في بداية القرن العشرين ومواقف علمائهم الكبار أمثال السيد عبد الحسين شرف الدين والإمام موسى الصدر، وهي شخصيات ذات حضور عميق في وجدان الطائفة الشيعية ولا سيما الإمام الصدر (مؤسس أفواج المقاومة اللبنانية «أمل») بسبب التقارب الزمني بين تجربته وولادة حزب الله. وبذلك لم يعد الولاء لمشروع المقاومة ولاء للحزب بل لدور الطائفة البطولي مرّة في الدفاع عن وحدة سوريا الطبيعية ومرّة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي منذ بدء عدوانه في فلسطين المحتلة.
4- بثّ القدرة والثقة في طائفة مستضعفة: أسهمت المظالم التاريخية ووقائع التهميش البنيوي بحقّ الشيعة اللبنانيين، لا سيما بعد هزيمة ثورتهم عام 1920 (وكانوا تعرضوا لهزيمة قبلها في النصف الثاني من القرن الثامن عشر في جبل لبنان)، في تعطّشهم لتغيير واقعهم ووجود استعداد ثوري عال كانت تجري تغذيته باسترجاع الممارسات الثورية لأئمة أهل بيت النبي محمد (ص). قدّم حزب الله مشروع المقاومة تحت عنوان مواجهة الاحتلال والهيمنة (التي يتبع لها النظام الطائفي) بما سيؤدي إلى خروج المجتمع من التهميش والاستضعاف (العالم في فكر الحزب مقسوم بين مُستضعَفين ومستكبرين). وما يساعد الحزب في ديمومة هذه الرواية أنها حاضرة بقوة يومياً في خطاب الناس العاديين من أبناء جيل منتصف القرن العشرين. ويستذكر حزب الله هذا التهميش، الذي يعيشه المجتمع واقعاً، مرة بالمباشر كونه مختصاً بالشيعة ومرة كجزء من تهميش المركز للأطراف في الشمال والبقاع والجنوب وهي مناطق تسكنها غالبية إسلامية وهذا الأمر سهّل للحزب التواصل مع فئات وطنية متنوّعة تحت عنوان مواجهة الحرمان والتهميش. وعليه، كان لنجاح حزب الله في المقاومة تأثير مضاعف حيث كان مداواة لكبرياء مهدور على مدى مئتي عام تقريباً.
تدهور النظام السياسي وأقطابه وصولاً إلى خطر تفكك الدولة وضعا الحزب في معضلة تاريخية حيث عليه العمل من خلال النظام نفسه لدرء خطر انهيار الدولة


5- ملء الفراغ في ظل الدولة الفاشلة. أدّت الحرب الأهلية والتسوية الناتجة منها (لم يكن الحزب جزءاً منهما) إلى نشوء دولة ضعيفة مشتتة عاجزة عن القيام بالعديد من مهماتها السيادية والخدماتية وهو ما أتاح للحزب التصدّي لمسؤولية المقاومة والقيام بأعمال اجتماعية ذات طابع إغاثي وتنموي. هذه الدولة لم تكن في مراحل عدة متصالحة مع مشروع المقاومة بل ومعادية أحياناً كما في عهد أمين الجميّل ولاحقاً حكومة السنيورة البتراء، لكنها كانت أوهن من أن تكون قادرة على مواجهتها حتى عندما توافر دعم خارجي لها للقيام بذلك. هذا العجز الدولتي المزمن، بما أنتجه من حرمان وانكشاف للسيادة، عزّز من المشروعية الشعبية للمقاومة وأجبر الحزب على تحمّل مسؤوليات لم تكن من صلب مشروعه، لا سيّما مع تدهور الأوضاع الاقتصادية في السنتين الأخيرتين.
6- الاستفادة من مزايا التشيّع اللبناني الذي اختبر تيّارات قومية ويسارية ووطنية وإسلامية وأنتج عدداً كبيراً من الرموز الفكرية والعلمائية (الشيخ محمد جواد مغنية، والسيد محسن الأمين، والسيد محمد حسين فضل الله، والشيخ محمد مهدي شمس الدين...) واتسم تاريخياً بنزعة معتدلة ناتجة من خصوصيات الواقع اللبناني شديد التنوع والتعقيد وكذلك لاحقاً بسبب موجات الهجرة الكثيرة نحو أفريقيا والغرب. كما شهد الاجتماع الشيعي في العقود الأخيرة ظاهرة النزوح نحو المدن (بيروت وساحل المتن الجنوبي وصور) والاندماج في قطاعات المقاولات والتجارة وهو ما ترك تداعيات على وعيهم الطبقي والسياسي. كان على حزب الله أن يعمل وينمو داخل هذا النمط من التشيّع المركّب ولذلك تقوم علاقته مع البيئة الشيعية العامة على مزيج من ولائها له والمفاوضة في آن، وهو ما يفرض على الحزب التميّز بالمرونة الاجتماعية والاتصال المستهدف لكل حلقة من بيئاته الحاضنة التي لكل منها خصائصه الثقافية والطبقية والمناطقية لدى الشيعة أنفسهم. وقد استقطب الحزب بشكل متدرج عناصر وكوادر من هذه الحلقات انعكس في حيوية تنظيمية داخلية قادرة على فهم تعقيدات المشهد الشيعي والتعامل معه وفهم حساسياته الداخلية المتنوعة.
7- المناورة داخل تعقيدات النظام اللبناني المتأتّية من التداخلات المكثّفة بين طائفيّته وانكشافه للتدخّلات الخارجية ونموذجه الاقتصادي المالي–التجاري شديد التمركز، فرضت على حزب الله أن يحافظ على مسافة أمان من هذا النظام ويتموضع على حافّته الخارجية ولا يقترب منه إلا بمقدار الحاجة لحماية المقاومة من اللاعبين المحليين ذوي الصلات الخارجية مع الولايات المتحدة وحلفائها. ولذا فرض هذا التعقيد على حزب الله أن ينسج علاقات أفقية واسعة في المجال السياسي العام (فكان عليه أن يطوّر فكره السياسي ومبادراته ليبني شبكة تحالفات وطنية عابرة للطوائف) وعلاقات عمودية مقيّدة داخل النظام السياسي. إلا أن تدهور النظام السياسي وأقطابه وصولاً إلى خطر تفكك الدولة وضعا الحزب في معضلة تاريخية حيث عليه العمل من خلال النظام نفسه لدرء خطر انهيار الدولة (وهو هاجس تعاظم في وعي الحزب بعد الخراب الذي حلّ في سوريا والعراق وما رافقه من تفكّك لبنى الدولة) مع التوجّس من أن الخوض في تغيير النظام أو إصلاحه سيدفع إلى حرب أهلية مدعومة خارجياً.
ومنذ البداية كان على حزب الله تحديداً أن يعي التدخلات الخارجية في لبنان وقنواتها وحدودها وأهدافها كونها مثّلت خطراً داهماً عليه. وهكذا كان يمكن لخيارات سياسية محلية للحزب أن تعزز التوتر أو المهادنة مع قوى محلية ودولية. ولم يكن ممكناً للحزب تقدير اتجاه سياسات القوى الخارجية (مثل أميركا والسعودية وفرنسا) في الشأن الداخلي وكيفية التعامل معها بمعزل عن الوضعين الدولي والإقليمي. إذاً طوّر الحزب آليات معقدة لصنع القرار من تجربته النامية في السياسة اللبنانية وهي آليات يمكن له توظيفها في مجالات أخرى مرتبطة بالمقاومة ودورها الإقليمي.
8- التموضع السريع داخل حلبة الصراع السياسي اللبناني المكتظّة بالمنافسين، حيث خرج حزب الله إلى الوجود في ظلّ وجود كثيف لقوى سياسية، مسلّحة وغير مسلّحة، معظمها ذات ارتباط خارجي، وكان عليه أن يوسع نفوذه وتأثيره داخل كل هذا التنافس المحتدم. ففي بداياته مر الحزب باختبارات ميدانية عدة وتنافسات سياسية محتدمة مع قوى أساسية لبنانية متجذّرة محلياً وقوى ذات امتداد إقليمي. ثم أصبح الحزب عُرضة لهجمات سياسية حادّة من القوى المناوئة للمقاومة خاصّة بعد العام 2004. وقد تزايد عبء هذا التنافس بعد تصدّي حزب الله لقيادة تحالف وطني مع ما يُعرف بقوى 8 آذار والتيّار الوطني الحرّ.
ويتلقّى خصوم حزب الله دعماً خارجياً واسعاً ويمتازون بتواجدهم في نطاقات مختلفة ثقافية وإعلامية وسياسية على شكل أحزاب ونُخب ومنِصّات وقطاع خاص ومنظمات غير حكومية وهي كيانات مندمجة بقوة بشبكات مالية وسياسية إقليمية ودولية معادية للمقاومة. ويؤدي بعض هؤلاء الخصوم أدواراً أمنية تجعل خطرهم مضاعفاً. يُنتج هذا الواقع ضغوطاً متواصلة على الحزب وتجبره على تجيير جزء من موارده وإمكاناته للمجال السياسي المحلي وأن يراكم مهارات وأُطراً ومعايير لإدارة التنافس السياسي بشكل يضمن له الاستقرار المحلّي والوطني الضروري لتجنّب صراعات داخلية مفتوحة تشتّته عن مهمته الرئيسية.
9- المنازلة الفكرية في مجال عام معقّد ومفتوح ناتج من غنى الحياة السياسية والفكرية اللبنانية بما يخالف ما هي الحال عليه في معظم الدول العربية. كان على الحزب أن يقدّم أطروحته الإسلامية في سوق فكرية شديدة التنافس حيث التيارات اليسارية والليبرالية والقومية لها جذور عميقة ومفكرون أعلام على مستوى المنطقة. وهذا ما أدركه الحزب سريعاً في بداياته ودفعه إلى مراجعة ذاتية حول الدولة الإسلامية والثورة الإسلامية. يواجه الحزب بشكل مستدام أطروحات سياسية وثقافية شديدة النقد لمشروعه السياسي والثقافي (عدا عن حرب معلومات شرسة) دفعت جُملة من نُخبه ومؤسساته إلى الانخراط في هذه «السوق» وتأصيل طروحات الحزب في قضايا مثل ولاية الفقيه والوطن والنظام اللبناني والهويات المتعددة وشرعية سلاح المقاومة والهيمنة الأميركية والعدالة الاجتماعية. وفي النتيجة، وعلى الرغم من انهماك الحزب الشديد في مسألة المقاومة ومستلزماتها من الخطاب الثقافي التعبوي، يجد نفسه ملزماً الخوض في الكثير من النقاشات وتطوير مؤسساته وكوادره الفكرية والبحثية والعلمية، وهو تحدّ لا يزال ماثلاً أمام الحزب.
10- القدرة على تَبيئَة الجغرافيا. إن التماسّ الجغرافي للتجمّعات الشيعية في لبنان مع فلسطين المحتلة في جنوب لبنان وبالبقاع الغربي جعل هذه البيئة مستهدفة بالعدوانية الإسرائيلية وفي ظلّ تهديد دائم وداهم، بالتالي اكتسب الحزب نفوذاً هائلاً واحتضاناً واسعاً داخل هذه المجتمعات بنجاح تجربته في المقاومة، تحريراً وردعاً. هذا التماسّ ونجاح الحزب أنتجا ما يسمّى «البيئة الحاضنة» التي هي العنصر الأكثر أهمية في نجاح تجارب المقاومة. وقد نجح الحزب بالذوبان التامّ في هذه البيئة فمنها مقاتلوه وكوادره وقيادته وناخبوه ومؤيدوه وداعموه. وهذا التماس سمح بوعي تاريخي شيعي للمسألة الفلسطينية ناتج من الروابط الشخصية والتجارية التاريخية بين المجتمعين الشيعي والفلسطيني ثم الانخراط الشيعي مع المنظمات الفلسطينية وسكّان المخيّمات الفلسطينية بعد نكبة 1948.
ومن جهة أخرى، كان لهذا التماسّ مع العدوانية الإسرائيلية أثر كبير في التمدّن والاغتراب الشيعي حيث شهدت المناطق المحتلّة هجرة شيعية واسعة، خارجية نحو أفريقيا وأميركا الشمالية، وداخلية نحو المدن الساحلية وبالتحديد صور وبيروت. وهذه الهجرة كانت عنصراً حاسماً في الصعود الاجتماعي والسياسي للشيعة وكذلك منحت حزب الله حواضن شعبية في مناطق حيوية وأتاحت له موارد بشرية ومادية ضرورية.
11- الطبيعة التشاركية في العلاقة مع إيران، حيث تعامل الطرفان منذ البداية على قاعدة أن دور إيران هو دعم قرارات الحزب التي يتخذها وفق معطيات الواقع اللبناني، لا سيما أن الدولة الإيرانية كانت منهمكة في تحديات داخلية وخارجية كبرى. ولذلك كان الوليّ الفقيه يمنح الشرعية للفعل على أن الحزب يتخذ القرارات اللازمة. ولاحقاً تمكّن حزب الله بفعل نجاحاته ودور أمينه العام السيد حسن نصرالله في التحوّل إلى شريك في عملية صناعة القرار الإقليمي الإيراني لا سيما في الملفّات ذات الصلة بمشروع المقاومة. وتتعزز هذه الشراكة بتأثير حرس الثورة داخل مؤسسة الأمن القومي الإيراني وكذلك يشكّل الاحترام الواسع لتجربة الحزب لدى الشعب الإيراني رافعة لهذه الشراكة. وكان الإيرانيون حريصين منذ البداية على أداء دور المساعد لحزب الله ولهذا كان القرار إرسال مدرّبين بدل مقاتلين إلى لبنان بعد الاجتياح الإسرائيلي.
وتتعزّز هذه الاستقلالية بفضل نظرية ولاية الفقيه نفسها التي تعترف بالخصوصيات المحلية والوطنية. فمع كون الوليّ الفقيه له سلطة الأمر في الشؤون التدبيرية كافّة ولكنه بمقتضى الحكمة والعدالة والقدرة على فهم المصالح وأحوال الزمان، وهي من الصفات الواجبة في الوليّ الفقيه، يُدرك أن لكل مجتمع محلّي ووطني خصوصيات عميقة أهله أخبر بها ولذا غالباً ما يترك الولي للحزب تشخيص المصالح بعد أن يضبط هو شروطها. وقد كان لهذه الشراكة انعكاس مباشر على تأثير حزب الله الإقليمي، إذ يدرك الإيرانيون أن الهوية العربية للحزب، مع ما راكمه في الوجدان العربي، تجعلانه في جُملة ساحات وملفّات فاعلاً رئيسياً في إدارة مشروع المقاومة.

تراجع الموجة المذهبية مع مواصلة الحزب قيادة جهود المقاومة العربية بوجه كيان العدوّ الإسرائيلي يمكن أن يخلق مناخات تصالحية مع حواضن عربية


12- إتقان الإدارة ربطاً بتجربة المأسّسة الإيرانية. استفاد حزب الله من صلاته العميقة بالمؤسّسات الإيرانية، سواء حرس الثورة أو الأجهزة المدنية أو حتى الحوزة في قُمّ، لاستلهام تجربة بناء المؤسّسات وتنظيم الإدارة وهي من الخصائص التاريخية للتجربة الإيرانية. إن عدداً من مؤسّسات الثورة الإسلامية إمّا افتتحت بداية فروعاً لها في لبنان ثم أدارها الحزب وإمّا نقلت تجربتها إلى الحزب الذي استنسخها بنكهة وخصوصيات محلية.
وقد تولى خبراء إيرانيون في علم الإدارة والموارد البشرية نقل معارف ومهارات ونُظم إدارية إلى كوادر حزبية عملت على بناء وتطوير مؤسسات مدنية نشطة وكفوءة في مجالات التعليم والتنمية والتنظيم الحزبي والصحّة والخدمات والإدارة المحلّية. وعادة ما تستفيد مؤسسات الحزب من خبراء وأكاديميين عرب ولبنانيين من خارج بيئته للاطلاع على خبرات نوعية ومعارف جديدة. واجتذبت مؤسسات الحزب المذكورة أعلاه، في العاصمة والأطراف، آلاف الشباب والشابات من خريجي الجامعات الذين اختاروا هذه التخصصات أو الذين شجّعهم الحزب على الدراسة فيها للاستفادة من العلوم العصرية في الإدارة والموارد البشرية. ويسهم هذا الزخم المؤسساتي في كفاءة أنشطة الحزب وقدرته على تلبية حاجاته وفي حفظ التجربة ونقلها وفي التطوير واجتذاب الطاقات والتكيّف مع التحولات، لا سيما أن العدوّ الإسرائيلي اعتاد استهداف هذه المؤسسات مراراً وتكراراً.
13- بناء المصالح الاستراتيجية مع سوريا بعد سنوات من القلق المتبادل. اتسمت العلاقة بين الحزب وسوريا بالريبة والشك في بداياتها حتى وصلت إلى احتكاكات ميدانية عدة بين الطرفين ما عزز من عدم الثقة المتبادلة. كانت دمشق تطمح لكسب موقع الناظم للواقع اللبناني باعتراف دولي وإقليمي وتوظيف ذلك في استقرار سوريا الداخلي ونفوذها الإقليمي والتوازن مع العدو الإسرائيلي. وقد توجّس بعض المسؤولين الحكوميين السوريين من أن أجندة الحزب وهويته وعلاقته بإيران يمكن أن تشوّش على مشروعهم اللبناني. لكن مع الحرب على العراق بعد اجتياح صدّام حسين للكويت وفشل مشروع التسوية العربية - الإسرائيلية وانتهاء الحرب العراقية - الإيرانية وثبات حزب الله في مواجهة العدو الإسرائيلي في عدوان 1993 انطلق مسار جديد كانت بدايته منع الرئيس حافظ الأسد، بمبادرة من قائد الجيش اللبناني حينها إميل لحود، استخدام الجيش للصدام مع المقاومة عام 1993. ومن وقتها، يمكن القول إن باباً للتواصل المباشر فتح في موضوع المقاومة بين الحزب والرئيس الأسد بمعزل عن تعقيدات ما يُسمّى النظام الأمني السوري اللبناني، وقد تعززت هذه العلاقة خلال العدوان الإسرائيلي عام 1996 حيث كان لسوريا دور أساسي في ولادة تفاهم نيسان.
وقد تعززت علاقات الطرفين بعد الاجتياح الأميركي للعراق والقرار 1559 حيث أدركت سوريا حاجتها للحزب وضرورته لها إقليمياً ولبنانياً، كما أصبحت سوريا عمقاً استراتيجياً حيوياً للحزب مع اتساع ساحة المواجهة بعد 2011 وهو ما أثبته دخول الحزب إلى الحرب في سوريا عام 2013. نجح الحزب في تفهّم الهواجس السورية في لبنان وجارى مصالحها الحيوية بعدم الصدام مع نظام ما بعد الطائف وكشف لها عن وزنه في الصراع مع العدوّ الإسرائيلي، وقد ساعد في ذلك الشراكة الاستراتيجية التي تطورت بمرور الوقت بين سوريا وإيران.
14- صحوة الشيعة العرب المهمّشين. تحوّل الحزب بصعوده قِبلة أنظار الشيعة وقلوبهم وعقولهم في العالم العربي. لقد اختبر هؤلاء عقوداً من الإقصاء والتنكيل وكذلك حال الزيديين في اليمن. وهكذا وجد هؤلاء في نجاحات حزب الله «الشيعي» مدخلاً ممكناً للاعتراف الإسلامي والوطني بهم. لقد عمل هذا الاستضعاف للشيعة العرب كمكبّر لمنجزات حزب الله ومحفّزاً للتماهي معه والاستلهام منه. وهكذا فإن التأثير الإقليمي لحزب الله هو نتاج قوّته الناعمة بشكل أساسي وهي قوّة تتسم بنتائج طويلة الأمد وأكلاف مقبولة، وهو تأثير مشروع بالكامل. ويؤيد الحزب خيار هؤلاء الشيعة بالنضال السلمي ويشجّع مناخات الحوار مع شركائهم وحكومات بلادهم ويؤكّد على الوحدة الإسلامية ويحترم خصوصياتهم الوطنية ويساعدهم إعلامياً على رفع صوتهم للمطالبة بالحقوق ويحثّهم على المشاركة السياسية والإعلامية والشعبية في مساندة مشروع المقاومة داخل المنطقة.
15- مُداواة الهزيمة النفسية العربية من خلال الانتصار على العدوّ الإسرائيلي ودعم مشروع المقاومة الصاعد في فلسطين. تلقّف جزء كبير من المجتمعات العربية مقاومة حزب الله بالفخر والتفاعل معها والاقتراب منها إذ وجدوها رداً على عقود من الخيبة والهزائم. وقد حرص حزب الله على إبراز هويّته العربية في خطابه السياسي والثقافي والإعلامي وفي منتجاته الفنية (الأناشيد) وعزّز من مؤسّساته المعنية بالتواصل مع النُخب والأحزاب والمجموعات العربية والحوار معها. شكّل هذا الانبهار العربي بتجربة الحزب في قتال العدوّ الإسرائيلي وفي قيادته عامل استفزاز للأنظمة الرسمية العربية التي خرجت من فعل الصراع مع العدوّ، إذ كانت نجاحات الحزب تقويضاً عملياً لخطابات الاستكانة ومشروعية قائليها. وهذا الأمر يفسّر إصرار جملة من أنظمة المنطقة على افتعال توترات مذهبية تركت تداعيات سلبية على علاقة الحزب بجزء من حواضنه العربية. لكن تراجع الموجة المذهبية مع مواصلة الحزب قيادة جهود المقاومة العربية بوجه كيان العدوّ الإسرائيلي يمكن أن يخلق مناخات تصالحية مع حواضن عربية على قاعدة التفهّم والحوار وتنظيم الخلافات وتحييدها عن مشروع المقاومة.
16- الإلهام والتمثّل ونقل التجربة. يمتلك حزب الله موارد مادية، بشرية ومالية، محدودة ولذا فإن بناءه لشراكات وتحالفات على مستوى المنطقة ضمن مشروع المقاومة كان لا بد أن يستند إلى أصوله الأبرز أي قدرته على الإلهام ونقل تجربته والدروس المستخلصة إلى أقرانه ضمن حركات وقوى تمارس فعل المقاومة. وما جعل ذلك ممكناً أن انتصارات الحزب أحيت روح المقاومة في المجالين العربي والإسلامي (مثلاً كثرت المقارنة بين السيد نصرالله والرئيس عبدالناصر) وبذلك تحفّزت رغبة العديد من المجموعات والنخب لفهم تجربة الحزب والاستفادة منها، وهذا ما ظهرت أبرز نتائجه في فلسطين المحتلة ولا سيما في الانتفاضة الثانية.
ولذا اهتم حزب الله بنقل تجربته في المقاومة والإدارة والإعلام والتنظيم إلى شبكة كبيرة من الفواعل السياسية العربية والإسلامية غير الحكومية المنخرطة، عسكرياً أو سياسياً، في مواجهة منظومة الهيمنة الأميركية. إن نقل التجربة يشمل بطبيعة الأمر نقل قيم وأفكار وأنماط سلوك وثقافة عملية وكذلك يؤسس لشبكات من الروابط والعلاقات مع كوادر هذه الحركات والأحزاب. وهكذا انضمّت بمرور الوقت مجموعات إضافية إلى معادلات القوة والردع لمشروع المقاومة بحيث أصبح الصهاينة يتحدثون عن دوائر متعددة لمحور المقاومة تصل حتى العراق واليمن.

* أستاذ جامعي