يعيد تهديد الجيش التركي بالتمدد في شمال سوريا ذكرى توغله في مدينة رأس العين في شمال شرقي سوريا، حيث تتكشّف الأمور على استعداد أنقرة لاستكمال ترسيم خريطة الديموغرافية السورية على حساب الجسد «السوري»، بعدما تماهت ميليشيات «قسد» مع الاحتلال الأميركي، وتكرارها خطأ «وحدات الحماية الكردية» في عفرين التي رفضت تسليم مناطق سيطرتها للدولة السورية، ما أدى إلى احتلال تركيا تلك المناطق الخضراء الشاسعة والتابعة لمحافظة حلب. وكعادته، سيفاجئ الأميركي، كما في السابق، هؤلاء المغفلين فقط من الميليشيات والإدارات الوهمية، وسيأتي تخلّيه عنهم وكشفهم أمام الرصاصة التركية تكراراً لتخلّيه عنهم في عفرين. وهنا نستعيد قول الأديب المصري الراحل توفيق الحكيم: «يستطيع الشيطان أن يكون ملاكاً، والقزم عملاقاً، والخفاش نسراً، لكن أمام الحمقى والسذج فقط». ولن يكون مهماً صراخ «قسد» ومطالبتها بالوساطة الروسية لفتح قنوات تواصل مع دمشق في لحظة وصول السكين إلى رقبة أهلنا، كما حصل في عفرين وجرابلس ومنبج ورأس العين وغيرها من الأراضي السورية. وهنا لا ينفع التناقض الداخلي الأميركي بالحديث عن «الحلفاء الأكراد»، كما لم ينفع الارتباك الأوروبي وخوفه من حالة نزوح كبيرة تخلق مشكلات داخلية في الضفة الأخرى من المتوسط. لتركيا هدفان رئيسيان في شمال شرقي سوريا: الأوّل هو إبعاد «المشروع الكردي» عن الحدود، إذ تعتبره خطراً على الداخل التركي، وإنشاء منطقة آمنة داخل الأراضي السورية يمكن فيها توطين مليونَيْ لاجئ سوري تقول إنها تستضيفهم في الوقت الراهن.
طبعاً اختراق الأراضي السورية من جديد من قبل القوات التركية ومرتزقتها، وصولاً إلى تل رفعت، يأتي تحت لافتة تحريرها من تنظيم «وحدات الحماية الكردية»، ولكن «الماسك» الأساس هو حزب الـ «PYD»، الذي يضمّ «أكراداً» بوهم قيام إدارة ذاتية وكانتون فيدرالي في شمال شرقي سوريا، وصولاً إلى المتوسط كهدف بعيد.
وإذا كانت دلالات العدوان التركي المقبل على الأراضي السورية يعتبر كسراً لأي حلم بقيام كانتون فيدرالي في سوريا يلامس حلم «أكراد تركيا» في ذلك، فلنا أن نتذكر هنا التصريح الذي أطلقه الرئيس الأميركي جو بايدن، عندما كان نائباً للرئيس باراك أوباما في أنقرة، عشية العدوان على عفرين، بالقول إن الولايات المتحدة لن تقبل بـ«كيان كردي» على الحدود التركية، ما يؤكد أن الإدارة الأميركية الحالية ستقف متفرّجة على ما ستواجهه «قسد» في منبج وتل رفعت.
هذا الدوران الأميركي على «الحساب الكردي» يؤكد أنه ومنذ عقود و«الأكراد» خاسرون في لعبة الأمم. لا شيء تغيّر. فهم لا يدرون أين هي الخطوط الحمر وأين ستمضي لعبة المصالح الدولية والإقليمية بهم في المستقبل. وها هي ميليشيات «قسد»، وبسبب غبائها بعدم التواصل الفوري مع دمشق، يمنحون العدو التركي وإرهابييه من المرتزقة قبلة الحياة في المنطقة من جديد.
آن الأوان لـ«قسد» أن تدرك أن الرهان على الأميركي هو رهان خاسر، وأن السيادة السورية ليست انتقائية كأن يسمح لتمركز الاحتلال الأميركي واعتباره وجوداً مقدساً ورفض الاحتلال التركي. السيادة شيء مقدّس وهي يجب أن تكون بمواجهة الاحتلال الأميركي كما بمواجهة الاحتلال التركي، وأن أوهام الإدارة الذاتية والقبول بتقطيع أوصال سوريا ستؤدي بأصحابها إلى الانتحار السياسي والسقوط الأخلاقي. هي مواقف غرائزية، وثأرية، حيال سوريا والسوريين، فهل تدرك «قسد» أن للسذاجة حدوداً؟
منذ بداية العدوان على سوريا يحاول إردوغان «تتريك» الشمال السوري. راهن على «الإخوان المسلمين» ثم على تنظيم «داعش»، والآن على «جبهة النصرة» وفصائل أخرى كـ«الجيش الوطني»، ما يعنيه اختراق عظام السوريين، وأرواح السوريين، بزعم مواجهة خطر «الكرد». فهل استطاع إردوغان أن يتخطّى دور الثعلب، وشخصية الثعلب، في دفع التراجيديا السورية إلى تخوم العدم؟
إذا تكرر الاجتياح التركي في الشمال السوري فإن هذا لن يكون احتلالاً للأرض فقط، بل احتلالاً للناس أيضاً وتحويلهم «دمى عثمانية» بل و«دمى إردوغانية» يراد لمواطني الشمال السوري أن يكونوا حطباً بشرياً في حضرة الباب العالي وضد «إخوانهم الكرد».
الخوف أن يبقى بعض الكرد ضحايا السراب. «أشقاؤكم» الأميركيون يقتلونكم جميعاً، مفتونون أنتم بخدمتهم و… يقتلونكم برصاص الاحتلال التركي!
للقيادي الوطني الكردي السوري الراحل عبد الحميد درويش، رسالة ذات دلالة لميليشيات «قسد»، حيث طالب درويش قوات «قسد» بالانسحاب الفوري من المناطق الحدودية في شمال شرقي سوريا، وإفساح المجال لانتشار الجيش السوري على طول الشريط الحدودي مع تركيا. وقال درويش، الذي كان يرأس «الحزب الديموقراطي التقدمي»، أقدم حزب سوري كردي تأسس عام 1957، إن موقف حزبه الوطني معروف منذ بداية عملية اجتياح الجيش التركي لمدينة عفرين، موضحاً «وقتها طالبنا بضرورة تدخل الجيش السوري وتسليم المنطقة لقيادته العسكرية حفاظاً على أرواح الناس وعلى الأراضي السورية ووحدتها»، لكن تعنّت ميليشيات «قسد» كان وراء خسارة الوطن السوري مدينة استراتيجية مثل عفرين في ريف حلب.
نودّ لو تتذكر «قسد» ذلك المشهد المثير للدهشة، ذاك الذي تابعه العالم من مطار كابول في صيف 2021، ذلك المشهد إنما كان باعثاً على أشدّ أنواع القلق للمتعاونين مع الاحتلال الأميركي، فهو مشهد يكرّر ما حصل لدى هزيمة الأميركان في فيتنام ولكن بطريقة أبشع. لقد كان مشهداً مهيناً للعملاء والخونة في مطار كابول وهم يتراكضون للحصول على فرصة التعلق بالطائرات، قبل أن يُلقى القبض عليهم.
على «قسد» أن تتذكر جيّداً تصريحات السفير الأميركي السابق في سوريا روبرت فورد لصحف سعودية (الشرق الأوسط) وإماراتية (ذا ناشيونال)، في آب 2017، التي أكد فيها انتصار الرئيس السوري بشار الأسد وعجز بلاده عن الصمود في سوريا وطالب قواته بالانسحاب من هناك كما فعلت عام 1982 في بيروت، ولاحقاً في العراق. ويذكر أن فورد، في تصريحاته هذه، رسم صورة قاتمة لمستقبل «أكراد سوريا» وعلاقتهم مع بلاده. وقال إنّ «الأكراد» يرتكبون خطأً فظيعاً إن اعتقدوا أنّ الولايات المتحدة سوف تأتي لإنقاذهم، مضيفاً: «أعتقد أنّ ما نقوم به مع الأكراد ليس فقط غباءً سياسياً، بل غير أخلاقي. الأميركيون استخدموا الأكراد لسنوات طويلة خلال حكم صدام حسين. هل تعتقد أنّ الأميركيين سيعاملون الاتحاد الديموقراطي ووحدات حماية الشعب بشكل مختلف عن هنري كيسنجر مع الأكراد العراقيين (عندما تخلى عنهم). بصراحة، قال لي ذلك مسؤولون أميركيون… الأكراد السوريون يقومون بأكبر خطأ في وضع ثقتهم بالأميركيين».
إذاً، هو مصطلح «استخدام الأكراد» خدمة للمشاريع الأميركية، إذ كان يُراد أن توضع خريطة سوريا على الطاولة، وإلى حدّ بعيد استعادت خريطة الجنرال غورو ودوله الأربع، وكأنّ المشكلة كانت في الدولة الخامسة، أي «كردستان سورية» التي قال عنها زعيم حزب العمّال الكردستاني عبدالله أوجلان يوماً أن لا وجود لها على أرض الواقع. ويعتبر مراقبون أنّ قيام «كردستان السورية» بعد «كردستان العراقية/ الشكلية» كان سيجعل لعبة الدومينو تتواصل. فأي جزيرة، وروح الجزيرة السورية، حين أراد الاحتلال الأميركي تحويلها إلى شظايا عرقية وطائفية وعشائرية ومناطقية؟
على «قسد» أن تراقب المواجهة القائمة بين روسيا وأميركا في أوكرانيا وتتذكر عبارة أن «رُهاب اليأس من فترة نهاية الخدمة» التي تعيشها أميركا هذه الأيام وهي محنة تبدو حقيقية بالفعل، بحيث لا يمكنُ الاستهانة بها أبداً. الأميركيون يعتبرون أن «لعبة الأمم هي اختصاصهم وحدهم. هم يعبثون بكل شيء». فيردّ عليهم الروس من أوكرانيا: تكفيكم الرقصة الطويلة، والدموية، مع… الهباء! من هنا أتوجه بنصيحة أخيرة لـ«قسد»: اذهبوا لدمشق فهي عاصمتكم وملاذكم الدائمين، قبل أن تغدر بكم واشنطن.

* كاتب سوري