استفاد الملك السعودي المؤسّس عبد العزيز من التناقضات الدولية لتحقيق حلمه في تأسيس مملكته بعيداً، فأقام ابتداءً علاقات وثيقة مع الولايات المتّحدة، وريثة بريطانيا العظمى التي دعمت منافسيه حينها. منذ البداية، شكّل النفط المستكشف والمتوقّع، وموقع المملكة الجغرافي، والاعتراف الأميركي بالكيان الجديد، وتمايز مكوّنات العلاقة بين الطرفين، موضوعات العلاقة الأولى. دخل «الله» كعنصر ثالث في مكوّنات العلاقة مع بدء الحرب الباردة. اختصرت المرحلتان من زاوية أميركية بزوجية «النفط، الأمن» وثلاثية «النفط، الله، الأمن» على التوالي. ازدادت أهمّية المملكة على أثر حرب 1973، فالولايات المتحدة حرّرت عملتها من قواعد بريتون وودز ودخل العالم مرحلة البترو-دولار. أصبح النفط العامل الأبرز في قوّة الدولار ورواجه وقوّة أميركا، بينما كانت حاجة الغرب إلى الطاقة تطَّرد. انعكس ذلك طفرة مالية غير مسبوقة أشبه بـ«الصدمة» في المجتمع السعودي؛ طلاب المدارس صاروا يُحملون بالكاديلاك إلى مدارسهم بعد أن حملتهم الدواب قبل أشهر وجيزة، كما يذكر روبرت ليسي. أصبحت السعودية سوقاً كبيرة للمنتجات والاستثمارات الأميركية المختلفة وحاجة في حركة عجلة الرأسمالية التي ثبت أنّها هي التي تقود الغرب على حساب منطق السياسة.
مع سقوط الشاه، مرتكز السياسة الأميركية في الخليج، تطوّرت حاجة الطرفين أحدهما إلى الآخر لمواجهة الخطر المضاف! فاجتهدا لتنسيق مواجهته بكل قوّة، مع فارق جوهري؛ أنّ الخطر الجديد يُعدّ وجودياً بالنسبة إلى المملكة، فهي لا تحتمل قيام قوّة إقليمية منافسة، فالسعودية ما تفتأ تنطلق في حساباتها من الدائرة الإقليمية والتصدّي للمنافس الإقليمي (كما فعلت في مواجهة عبد الناصر من قبل ومع «الإخوان» أخيراً في مصر)، كيف إذا كان النموذج المنافس ثورياً-شعبياً-دينياً؟ هل سيحرّك هذا المتّغير الإقليمي المجتمع الراكد ظاهرياً؟ حادثة جهيمان العتيبي ستحفر عميقاً في عقل صانع القرار، المجتمع السعودي يحمل بذور مفاجآت يمكن أن تخرج عن السيطرة. وجدت المملكة في رفع وتيرة الخطاب الوهابي كنسخة متشدّدة واستعادة ما أمكنها من رمزيات (صار الملك خادم الحرمين الشريفين) حاجة لاحتواء الثورة الإيرانية وخطابها المستقطِب. وسرعان ما تعاون الطرفان على تأسيس مجلس التعاون الخليجي كجبهة تصدٍّ لإيران. فازداد الطرفان تقارباً وتقاطعاً على أثر المواجهة مع إيران إلى جانب الاتحاد السوفياتي (شكّلت حرب 73 استثناءً وحيداً، حظرت المملكة النفط لأيام لكنّ الحقائق تؤكّد أنّها سرعان ما تراجعت بل ولبّت مطالب الأخيرة بإعادة الضخ وربط النفط بالدولار). لمّا كان السلوك يُسهم في بناء الهوية، ستصير المملكة، وبالتدريج، أكثر التصاقاً بالسياسات الأميركية، حتّى بات يُقال: «لا يمكنك أن تجد السعودية في موقع المتحالف مع من يخاصم أميركا». وكانت المملكة حيث أرادت الولايات المتحدة، وبالغت في طلب ملاقاة الإدارات الأميركية، فكانت أوّل من سارع لطرح فكرة أو تصوّر لسلام مع إسرائيل وتحريكه في الواقع العربي مطلع الثمانينيات.
يمكن القول إنّ مصالح الطرفين على جهة واحدة من التاريخ، ما عزّز من إمكانات التلاقي وقلّل من الاهتزازات في أرضية العلاقة، فنجحت المملكة، ولو من خلف الستار، في ملاقاة المصالح الأميركية الاستراتيجية في كل الأمور كما أكّد كيسنجر. بغضّ النظر عن توصيف هذه العلاقة علمياً، بين من قال بتلاقي مصالح في إطار من تبعية بنيوية، ومن قال بالتبعية الكاملة، لكنّ المهم أنّ أميركا نجحت في تثمير علاقتها بالمملكة، كما الأخيرة نجحت في تأمين أمنها والانخراط في تحديث دون حداثة وإبراز نموذج الملك الذي يمتلك فراسة البدوي وسليقة المكر.
لكن برغم العلاقة ووشائجها التي تظهر للرائي أنّها قوية ومتينة، لم يمنع ذلك الولايات المتحدة من الولوج إلى البيت الداخلي والتغلغل فيه وترتيبه عن قرب بما يضمن مصالحها وحماية أهدافها ويبدّد المحاذير من انهيار تجربة الشاه. ولم تنجح المملكة لأربعة عقود، رغم مطالباتها بانتزاع تعهّد خطّي من أي إدارة أميركية، سواء جمهورية أو ديموقراطية، لحمايتها أو صياغة نص قانوني ملزم، كما هو الحال مع دول «الناتو» مثلاً أو إسرائيل أو بعض دول شرق آسيا. ولم تجار أميركا المملكة رغبتها وطموحها التاريخي بتمثيل الدول العربية في شبه الجزيرة، بل استمرّت تدير العلاقة مع كل دولة منها على حدة، قاطعة الطريق -ضمناً- على أي دور قيادي محتمل ومستبطن في عقل صاحب القرار السعودي. ولا شكّ أنّ «انتصار» أفغانستان بوجه الاتحاد السوفياتي والإسهام السعودي الكبير فيه علامة مرضية بالنسبة إلى الأميركيين، يمكن توظيفها لأدوار تخدم رؤاهم الكلية، لكن هل سيحمل هذا «النصر» وما سيليه من أحداث، كان أبرزها انهيار الاتحاد السوفياتي، «بذور مسار من التهديدات» قد ترقى لتشكّل تهديداً يطاول بنية العلاقة لأوّل مرّة في تاريخه؟ هنا سيبدأ النقاش في الجانب المغفول أو المتغافل عنه في هذه العلاقة.
اللافت والأمر الحساس الذي لا يني التوقّف عنده والتأمل فيه هو أنّ هذه العلاقة قامت «من فوق»، أي بين الحكومات، ولم تصل إلى الشعبين. لم تتمأسس هذه العلاقة أو تنطلق «من تحت» ولم تعبّر عن تلاقي قيم أو تفاعلها، ما يجعلها دوماً عرضة لكل اهتزاز أو تحوّل يطاول الداخليْن (الأميركي والسعودي) أو البيئة الدولية والإقليمية على السواء. فأي علاقة غريبة هي: القوية-الضعيفة والمرغوبة-اللامرغوبة والمطلوبة–المحذورة في آن. ولذلك، كثيراً ما قرأنا في كتابات باحثي الصف الأوّل ومراكز الدراسات الأميركية قبل عام 2000 كتابات تعنونت بـ«تلاقي الحاضر تنافر المستقبل».
نعم، أدّى انهيار الاتحاد السوفياتي وإطلاق الولايات المتحدّة رؤيتها لنظام عالمي جديد بقيادة بوش الأب من بوابة العراق إلى بروز أول عناوين التصدّع الفعلي بين الطرفين، حينما تناقضت رؤاهما للبيئة المحيطة وتحديد مصالحهما حيالها رغم الفارق بين مكانة الطرفين (المملكة قوة شبه جزروية وأميركا إمبراطورية عظمى). انقسم الرأي في المملكة حيال سياسة أميركا وتداعياتها عليها، لكن مجدداً غلبت الضمانات اللفظية التي قدّمتها الإدارة الأميركية، وكذلك العلاقات الشخصية مع بعض الأمراء، هواجسَ صانع القرار في المملكة، فسايرت الأخيرةُ أميركا في إطلاق هذا المسار العالمي الكبير الذي سرعان ما بانت تداعياته البالغة الخطورة على كل الإقليم وعلى المملكة وأمنها بالذات، حيث وضعها في تحدّيين أحدهما أمني-استراتيجي والثاني سلوكي-خطابي (فكيف لأرض الإسلام أن تصبح منطلقاً لضرب المسلمين). شكّل التحدّي الثاني مادة كافية للقوى الجهادية ولـ«الإخوان المسلمين» الذين كانت قد تقوّت بهم على عبد الناصر، مادةً كافية لتحدّي سياسات المملكة وتحالفها مع الغرب. كما دخل تحدّي الأمن من بابه الواسع بحالة جديدة؛ هذه المرّة التهديد لن يكون من الخارج فقط بل من الداخل، ما أعاد إلى الذاكرة حادثة جهيمان العتيبي وتداعياتها، مع لحظ الفارق الكبير لجهة الظروف وتعقيداتها الحالية. فسياسات الحامي المفترض، أي أميركا، هي سبب تهييج الداخل والتأسيس لمسار تهديد الأمن والاستقرار وتنامي ما سمّوه بـ«الإرهاب».
وكان 11 أيلول هو الشرارة الأكثر خطورة في تاريخ العلاقات الدولية الحديث. بلغ النقاش ضرورة إعادة النظر في أصل العلاقة، وأخرجت الإدارة من جنباتها خرائط ودراسات تدعو إلى تقسيم المملكة. حسب الرواية الأميركية، إنّ صنّاع هذا المسرح الجديد الذي هدّد هيبة أميركا لأوّل مرّة في تاريخها هم سعوديون بغالبيتهم. مع 11 أيلول، انتقلت لغة الصراع الدولي من السياسي إلى الثقافي والحضاري. تغيّر تقسيم العالم وفق مقسم «الإرهاب» وانتقل الصراع من قاعدة الدولة القومية ومصالح الأمن القومي ذات الطابع العقلاني إلى المجال الثقافي-النفسي الذي يفتقد لمحددات ومعايير واضحة. أصبحت تخوم الصراع حضارية كما نظّر هنتغتون وبرنارد لويس. استُحضرت رؤى ليو شتراوس وأفكاره وجيّرها المحافظون الجدد لتوجيه سياسات الولايات المتّحدة. لكن، على مقربة زمنية، أطلّ متغيّر كبير وغير مسبوق في الإقليم؛ انسحاب إسرائيل من لبنان بفعل المقاومة وإرادتها دون قيد أو شرط. كأنّ لبنان هيّأ المناخ لسلوك طريق آخر وجادة مختلفة وخطاب جديد. خلّف ذلك آثاراً كبرى أوّل ما تجلّت في الانتفاضة الفلسطينية عام 2001. وجدت السعودية نفسها في مأزق بين هويتها الإسلامية والقبلة الأولى وبين الموقف الأميركي المتبنّي بالمطلق لإسرائيل والداعم لبطشها وعنصريتها. سارعت السعودية لاحتواء الموقف والهروب من الضغوط، فكان منها أن أطلقت مبادرة ولي العهد عبدالله للسلام في بيروت، ملاقية بذلك أميركا ومعبّرة، في الآن ذاته، عن إرضاء للولايات المتّحدة من بوابة «السلام»، أي الملف الذي شغل سياسات أميركا لعقود.
اعتبرت الإدارة الأميركية حادثة 11 أيلول فرصتها التاريخية لفرض نظام عالمي جديد. السعودية حذرة ومتخوّفة من التوجّه الأميركي الجديد، لكن في الآن نفسه حالمة وطامحة أن تنجح حليفتها أميركا في إخراج كل من صدام حسين ومن بعده الثورة الإسلامية. بنهاية المطاف، وجدت السعودية نفسها منحازة رغبة أو قسراً -رغم مظاهر التململ- إلى الحليف والوصي الأميركي، فالعلاقة غير متكافئة بالنهاية وبنية التبعية مستحكمة. لكن، رغم ما قدّمته المملكة ووطّدت به علاقتها مع أميركا، فإنّه لم يتوقف استمرار التباعد بين الشعبين. اضطرت واشنطن ليس إلى تعزيز تأثيرها في منظومة صناعة القرار في المملكة، بل أن تهمّ بالتدخل المباشر في بناء الهوية وقيمها وتعديلها، وهو ما وضع السعودية أمام تحدٍّ آخر، إذ كيف بها كدولة الوهابية، وهو التفسير الأكثر تطرفاً، لتقبل بتدخل الغرب «الكافر» في تشكيل المنهج التربوي والثقافي وفرضه عليها.
في نهاية المطاف، ورغم حجم الزلزال وتداعياته (11 أيلول) وما تلاه من أحداث غيّرت مجرى التاريخ الحديث، استمرّت علاقة المملكة والولايات المتحدة بالتقارب من فوق، فجارت السعودية أميركا في الحرب على «الإرهاب» ومعاداة إيران وبدء العمل على تغيير برامجها وخطابها الديني والمحافظة على استقرار سوق الطاقة. وكانت إحدى أهم أسواق الأسلحة الأميركية، ودعمت صناديقها اقتصاد الولايات المتّحدة في اللحظات الحرجة، والذي كان قد بدأ يعاني من تعثّرات على وقع عدّة عوامل خارجية وداخلية حينها. نعم، بقيت السعودية حيث تريد أميركا شريكاً وفياً لسياساتها، بينما تمكّنت أميركا من مساعدة المملكة في حماية نفسها من التهديدات المتزايدة.
لم تنجح الولايات المتحدة في تحقيق أهدافها المعلنة فاعتُبِر تقرير بيكر-هاملتون إيذاناً بمرحلة أميركية جديدة سيقودها الرئيس باراك أوباما. لأوباما إدراك مختلف وتقييم مغاير لوضعية أميركا وحدود قوّتها وتعريف مصالحها على امتداد المسرح الدولي. بينما ستتلقّى السعودية هذا التقرير، ووصول أوباما إلى البيت الأبيض، بالقلق والتوجس، يبدو أنّ المملكة انكشفت وفشل رهانها، فهل قدرة الولايات المتّحدة محدودة فعلاً؟
لأوباما وإدارته اقترابات وتصورات مختلفة عن سابقاتها، ليس فقط لجهة الاستراتيجيات، بل لجهة إدراك الذات وحدود القوة والدور الخارجي ومكانة المنطقة وأولوية شرق آسيا ومحوريته ومسؤوليات الحلفاء المفترضة لتخفيف العبء عن الدولة الأميركية والمواطن. تركت هذه الرؤية آثارها بكل اتجاه في أميركا وخارجها. تعدّلت النظرة إلى الشرق الأوسط والمطلوب فيه من الإدارة الأميركية. انتقلت المقاربة إلى القيادة من الخلف ورعاية التوازن بدل المباشرة وإيجاد الحلول. فهذه منطقة عصية ويصعب فيها الحل كما أمّلت الإدارات السابقة وفشلت. الأفضل هو في احتواء مشاكلها والعمل بالمدى البعيد لإعادة بنائها وتأهيل مجتمعاتها بدءاً من الحلفاء وصولاً إلى الخصوم والأعداء وتعويدهم الاعتماد على أنفسهم. فأصبح المطلوب أميركياً البحث عن «شراكة من نوع مختلف». التهديد الذي يطاول المملكة السعودية هو من الداخل قبل أن يكون من الخارج، كما رأت إدارة أوباما، وعليها أن تدرك أنّ العالم قد تغيّر، ما يفرض عليها تأهيل نفسها وتطوير مشاركتها مع الولايات المتحدة لمواجهة التحديات بدل انتظار الآخرين.
لقد شكّلت رؤى إدارة أوباما صدعاً كبيراً للوعي السعودي وأثّرت على أرضية العلاقة ومبانيها. لقد لمست السعودية، كما إسرائيل، أنّ هناك أموراً كبيرة تتغيّر. فماذا يعني أن تنفتح الإدارة الأميركية على إيران من بوابة الاتفاق النووي دون علم حلفائها أو من وراء ظهورهم كما يقولون. وكيف عليهم أن يفسّروا إصرار إدارة أوباما أن تكون خطة العمل المشتركة عمود خيمة السياسة الأميركية ومرتكزها. فهل بدأ التحوّل في اهتمامات أميركا، وهل سيكون على حسابهم؟ هل وصلت السعودية إلى قناعة أنّها ليست الجهة القادرة على ضبط الإيقاع في العالم الإسلامي السنّي وموازنة خصومها، وأنّ المنطقة تحتاج إلى إعادة تكوين مجتمعي سياسي من جديد منسجم مع أميركا، وأنّ النموذج التركي ضرورة في هذا السياق، وخلال هذه المرحلة ستكون إدارة التوازن والاحتواء بالشراكة بين القوى الإقليمية (كالتفاف على عملية السلام التي سبقت وواجهت الفشل) وتخفيف حدّة الصراعات هي الأمور المطلوبة؟ وإلى أي مدى سيكون لتصدير النفط الصخري المُكتشف أميركياً تأثيره على السعودية والخليج عموماً؟
لم تستطع إدارة أوباما تسويق رؤاها في بنية المؤسسات الأميركية التقليدية، رغم جدّتها وما تحويه. فبنية النظام السياسي الأميركي والاستقطاب الحاد الذي يتّسع ويتعقّد، فضلاً عن هيمنة تيارات على مفاصل هذا النظام، لن تمكّنه أن يحقّق ما أراد ويدخل التاريخ الأميركي اسماً كبيراً كولسن وجورج واشنطن. أزمة ثقة بدأت تشقّ طريقها بين الحليفين، ويمكن القول إنّ وقع الاتفاق النووي مع 5+1 والوهم السياسي السعودي سيدفعان بالمملكة نحو التفكير عن بديل يملأ الفراغ المتوقّع للإدارة الأميركية. فقد بدأت خطوات التطبيع غير الرسمي مع إسرائيل وعبر أدواتها في البحرين وغيرها؛ عبر إسرائيل تتقرّب السعودية إلى أميركا زلفى ويمكن بالتحالف معها أن تملأ الفراغ الإقليمي المتوقّع.
تُعتبر فترة 2008-2016 مرحلة تاريخية بالغة التأثير على بنية العلاقة بين الطرفين الأميركي والسعودي. شهدت هذه المرحلة عدّة تحوّلات موضوعية. الواقع الدولي يفيد بأنّ ردع الولايات المتّحدة وهيبتها في تراجع أمام خصومها، والتحولات الإقليمية النابعة من حكايات النصر التي حقّقتها المقاومة في لبنان وفلسطين بوجه الكيان الصهيوني تطرح مساراً مختلفاً. لم يعد الشعب الأميركي متحمّساً أو يرغب بالانغماس في حروب الشرق الأوسط التي لا تنتهي ولا نصر فيها. ناهيك عن أنّ القوّة تتوزّع ويتغيّر مفهومها وتنزاح شرقاً، وسياسة القرن تقوم على شرق آسيا وعلى التصدي للنمو الصيني الذي لديه إرادة تعديل النظام الدولي وتغييره. إذاً، إنّ الأرض التي يقف عليها الطرفان تهتز والبيئة الدولية كلّها تتغيّر، ما يطرح سؤالاً حول إمكانية عودة العلاقة إلى سابق عهدها. رغم جدّة المقاربة الأميركية وتمايزها، فإنّ المنطقة لن تعود مهمة وحاجة أميركية، لكن يعني أنّ مصالح أميركا ونظرتها إلى المنطقة من ضمن رؤيتها الأشمل للتحديات العالمية والقيادة تفرض استراتيجية عمل مختلفة.
أرخت سياسات إدارة أوباما بثقلها الشديد على صانع القرار السعودي قلقاً وإحباطاً؛ أميركا و5+1 تفاوض إيران في الوقت الذي كانت السعودية تخوض فيه أشرس صراع مع إيران وتحاول إقناع إسرائيل بضرب حزب الله في لبنان. أميركا تؤسّس لقبول «الإخوان المسلمين» -القطب المنافس والمصارع للمملكة ولزعامتها- أميركا تعيد قراءة مصالحها وطبيعة انخراطها وحدوده في المنطقة بعد زمن من العسكرة وادّعاء تأمين الحمايات المباشرة في وقت كانت فيه السعودية غارقة في اليمن تُستنزف هيبتها وقدرتها. أمّا على المقلب الآخر، فقد توالت انتصارات وإنجازات محور المقاومة في مواجهة محور السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، إسرائيل، أمّا إيران فتسير بثبات نحو دولة عتبة نووية والاعتماد على الذات وكسر الحصار وتكريس الحاجة الدولية إليها. بينما كان مسار تحوّل مجتمعي سياسي يشقّ طريقه في سوريا والعراق ويراكم لبنان من قدراته الردعية وتهديد الكيان الصهيوني ويثبت أنّ المقاومة حاجة لبنانية وعربية وكذلك المقاومة الفلسطينية التي تمكّنت من إفشال عدّة حروب إسرائيلية وتحقيق مستوى متقدّم من ردع الكيان. وكان التطور الأهم في الخريطة الجيوبوليتيكية، والأخطر الذي واجهته المملكة، هو ما تولّد من طاقة مجتمعية هائلة مناوئة للمملكة وإسرائيل وأميركا وقادرة على إلحاق الهزيمة بـ«عاصفة الحزم» السعودية. وثالثاً، انكشاف المملكة لجهة قدرتها على قيادة العالم العربي و«الإسلامي السنّي» وتجييرهما لحروبها وأجندتها. اعتُبرت هذه الفترة أوّل خروج للمملكة من خلف الستار إلى ميدان الأحداث المباشر، الميدان الذي حمل من سبق من الأمراء إلى العرش وأعطاهم هالة معيّنة. كل ذلك زاد في هواجس صانع القرار السعودي ومخاوفه وقلقه، فخصمه الإقليمي يزداد نفوذاً وقوة وتأثيراً بينما يشعر أنّ ظهره وظهيره الدولي يكشفه ويتخلّى عنه في غمرة العواصف. وازدادت الخشية من أن يستشعر الداخل السعودي أنّ آخذ القرار وصانعه في المملكة أصبح مربكاً وضعيفاً.
بكلمات مكثّفة يمكن القول إنّه ما بين عامَي 2008 و2016 طاولت التحولات أرضية العلاقة والركائز التي قامت عليها، فحاجة إحداهما الى الأخرى أصابتها تغيّرات موضوعية وذاتية، وانفجر السؤال عند حلفاء أميركا ومنهم المملكة: هل الولايات المتّحدة تتغيّر وتفقد قدرتها على إدارة السياسة في عالم متنوّع، وهل العلاقات السياسية إلّا ثقة والتزام. لكنّ هذا التباعد والتصدّع اللذيْن أصابا العلاقة لن يأخذا أميركا إلى فضّ التحالف، بل يأخذان الطرفين نحو إعادة تعريف حاجاتهما ومصالحهما المتبادلة وموازنتها وفق المتغيّرات الجديدة.
فشل أوباما في تثبيت أركان رؤيته للمنطقة لأسباب عديدة؛ لم يتمكّن من حماية قراره بخطة العمل المشترك ورفع العقوبات التي نصّ عليها الاتفاق عن إيران، ولم يتمكّن أن يزاوج بين القوّتين السنّيتين المتنافستين - «الإخوان» (بزعامة إردوغان) والسعودية بالتعاون مع الإمارات العربية المتّحدة. فالواقع أعقد من التصوّر والمنطقة تحمل مفاجآت كبرى وتعيد سحب الأطراف إلى ثقبها الأسود. لكنّ أفكار أوباما ستكون أشبه بحقائق لا يمكن لأي إدارة القفز فوقها وتخطّيها بغضّ النظر عن التكتيكات والتباينات الناتجة عن الصراع والاستقطاب الداخلي الحاد الذي بدأ يتفاقم بشكل غير مسبوق منذ دخول أوباما البيت الأبيض.
دخلت السعودية على خط الانتخابات الأميركية علناً للمرّة الأولى في تاريخها دافعة لوصول الجمهوريين برئاسة دونالد ترامب. قدّمت المملكة ترامب أنّه حليف من نوع مختلف، سيعيد العلاقة إلى مكانتها ويطوي مرحلة أوباما بمساوئها، وأنّه سيجاريها في رؤيتها وتصوّراتها للمنطقة خصوصاً في مواجهة إيران. طرح وصول ترامب إلى البيت الأبيض سؤالاً كبيراً حول الديموقراطية ومستقبل الاجتماع الغربي وما ينتظره، واختلفت الآراء في تقييم سياسته الخارجية وأثرها على العالم والمنطقة. لكن، رغم تمايز واستثنائية الترامبية، إلا أنّها أبقت على أولوية شرق آسيا مع تغيير في أسلوب مواجهة الصين، بينما شهدت سياسته للمنطقة تغييراً مهماً كان عنوانه الأبرز الخروج من الاتفاق النووي وإعادة تكريس السعودية والإمارات ومصر السيسي على حساب «الإخوان المسلمين» الذين كان قد تراجع حضورهم وزخمهم بعد سلسلة الإخفاقات التي منوا بها بدءاً من سقوط تجربتهم في مصر ومقاربة السياسة بعقلية التاجر.

يمكن اعتبار أنّ السنوات الأربع لترامب كانت بمثابة إعادة ترميم لعلاقة وصلت إلى الحضيض مع سلفه، إن من خلال سلوكيات متفرّقة أوحت بها إدارته أو من خلال خطاب أكّد على التحالف مع السعودية بخلفية مختلفة هذه المرّة. الأهم هو أنّ إدارته لم تباشر العمل بأي مقاربة تطويرية للعلاقة مع المملكة أو نقلها إلى مرتبة تحالفية متقدّمة وموثوقة، بل بقيت في حدود الترغيب والترهيب للمملكة وتأكيد عوز وحاجة المملكة في أصل وجودها إلى أميركا. ونشط بقوّة على خط اتفاقية «أبراهام» لدمج إسرائيل بالمنطقة، ولم يلاحظ تغيّر جوهري لإدارة ترامب في اليمن عن سابقتها، ولا في سوريا ولا في العراق ولبنان، بل زادت وتيرة الضغط على خصومها في لبنان. ورغم أنّ المملكة سعت مع إسرائيل من وراء الستار لتوريط إدارة ترامب في حرب مباشرة في المنطقة لصالحهما، لكن الإدارة الأميركية لم تتجاوب مع الطرح. في المحصّلة، غلبت على سياسة ترامب الشخصنة وعقلية البيزنس والصفقات، لذلك رغم ادّعاء المملكة باستعادة العلاقة مع أميركا، لكن في العمق بقيت العلاقة بعيدة عن محاولات جادّة لبناء ركائز وقواعد صلبة وواضحة بين الطرفين، فالعلاقات السياسية التحالفية هي في النهاية التزام. وسياسة البيزنس في منطقتنا لا تشكّل ضمانة يمكن الركون إليها وقد تخلّف تداعيات وارتدادات سلبية بكل اتجاه. فـ«أرامكو» ضُربت في زمن حكم ترامب ولم يتحرّك الأخير إلّا ببعض بيانات الإدانة وإظهار الدعم. لذلك، يمكن القول إنّه، رغم التحسّن الذي أظهرته سلوكيات إدارة ترامب في علاقتها بالمملكة، إلّا أنّها لم تقدّم تصوراً بيّناً لطبيعة ومستقبل هذه العلاقة، بل بقيت أسيرة مصالح وشخصنات ومواقف ترامب بلحاظ الداخل الأميركي. لم تظهر العلاقة مع السعودية من ضمن رؤية سياسة خارجية بقدر ما كانت ورقة في أروقة الصراع الأميركي الداخلي والمنافسات الحادة. فلم يطرأ جديد سوى بعض السلوكيات المتفرقة والخطاب فحسب دون الوصول إلى جوهر العلاقة لتقويمه.
اليوم، يزور بايدن السعودية والمنطقة في ظرف دولي وإقليمي وسعودي وإسرائيلي مختلف جذرياً عمّا أرادته أو طمحت إليه الإدارة الأميركية. يزورها وكأن كل شيء قد تغيّر، يلمس أنّ خصومه أقوى وحلفاءه أقل احتراماً وثقة به وبسياسته وأقلّ انصياعاً لإرادته، ربّما اكتشفوا سوء التقدير الأميركي والتردّد وغياب السياسات. يزور المملكة والمنطقة وهو في موقع الرئيس الضعيف داخلياً وخارجياً، فالإخفاقات توالت منذ وصوله إلى البيت الأبيض لدرجة أنّه يبحث عن نجاح في سجلّه فلا يجده. هو ذا يتخلّى عن خطاب القيم الذي اعتبره ركيزة في سياسته الخارجية، وتجاوز تحالف الديموقراطيات الذي دعا إليه ابتداءً. أميركا يخذلها التردّد وتعيش حيرة توجيه تركيزها. العالم كله من حولها يتغير. الشعب الأميركي في أخطر تضخم منذ 40 عاماً. الانتخابات النصفية تحاصر بايدن، وحاجته إلى عدم تقارب خصومه تقلقه وتحاصره، ويحاصره أيضاً الاستقطاب المستفحل في الداخل الأميركي. وحسابات الحرب في أوكرانيا لم تأت متطابقة مع حسابات البيدر.
بايدن يعمل في بيئة دولية تتّسم بالمعطيات والحقائق التالية: الحصار الاقتصادي بلغ نهايته وصار سيفاً ذا حدّين، الغرب المادي يبحث عن معنى لحياته في المادة ولا يبدو البديل متاحاً قبل عقد، الحماية تحتاج إلى إعادة تعريف، منطقة المتوسط تعود لتؤكد أهميتها وخصوصيتها كحاجة كبرى لمختلف القوى الدولية، الأحلاف صارت على القطعة بدل تلك الجامدة، الحرب في أوكرانيا مهما تصعّدت لا يمكن أن تشيح النظر عن غرب آسيا وأهميته، محور المقاومة هو الرقم الأصعب في المنطقة والقادر على لعب دور بيضة القبّان الدولي، العالم يولد من خاصرة أوكرانيا، تقارب قسري لخصومه الدوليين. باختصار، يلتقي الطرفان في لحظة من تراجع معنى الحماية وتغيّر مفهوم الأمن والتحوّل الهوياتي، والقلق عند الطرف السعودي بينما الطرف الثاني، أي الأميركي، يعاني من حالة أشبه بالاحتضار أو أشبه بما سمّاه المفكر السياسي باتريك بوكان «موت الغرب». فيما الكيان الصهيوني يعاني من عقم في النظام وقدرته على مواجهة التحدّيات المتنامية داخل فلسطين المحتلة وخارجها، وعدو إسرائيل الوجودي، إيران، توسّع من مساحات علاقاتها الخارجية وتفاعلاتها فتخرج من الحصار السياسي والاقتصادي وتعمّق مكانتها في البناء العالمي الجديد الذي يعمل عليه من خلال خطواتها نحو البريكس ومنظمة شنغهاي وكسر الحصار عن روسيا، وتصر على تنويع الخيارات الاقتصادية بينما هي تتقدم كدولة عتبة نووية وتفاوض الغرب من هذا الموقع المحتاج إليها إلى حد كبير.

على وقع هذه التحولات الكبرى، الذاتية والموضوعية، عند كل طرف، والبيئة الخارجية والدولية، يمكن القول إنّه لم تعد أميركا قادرة على تأمين حمايات. ولم يعد ردعها بنفس المستوى السابق. ولا يبدو أنّ لأميركا رؤية خارجية واضحة. ولم تعد السعودية بموقع من يملك ترف الوقت والمغامرات غير المحسوبة، فغزو قطر وحرب اليمن أعلنا بما لا يترك مجالاً للشك أنّ المملكة يمكن أن يطاولها تهديد ما بعد استراتيجياً وأنّها يجب أن تعيد النظر في إدراكاتها ورؤيتها للعالم والإقليم. ناهيك عمّا تقدّم، إلى أي مدى يتيح الواقع الدولي القدرة على الالتزام الجامد في لحظات التحوّل الكبرى. هل من مصلحة أميركا أن تكبّل نفسها بشريك هشّ وقلق أم مصلحتها أن تتعاون مع المملكة على الحبة أو القطعة؟ ثم أَوَليس من مصلحة السعودية أن تأخذ هامشاً في سياستها الخارجية بعدما رأت عجز أميركا في أوكرانيا وقبل ذلك في مواجهة إيران وأيضاً في انسحاباتها من العراق وأفغانستان وتراجعها عن تنفيذ التزام مدّعى في سوريا؟
السعودية اليوم تبحث في كيفية ترميم موقعها السياسي ومكانتها المتقهقرة في العقد الأخير، فضلاً عن تمكين محمد بن سلمان من العرش والاعتراف به، تبحث عن ضمانات فعلية لأمنها الاستراتيجي والداخلي، وتبحث عن ضمانة حماية شريان الحياة عندها وإمدادات النفط، وتنتظر من الأميركي شيئاً موثوقاً على هذا الصعيد، فهل بايدن قادر على تقديمه؟ بينما أميركا تحتاج إلى بقاء الستاتيكو في هذه المنطقة كحاجة وتأمين إمدادات الطاقة لحلفائها والسعي لإبقاء السعودية حليفاً إسلامياً يشكّل نافذة لعلاقتها مع المسلمين -السنّة- وسوقاً كبيراً لمنتجاتها وأسلحتها ومنع القوى الدولية، إيران وروسيا والصين، من ملء فراغ تردّدها وفقدان تركيزها الاستراتيجي في الشرق الأوسط، خصوصاً أنّ التزاحم والتنافس على غرب آسيا بدآ يزدادان حماوة بين الأطراف الدولية، وأميركا التي باتت تخشى على إسرائيل الاستمرار الفعّال في بيئة استراتيجية متغيّرة لغير صالحها.
الأسئلة الكبرى التي تؤثر في مستقبل هذه العلاقة كثيرة ولا إجابات حاسمة على أيّ منها حتّى لو ادّعت أميركا رغبتها مجدداً في الانخراط. الشيء الوحيد الواضح أنّ هناك مرحلتين تحتاجان إلى علاقة تُبلور على أساسهما لشدّة ترابطهما وتأثيرهما: الأولى، مرتبطة باللحظة الحالية التي نمرّ فيها وكيفية الخروج منها. والثانية، مرتبطة بالبناء الإقليمي والدولي الجديد الذي يتهيأ العالم له.
في بيئة تتّسم بالغموض والتحوّل، كما هو حال عالمنا اليوم، عادة ما تلجأ الأطراف لبناء علاقات بـ«الحبة» وعلى «القطعة» وتغيب التحالفات الجامدة. في ظروف دولية وداخلية أميركية سيصعب على أميركا القيام بالتزاماتها السابقة حيال شركائها حتّى لو رغبت ذلك. في لحظة تهاوي فكرة الردع التقليدية وانحسار فاعلية الحصار السياسي والاقتصادي سيفرضان تعديلاً في منهجيات الصراع وإعادة تعريف معنى الربح والخسارة، وفي لحظة التحوّلات الداخلية التي تصيب أميركا والغرب، مع أي أميركا سنتحدّث بعد سنتين أو ثلاث من اليوم وأي تفضيلات ستلتزم بها، تفضيلات الاستابلشمنت التقليدية أم الاتجاهات القومية المتصاعدة؟ كل ذلك وغيره يدفعاننا للقول إنّ الطرفين يحتاجان إلى معاودة اكتشاف سياستهما الخارجية أوّلاً ومعالمها حيال منطقتنا وصولاً إلى استكشاف حدود حاجتهما وتوقعاتهما المتبادلة لمصالحهما المشتركة والمقدور عليه منها في عالم ما بعد الأُحادية. الأكيد أنّ الصيغة التي عرّفت علاقتهما السابقة انتهت، وأنّه رغم حاجتهما النسبية إحداهما إلى الأخرى اليوم، لكنّ الهوّة في الانتظارات المتبادلة تزيد ويصعب أن يفي بها، ولا سيّما الطرف الأميركي، كما السعودي الذي ستحكمه اعتبارات متناقضة لا تقل عن تلك التي أصابته تاريخياً، فهل يستطيع أن يكون على فالق صراعين، بين أميركا من جهة والغرب وبين إيران وروسيا والصين، أم ستكون مصلحته بالبحث عن طريق آخر يجنّب كيانه الكأس المرّة؟
أتى بايدن عارضاً أفكاراً ورؤى للمنطقة خلال زيارته، لكن كلّها ينقصها القدرة الفعلية محل الرغبة وينقصها ثقة ابن سلمان بحكومة بايدن وكفاءتها. لم يعد محمد بن سلمان بحاجة إلى بايدن ليصل إلى الحكم، بل أصبح بايدن بحاجة إلى ابن سلمان ليبقى أو ليتمكن من الحكم. وما يتحدّث به بايدن عن تعزيز التطبيع مع الكيان الصهيوني وعن «ناتو عربي» وعن... كله يبدو سياسات تفتقد إلى الاتساق وقدرة إلزام الأطراف بها. فبايدن منذ أكثر من سنة ونصف سنة وهو يتردّد في العودة إلى الاتفاق النووي رغم أولوية ذلك نظرياً وعملياً ومصلحياً، وبايدن، الذي يبحث عن طوق نجاة له، هل هو قادر على النجاة بغيره؟ وأميركا التي فشلت في مواجهة محور المقاومة في ذروة حضورها الفيزيائي في منطقتنا هل ستقدر عليه في ظل التحدّيات العالمية والإقليمية الماثلة أمامها والتي تميل لغير صالحها وفي ظل تبدّل أولوياتها الاستراتيجية والتصدّع الداخلي الذي تعيش تبعاته وأعباءه؟
خلاصة الكلام أنّ هذه العلاقة بحاجة إلى إعادة تعريف حكماً، وليس فقط إلى توجيه كما ادّعى بايدن في «الواشنطن بوست». إنّ زيارة بايدن، التي سعوا لإحاطتها بهالة كبيرة، لن ترقى إلى إعادة اللحمة في ما انكسر بين الطرفين ولن تكون قادرة على تقديم رؤية واقعية ومعقولة لاحتياجات المملكة وهواجسها، وبالتالي لن يكون حصاد الزيارة كبيراً، بل ظرفياً في أحسن الأحوال. المُرجّح والمأمول، أن تكمل المملكة دراسة مصالحها بعناية وتبحث عن طرق نجاتها وتقدّمها بين سياسات القوى الكبرى وتبدّل ديناميات الصراعات الدولية والجبهات المتولّدة والعالم المتغّير. والحذر كل الحذر أن تمارس قيادة المملكة المتوجّسة والقلقة سياسة الهروب من غياب الرعاية الأميركية الفعّالة، أن تهرب من رعاية أميركا إلى وهم إمكانية التقوّي بالكيان والاقتراب منه، فتصبح كمن يطلق النار على قدميه، عندها سنكون أمام واقع آخر وتحدّيات مختلفة. فهل ستقبل المملكة، ومن حولها ممّن دفعتهم إلى هكذا خطوات أخيراً (البحرين والإمارات وغيرهما)، أن يكونوا درع إسرائيل وخط دفاعها الأوّل؟ حان للمملكة أن تنظر بشمول واستشراف وستجد طرقاً أخرى أمضى وأمتن وأوثق.

* باحث لبناني