لطالما بدت قضية المأساة الفلسطينية في الحقبة المئوية المنصرمة من عمر المنطقة العربية كترمومتر دقيق يستشعر حالة التردي والانهيار التي تستحكم بنواصي الدول العربية بحكوماتها ونخبها ومثقفيها. ولم يكن اجترار مونولوج الألم والعذاب الفلسطيني إلّا طقساً شعبوياً فلكلورياً مربحاً يتقاسمُه ويتشاركُه الجميع، نخباً ومثقفين، حكوماتٍ وشعوباً، من دون أن يُحدثَ أيٌّ منهم على اختلافهم اختراقاً مؤثراً في النسق والناتج التاريخي للقضية، لإحداث حالة نهضوية بمشروع يقرأ ماضي القضية ويخرج بدلالاته وعبره، ويستشرف مستقبله باشتراطاته ولوازمه، ويضع له الخطط الناظمة لإحداث تغييرٍ مهمٍ يمنع أو يوقف حالة الهبوط البياني لمسار القضية.
تبدو الآن كلّ الجهود الرامية للوقوف أمام التداعي الخطير والنتائج المترتبة على الواقع الفلسطيني (سواء في الأرض المحتلة أو دول النزوح والاغتراب) لما يحدث ضمن سياق ما دعي «الربيع العربي» فاشلةً وعبثيةً، وكأنها وقوف أمام قطار سريع أُعدت سككُه وهُيئت محطاته، فبات على الجميع الاختيار بين الانسحاقِ أمام تسارعِه الرهيب أو الالتحاقِ بعرباته لتصل إلى محطاته الإجبارية.
فيما لا تعدو هذه المحطات سوى أن تكون تهجيراً جديداً وتجنيساً وتوطيناً وشيطنةً واستعداءً للمكون الفلسطيني، إضافة لما يتكفل به العدو الصهيوني بذاته من توسعٍ استيطاني واستفرادٍ بالمفاوض والمقاوم الفلسطينيّ المُتعبَين.
على أن توصيف «كارثي» لما انتهت إليه المظلمة الفلسطينية مما استتبع الواقع الراهن في العالم العربي ضمن سياق سنوات «الربيع العربي» لا يبدو على سوئه مجافياً للحقيقة، إذ أن الأحداث المركّزة، المكثفة والرهيبة التي اجتاحت بعض البلدان العربية الرئيسية قد تركت آثارها السلبية التي تهدد مشروع دولة فلسطين برمته وبعناصره وأقانيمه الثلاث (أرض وشعب ودولة).
إن الإساءة للقضية الفلسطينية بلغت مداها، فقد تذيلت القضية اهتمامات المواطنين العرب بعد كوارث بلدانهم (حجماً وكيفاً)، فمن يرى كوارث الواقع العربي الحاضرة كيف له أن يسترجع كوارث ونكبات نامت في الأدراج عقوداً طويلة وأهرقَ عليها حبر كثير، وعقدت لها مئات بل ألوف الاجتماعات ومؤتمرات القمة على كل المستويات. فما أجدى ذلك إلا مزيداً من التدهور والانحدار والخسران المبين، اليوم من يرى اللاجئين السوريين يقاربون الملايين وتكاد عذاباتهم تنتثر في كل المشاهد وكل العيون ومن رأى قبلهم العراقيين (وقد يرى مستقبلاً المصريين والجزائريين والسعوديين)، أنى له أن يستعيد جرحاً مزمناً قديماً تعايشت مع موالهِ القديمِ المتردّد ولحنهِ الأليم كلُّ جماهير الأمة من المحيط إلى الخليج، وصار الطربُ له موضةً قديمةً لجيلٍ قديمٍ ينقضي، وجزءاً من لغةٍ خشبيةٍ يسخر منها خواجات الفكر العربي وغلمانهم من مَحظيّ الدولار النفطي!

الموجات الجديدة
للتهجير تظهر التهديد الوجودي لموضوع اللاجئين

إن الأحداث التي تأخذ منحنى يشبه السقوط الحر بتأثيرها وانعكاسها على الصورة الانطباعية العامة للشعب الفلسطيني، إن كانت ناجمة عن وقائع حقيقية أو مفبركة ومضخمة وفق «بروباغندا»، تتولاها الأيدي القذرة ذاتها المسؤولة عن ضخِّ كلِّ هذه الأحقاد وثقافة التكفير والتفجير، وتغذيتها بالبترودولار في مقامرة جديدة تجتاح المنطقة بأسرها.
لكن بعض الفصائل الفلسطينية وفّرت على كل الجبهات المتصارعة في المشاهد الدامية لما دعي «الثورات العربية» خصوصاً في سوريا ومصر الكثير من الذرائع والحجج (الحقيقي منها أو المختلق، الضئيل منها أو المضخّم) عندما انخرطت في المراهنة على مشاريع ناهضة براقة المستقبل مدعومة بوكلاء في المنطقة بدا لهم أنه من المستحيل مقاومتها أو الوقوف في وجهها. وهنا يجب عدم التقليل أو التسفيه أو الاستخفاف بخيار حركة حماس في الانسحاب من سوريا ومراهنتها على الاتجاه الإيديولوجي الديني والمستند إلى كتل بشرية ضخمة في العالم العربي والإسلامي (في مصر وتركيا وتونس وقطر وغيرها) ضمن سياق مشروع الأخوان الإسلامي السياسي، بما يتمتع به من دعم مالي ضخم وتفاهم دولي عالي المستوى. كان يبدو أن المشروع لا يقهر قبل أن يتفاجأ الجميع بمن فيهم أصحاب الخيار ذاتهم بتداعيه السريع وسقوطه المدوي في مواجهة المصير مع الثورات الارتدادية وبعض الأنظمة العربية المتجذرة والدول العميقة.
في مقابل ذلك اعتمدت بعض الفصائل الأخرى الاستمرار في مشروعها القديم بسبب تطاول فترة صراع الحرب في المنطقة وانكشاف المشروع وتداعيه أو بسبب مبدأي إيديولوجي فرضته نظرية فكرية أو تجارب نضالية، فتمترست هذه الفصائل مع المحور المقاوم في المنطقة وتحملت معه كل تكاليف وتبعات صراع معركة الجدار الأخير.
هوّلت بعضُ وسائل الإعلام العربية المشبوهة من هذا الدور الفلسطيني في الأزمات العربية بغيةَ زيادة التعاطف لطرفٍ في مقابل آخر أو لزيادةِ الكراهية للطرف الآخر، لكن النتيجة الحتمية ستكون زيادة الكراهية للأطراف الفلسطينية والاختلاف على دورها في محاولة لاحقة لشيطنة الفلسطينيين ولتبرير تخلٍّ مقبل. وكان من الأصلح أن تنأى الجهات الفلسطينية عن الدخول في هذه الصراعات الداخلية وأن تُؤخذ هذه التدخلات - بحسب أحجامها الحقيقية - لكونها جزءاً لا يختلف من النسيج المجتمعي المنخرط في الصراع وإن بدا أحياناً كثيرةً زجُّ الفلسطينيين في الصراعات القائمة طريقاً باتجاهٍ واحدٍ إجباري عملت عليه كلُّ الأطراف المنخرطة في حرب المشاريع القائمة (وإن بدرجات، إذ أن الجانب الداعم للربيع العربي أراد أن ينزعَ الورقةَ الفلسطينية من دول المقاومة ويعرضها في «بازاراتِ» استعطاف يومية) وبالتالي فإن تجنيبهم تداعي النتائج الكارثية يبدو ترفاً فكرياً لا يمتُّ للواقع بصلة.
إن مراقبة مشهد الموجات الجديدة للتهجير والنزوح الفلسطيني من سوريا (القسري أو الاختياري) إلى الدول الغربية يظهر الأحجام الكبيرة والتهديد الوجودي لموضوع اللاجئين الفلسطينيين في ثاني أكبر الدول التي ضمتهم والتي أمنت لهم منذ النزوح الأول عام 1948 وما تلاه حقوقاً مدنية ومواطنة مميزة مقارنة بالدول المجاورة.
يزدادُ موضوعُ اللاجئين سوداويةً عندما يُضافُ إلى هذا ما يتضمنُه مشروع كيري في المنطقة والموافقة الأردنية كبداية لتوطين أكبر جزء من اللاجئين الفلسطينيين في الأردن وانتعاش مفهوم الوطن البديل.
ولن ينتهي تداعي النتائج الكارثية في المحاولات المستميتة المَرعيةِ من الغرب الأميركي وبتشجيعٍ بترودولاري في زمن ضعفٍ عربي غير مسبوق، لتمرير صفقاتٍ مُذِلة ومُهينةٍ تنتقص من الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني ولا توافر له الحدِّ الأدنى، حيث يقف المفاوض الفلسطيني مُستَفرداً لا تسندهُ الأيدي العربية ولا تدعمه بل تدفع به دفعاً إلى الأحضان الآثمة.

ماذا بقي من القضية إذن؟!

محمود عباس ودحلان! ومشاداتُ الردح والردح المضاد بما يهدد حركة فتح تهديداً بنيوياً بالتشظي والاضمحلال، خصوصاً مع نشر الغسيل الوسخ للرعيل المناضل، والتشكيك والاتهامات المتبادلة الخطيرة التي تطاول الجميع بما يجعل الحركة خاليةً من الرؤوس والأيدي النظيفة وتحولها إلى جمعيات قابضة مساهمة.
خالد مشعل وهنية! والتمترس بين خطابات الايديولوجيا الإخوانية الآفلة وبين الخيار البترودولاري المهادن للغرب الأميركي والدائر في فلكه، فما الذي يمكن أن يقدمه هذا المعسكر النفطي لبندقية تتقاعد مجبرةً بشكل باكر سوى راتب التقاعد.
سيبقى حتماً معبرُ غزةَ المُغلق ومتابعة يومية شهداء الجوع في مخيم اليرموك
ولم يبق لتكتملَ الصورة المأساوية إلا أن نردد مع صوتٍ قديمٍ كان يُبثُّ من إذاعة فلسطين من دمشق، عاشرناه نحن العرب السوريين، ليقول من بلاد اللجوء: كما أهدي سلامي لخالتي أم رشيد ولأولاد عمي زياد؛ طارق ورشيد وباسل ومازن وربى من ترشيحا والقاطنين في بلاد الله الواسعة... وإننا عائدون!
فهل يقلب أهلُنا في فلسطين الطاولةَ في وجوهِ الجميع، ويعيدوا إضاءةَ الطرقِ المعتمة ويصحّحوا مسار الأمة بتوجيه بوصلتها من جديد؟! فلطالما فعلوا.

حقائق ودلالات

ــ تهويل إعلامي عربي لدور الفلسطينيين في الأزمات العربية المشتعلة بغية زيادة الاستعطاف أو زيادة الكراهية لهم.
ــ تهجير الفلسطينيين في موجات جديدة من سوريا كما حدث في العراق والكويت.
ــ انتقال بعض المقاومة الفلسطينية إلى مواقع البترودولار والمراهنة على الإيديولوجية بدلاً من نهج المقاومة.
ــ مشروع كيري والموافقة الأردنية بداية لتوطين أكبر جزء من اللاجئين الفلسطينيين بعد تهجير القسم الآخر وتجنيسهم في بلدان أوروبية متعددة وانتعاش مفهوم الوطن البديل.
ــ تمرير صفقات مذلة ومهينة مع الكيان برعاية أميركية وتشجيع بترودولاري في زمن ضعف عربي غير مسبوق.
* كاتب سوري