تتشابه الظروف المحيطة بالغزو العثماني للمنطقة العربية البادئ شهر آب من عام 1516، الذي شهد معركة مرج دابق التي فتحت أبواب دمشق أمام هذا الأخير وصولاً إلى وقوع باقي الجغرافيا العربية في أتونه خلال مدة لا تزيد عن عقدين من الزمن (مع استثناء يمني لم تكن عوامل الجغرافيا فيه هي الوحيدة التي أبقته في دائرة الاستثناء على امتداد أربعة قرون متواصلة)، مع تلك الظروف التي سادت المنطقة العربية منذ أواخر القرن المنصرم ومطالع القرن الحالي، وتحديداً منذ سقوط بغداد نيسان 2003 الذي كانت له آثاره الكارثية بدرجة لا يعادلها فيها سوى نظيرتها التي حدثت على يد هولاكو عام 1258.يمكن الجزم بأن السبب البعيد الذي قاد نحو هذا الزلزال الأخير كان يكمن في تربّع الفكر «الأشعري - التأملي» على ذُرى العقل العربي، بدءاً من منتصف القرن الثاني عشر. حيث الفعل جاء نتاجاً لسبب موضوعي مثّله التحوّل الحاصل على الطرق التجارية العالمية والذي أدى إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية داخل الدولة العباسية. ونتاجاً لآخر ذاتي، كان انعكاساً بالضرورة للأوّل، مثّله النخر بفعل رياح الأفكار التي راحت تهب من كل حدب وصوب. وأخطرها كان القادم من بيئات سبق لها أن انضوت تحت راية الإسلام، لكنها ظلت تختزن في ذاتها الجريحة حلم استعادة «أمجادها»، حيث سيقع اختيار هؤلاء على خوض غمار الإيديولوجيا بعد أن ضاعت لديهم خيارات العسكرة والسياسة. والخوض إيّاه سيكون شديد الوطأة على بنيان حديث التكوين. وهو سيقود بالنتيجة إلى تفكيك العديد من الروابط التي فعلت فعلها كلواصق فكرية وثقافية في السابق، وصولاً إلى حال من التشظّي الاجتماعي الذي كان نذيراً بزلزال بغداد السابق الذكر.
في ما بعد، أي ما بعد زلزال بغداد، سيتخذ ذلك الفكر، التأملي - الغيبي، أشكالاً أكثر خطورة، بفعل تشظيات أحدثها هذا الأخير، وهي قادت بالضرورة إلى انحطاط أوضاع «المتشظّين» فرادى وجماعات، وهذا سيشكل، جنباً إلى جنب الوهن الذي راحت تكتنزه الذات الجماعية العربية في دواخلها، عاملاً محفّزاً للجار العثماني الذي كان، في تلك الغضون، يراكم أسباب قوته التي باتت ترى أن حدود الجغرافيا، جغرافيتها، قد ضاقت بها. وفي هذا السياق يمكن قراءة السيناريو الحاصل بدءاً من عام 1516، وصولاً إلى عام 1537، على أن الذات الجماعية العربية قد قرّرت تسليم زمام أمورها، تسليماً وليس حرباً، لجار قوي يتدثّر بعباءة الإسلام، وفوق ذلك كله كان قد نجح في فتح القسطنطينية 1453، التي شكّلت نقطة الارتكاز الكبرى للغرب في المنطقة، وعجز العرب عن فتحها وهم في عزّ قوتهم. وبهذا المعنى يمكن تلخيص ما جرى بين حدَّي ثنائية الزمن السابقة بأن الذات الجمعية العربية الجريحة قررت «الاتّكاء وقائياً» على كتف تتشارك معه بلبوس «الدين» درءاً لحدوث انهيارات قد تفضي في مآلاتها إلى ذوبان الهوية الحضارية أمام الهجمة الغربية الشرسة التي طالت فصولها لمدة قرنين أو يزيد، في الوقت الذي شكّل فيه هذا الأخير عاملاً حاسماً في حفظها. والمؤكد هو أن جُل النخب الثقافية العربية كانت تتبنى ذلك المفهوم، وتلك الرؤية، ولعل ذلك كان سبباً أساسياً، جنباً إلى جنب عوامل عدة، في استمرار الهيمنة العثمانية على المنطقة لمدة تزيد على الأربعة قرون زائدة بعامين.
تسلّم العثمانيون ما بعد «مرج دابق» عجينة سياسية قابلة لأن تتخذ الشكل الذي يريده لها «الفران». لكنها، في الآن ذاته، ظلت تحتفظ، إيديولوجياً، بأسباب حفظ الكينونة وخصوصيتها، الأمر الذي يفسّر فشل سياسة التتريك التي اعتمدها العثمانيون بشكل ممنهج ومدروس، والتي وصلت في العديد من المراحل إلى حدود غير مسبوقة، أو هي غير معهودة في ما سبق. ومن حيث النتيجة، كان سوء الإدارة العثمانية قد أفضى، بفعل المنهجية السابقة، إلى مراكمة المزيد من التدهور والانهيار في البنيان العربي الذي راحت أفضل نخبه الفكرية «تجتر» السير الذاتية لأفراد كانت لهم مآثر وتجارب لها تداعياتها الإيجابية في مجتمعاتهم. وتلك، وإن كانت إيجابية بمقياس «الرمد خير من العمى»، إلا أنها كانت تعبيراً عن بؤس فكري وجد نفسه على خط الدفاع الأخير عن الذات والهوية.
استغرق تفكيك الإمبراطورية العثمانية مدة 219 عاماً، والفعل كان قد بدأ مع توقيع معاهدة «كارلوفجة» عام 1699 مع الأوروبيين، ثم جاءت معاهدة «كوجك قانيارجة» عام 1774 مع الروس كمحطة بارزة على ذاك الطريق. صحيح أن طول الفعل، أي التفكيك، كان بفعل تضارب المصالح الحاصل بين الأوروبيين قبيل أن تتلاقى مطالع القرن العشرين، لكنّ الصحيح أيضاً هو أن ميل العرب، في حينها، إلى البقاء تحت «العباءة العثمانية» كان فعلاً مؤثراً بدرجة حاسمة في إطالة أمد الفعل. والشاهد هو أن الشرط البريطاني الذي قاله وزير الخارجية كيرزون لعصمت باشا، مبعوث كمال أتاتورك لمفاوضة الإنكليز على استقلال تركيا عام 1921، والذي قال بوجوب قطع تركيا لصلتها بالعالم الإسلامي، وتحديداً العربي منه، كان أبلغ صورة مؤثّرة في تحديد النقطة المعيقة التي تقف بين «الرجل المريض» وبين إعلان «دفنه». وما يزيد من أهميتها أنها صادرة عن إمبراطورية لها باع طويل، وإرث عميق، في فهم أسباب قيام وزوال الممالك والإمبراطوريات، ثم إن لاستخلاصاتها وزناً لا يدانيه وزن آخر مما يدعو لاعتباره راجحاً في سياق من هذا النوع.
بشكل ما قرأت «العثمنة» الجديدة، التي مثّلتها إيديولوجيا حزب «العدالة والتنمية» الحاكم في تركيا منذ عام 2002، والتي جاءت مزيجاً من الإسلامية و«العثمنة» القديمة، المشهدَ المرتسم على جوارها العربي منذ عام 2003، فصاعداً، على أنه شديد التشابه بذلك الذي دفع أسلافها نحو التمدد جنوباً وصولاً إلى أقصى المغرب العربي. حيث سيشكل ذلك الفعل الركيزة الأساس التي قامت عليها «الإمبراطورية العثمانية». ولربما كان في الأمر ما يدعو إليه، إذ لطالما شكّل سقوط بغداد نيسان 2003 تحوّلاً كان أخطر في تداعياته حتى من نكبة فلسطين أيار 1948، لاعتبارات عدة؛ منها أن الأخيرة أدّت، من حيث النتيجة، إلى نمو متصاعد لمنهج يرتكز في قوامه على ثبات الهوية والموروث. وهو سرعان ما اهتدى إلى الآليات الكفيلة بتحقيقه، عبر تشخيص يقول بوجوب تجيير كل الإمكانات المتاحة للوصول إلى ذلك الهدف، بعد أن توافقت قواه على تشخيص مفاده أن الصراع الدائر في المنطقة هو صراع هوياتي حضاري بالدرجة الأولى، وأن نتيجته سوف تتحدد عبر «صراع الإرادة» الذي يفرضه، وليس عبر جولات الحروب أيّاً تعدّدت، وأيّاً تكن النتائج التي أفضت، وستفضي، إليها. في حين أن الفعل الأوّل، أي سقوط بغداد 2003، كان قد قاد نحو سيادة «الليبرالية» التي جاءت كنسخة مشوّهة لنظيرتها التي تربّعت على عرش الفكر الغربي على امتداد القرنين الماضيين. والسيادة إيّاها تمثّل، وفق التركيبة الاجتماعية-الاقتصادية للمجتمعات العربية الراهنة، وصفةً ناجعة للتشظي بمعانيه المتعددة، بدءاً من المجتمعي ثم وصولاً إلى الفكري الهوياتي، وكنتيجة قادت السيادة السابقة الذكر إلى تهتّكات كبرى من النوع التصدعي ممّا يمكن تلمّسه في الحالة التي كانت عليها تلك المجتمعات شتاء عام 2010 وربيع العام الذي تلاه.
كانت «مشروعية» القراءة تتأتى إذاً من تقدير يرى أن «الليبرالية» التي سادت قبيل المدة السابقة الذكر تتشابه، أو هي تتماهى، في مفاعيلها، مع الحالة المجتمعية-الثقافية التي قادت نحو مرج دابق 1516. وعبر عبر تلك القراءة، كانت التقديرات تقول إن المجتمعات العربية ستعاود من جديد النحو بنفسها لـ«الاتّكاء» من جديد على كتفي «الجار الإسلامي» الذي يجمعها معه «تاريخ» و«اتكاءة» طويلة سابقة. وإذا ما كانت تلك التقديرات تقف، تحديداً عند هذه الأخيرة، لجهة النتائج التي أدت إليها والتي يمكن رصدها عبر ما جرى صيف عام 1918 وخريفه، فإن تلك التقديرات كانت ترى أن النتائج المستحصلة من تلك التجربة لن تكون هي الحاسمة في قرارة نفس الذات العربية التي ضاقت خياراتها بشكل لن تستطيع معها الوقوف أمام هكذا نتائج.
يمكن القول إن الرهان التركي على إمكان أن يذهب العرب لتكرار «اتّكاءة» 1516 لم يكن يقتصر فقط على سيادة «الليبرالية»


يمكن القول إن الرهان التركي على إمكان أن يذهب العرب لتكرار «اتكاءة» 1516 لم يكن يقتصر فقط على سيادة «الليبرالية»، التي يصح وصفها راهناً بوصفة ناجعة للتشظي. وإنما كان يرتكز أيضاً على إمكان أن يستفيق الإرث الذي تركه أبو الأعلى المودودي وحسن البنا وسيد قطب. فالأوّل الذي قال بمبدأ «الحاكمية» التي خلصت إلى أن «الله ليس مجرد خالق فقط، وإنما هو حاكم كذلك وآمر»، كان، بشكل ما، يحاول أن يُرسي لفكر الخلافة وحفظه من الضياع حتى إذا جاء «المطر» كان لزاماً على «البذرة» أن تنتشر. أمّا الثاني، فقد ذهب بفكرة الإرساء السابقة الذكر نحو وضع محددات نظرية لها، فهو قال منتقداً القوميين بأن «حدود الوطنية عندنا بالعقيدة، في حين يعتبرونها بالجغرافيا». أمّا سيد قطب، فقد ذهب نحو وضع محددات عملية لإرث الاثنين، ولربما تجسّد ذلك، أكثر ما تجسّد، في قوله للقاضي الذي وجّه له تهمة محاولة اغتيال جمال عبد الناصر «إن تهمة اغتيال عبد الناصر لا تساوي شيئاً، فنحن نطمح لخلق أمّة لا تلد أمثال عبد الناصر»، وكان التقدير أن يستطيع هذا الإرث الأخير دحر «الليبرالية» الحديثة العهد آنذاك، أو هو يتآلف معها في تركيبة تفضي إلى توطيد ركيزة «الفتح العثماني» بطبعته الثانية.
ظهر أول ملامح «المشروع العثماني» الجديد عبر حادثة «سفينة مرمرة» في بحر غزة أواخر شهر أيار 2010. فالسفينة التي كانت تحمل على متنها «ناشطين» أرادوا كسر الحصار المفروض على الأخيرة منذ سيطرة حركة «حماس» عليها عام 2007، كان الهدف منها القول إن عودة التلاحم ما بين العرب والأتراك هو الحل الجذري لحمايتهم من عدوهم التاريخي المسمى «إسرائيل». حتى إذا ما تكشّفت ملامح «الزلزال» مطالع الربيع من العام الذي تلا هذا العام الأخير، راحت الملامح تتضح أكثر فأكثر.
وما تكشّف كافٍ للتأكيد بأن تلك النظرة كانت ترتكز على «مفتاحية» دمشق في المشروع الجديد لاعتبارات تتعلّق بمسارات البداية والنهاية لمشروع التمدّد العثماني مطالع القرن السادس عشر. فمن دمشق كانت البداية، وفيها كانت النهاية أيضاً. ولاعتبارات أخرى تستحضر تجربة صدام السلطة مع «الإخوان المسلمين» أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضي، والتي خلّفت إرثاً دموياً بمكن إيقاظه بسهولة على وقع التهتّكات الحاصلة في البنيان السوري والتي كان يمكن لحظها عن بعد. فيما كانت التقديرات تقول إن المطلوب هو المزيد من التهتك في البنيان، الأمر الذي أمكن لحظه في «الفسحة» التي أعطتها أنقرة لنفسها لتهدئة «اللهاث» من جهة، ثم لرقب سرعة التهتك الحاصل في الجوار. وهو ما ظهر في لقاء وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو بالرئيس بشار الأسد يوم 9 آب 2011، حيث سيقود الاستقراء الحاصل بعدها إلى ارتداء «لبوس» مرج دابق الذي تمظهر في إغلاق تركيا لمعابرها مع الجار السوري 25 تموز 2012، والذي كان يمثّل، بصورة ما، إعلان حرب منقوصاً لكنه يحثّ الخُطى لكي تتكامل شروطه.
لم تكن الانزياحات الحاصلة في المجتمع السوري «المفتاحي» كفيلة، أو هي كافية، للدفع بشرائح وازنة نحو اللجوء إلى خيار «اتكاءة» مرج دابق. ولا كانت التقديرات التركية دقيقة في هذا الاتجاه، وإن كانت كذلك لجهة اليقين بأن نجاح المشروع، أو فشله، رهين بالنجاح، والفشل، في دمشق، الأمر الذي ثبتت صوابيته عبر انهياراته الحاصلة في مصر وتونس وليبيا في ما بعد. ومن المؤكد أن التموضعات التركية الحاصلة أخيراً، لجهة التطبيع مع إسرائيل، والتقارب مع بلدان عربية أخرى، كلُّ ذلك يكشف عن يقين صارخ بفشل الرهان، ثم يقرّ بأن أدوات المشروع كانت ناقصة، بل إن المتوافر منها كان يعاني من عطب بنيوي في أدائه.