في كتاب «الجمهورية غير المستقرّة: التحديث السياسي في لبنان»، بقلم مايكل هدسون، 1968، يصف الكاتب «الديموقراطية اللبنانية» بـ«الديموقراطيّة المحليّة» في مقابل ديموقراطيّة الصّالح العام، بحسب التعريف الإغريقي لها. ويشرح تعليقه على عمليّة التحديث السياسي في لبنان، والفلسفة المعقّدة التي نشأت عليها، ليخلص، بناءً على ذلك، إلى أن الجمهوريّة اللبنانيَّة جمهوريّة غَيْر مستقرّة وتنبئ بمواجهة الكثير من المخاطر التي ستعترض مصيرها إذا لم تقم ببعض التحديث السياسي في بنية نظامها وأسس الدستور القائمة عليه. كرديف، ومقابل، بعيداً عن فلسفة لبنان في «ديموقراطيّته» الطّائفيّة، في تعريف وبناء الإنسان، يقول فرانسس بيكون إن المعرفة تكون إمّا بالتقليد أو النّقل، أو بالملاحظة للإنسان والطبيعة، أو بالخبرة والتّجربة. فتتم المطابقة؛ التقليد يبدأ في الدين والتراث، الفلسفة هي الملاحظة واستخلاص العِبَر، والخبرة والتّجرِبة هي في العلم. إنّ الدين والعلم والفلسفة هي الأجزاء الثلاثة الأساسيّة في التّعَلُّم. إن أي دولة قائمة على واحد، أو حتى اثنين، من هذه الأجزاء، تتحوّل في نهاية المطاف إلى طغيان، إمّا في الرجال أو في الرأي. هؤلاء الثلاثة يحقِّقون وحدة المعرفة، وعندما تتوحّد المعرفة، تصبح المساواة طبيعيّة، بعد أن أمّنت المعرفة الحرّيَّة للمواطنين كافّة وعُمِّمَت الديموقراطية.
إن البناء الطائفي يؤسس للطغيان، ليُلغى حق الاختيار، فالارتكاز على الطائفة فقط، هو الارتكاز على الجزء، في عنصر الدّين، واحد منها فقط، بمعزل عن عدم اكتمال العنصرين الأخيريْن لهذه المعادلة. وعبثٌ معاكسة مَشْرُوع الله، والسّير عكسه. فبغياب الفلسفة وجزء كبير من العلم، لا عجب من حالة لبنان المتهالكة بما يعانيه من طغيان في الرأي وفي الرجال. وفي هكذا «ديموقراطية» طوائف، تصبح التجزئة مركّبَة ومضاعفة ومعقّدة، والنتيجة معها كذلك، في تجزئة للحقيقة، والقانون وللنتائج المرجُوّة منه.
عرّف الإغريق الديموقراطيَّة بمعرفة حكم الذات. فلبناء الديموقراطية الجامعة لنفسها وللدولة، على هذه العوامل الثلاثة أن تجتمع معاً في نفس كاتب الدستور؛ الدين والفلسفة والعلم، لينقلها بإخلاص وصدق لا مصلحة له في غيرها، ليضع الحجر الأساس لمجتمع ديموقراطي حقّ، يمنح الحريّة بأشكالها كافة، إلى جانب العدالة والمساواة والحقوق غير القابلة للجدل، على الطريق إلى الحياة والحرّية والبحث عن السعادة. الديموقراطيّة غير المجتزأة أو المجزّأة تصل بالإنسان إلى اليقين وتحقيق الذات إلى اللامتناهي وصولاً إلى الألوهة والمطلق.
المعرفة تبدأ من معرفة الإنسان لنفسه ولحقوقه الممنوحة له في الخلق. سُمِّيَت في الفلسفة بالحقوق غير القابلة للتصَرف أو الجدل. عليه البدء باكتشاف الذات والإنسان فيه أوّلاً وهويته، والانطلاق منها إلى نيل تلك المعرفة. الدين هو العامل الرّوحي للإنسان في الاتصال مع الله، تلك القوّة التي صنعته، وأسَّسَته. الفلسفة تريه السبب الذي لأجله خُلِق. يأتي العلم لكي يكون الأداة، في الأبحاث والتجربة والكشف عن مكوِّنات الأشياء لفهمها والوصول إلى المِثَال. عندها فقط يصبح التّطوّر مفتوحاً على لانهائية الاحتمالات والفرص.
لا تستقيم أمور الدولة والمواطن بواحد فقط من هذه العناصر، أو جزء منها، الطّائفة، وتكون كالطاولة التي تقف على نصف قائمة. قانون الجاذبيّة، لأرخميدس ونيوتن، لا يعمل بهذا الشكل، ناهيك بديناميكية فلسفة بيكون. يجب أن تكون مكتملة معاً وعلى الثلاثة أن تجتمع معاً من أجل بناء شخصيَّة مكتملة، تقف واثقة، تمتلك الواقع وتخضعه لمشيئتها بدل الخضوع له، وللتأسيس لدولة تبني نفسها وأبناءها على هذه الحقيقة.
كي يمتلك الإنسان فهم دور كل من هذه العناصر في تكوين نفسه عليه الانطلاق من الدين، صِلَة الوصل بين الله والإنسان، ومعرفة نفسه من خلال نظرة الخالق إلى دوره له، والهدف المطلوب منه، مع ضمّ ذلك مع فلسفة الله له، وبمعنى الحياة التي منحها له. انتهاءً بالعلم للبحث والسعي لتحقيق الهدف منها والوصول إلى الكمال ومصاف الألوهة. لبناء دولة ديموقراطية، لا بد أن يبدأ من بناء الإنسان لذاته، فالانطلاق الصحيح يؤدّي إلى الوصول الصحيح، والعكس كذلك صحيح.
إن جمع الدين والفلسفة والعلم، في أسس الثقافة الذاتية والاجتماعيّة، والدولة، بعد تحقيق المعرفة، يحرِّر الجميع من عقدة الذنب، إلهيّة السّبب كانت أم سيكولوجية نفسيّة، سيّان، بتحريرها من الجهل والخوف من المجهول والوهم. إن التحرّر من عقدة الذنب، يفتح الآفاق للانعتاق من كل الأخطاء، والبدء بحرّية دون النظر إلى الخلف بمعزل عن الآلام والمعاناة السّابقة، وتصبح المصاعب فرصاً للانتصار عليها. لتكوين النفس البشريّة بتوازن بين العقل والعاطفة والروح، على الإنسان فهم دور الدين والفلسفة والعلم، ككتلة واحدة مجتمعة في تثقيف نفسه، ومعادلة الموازين التي تؤسِّس لتوازن كيانه وتساعده في بناء نفسه المتحرّرة من الخوف من المجهول والوهم وكل عقد الذنب وآفاته، ولماذا خلقه الله، وتتالياً بناء الدولة. لذا، عليه أن يختار اللجوء إلى الله والعودة إليه، والتصالح والمسامحة معه ومع نفسه، لتصحيح أخطائه والبدء بالبناء من جديد، وصولاً طبيعيّاً إلى الديموقراطيّة والسلام الدّاخلي مع نفسه والإنسان الآخر، كعلاج طبيعيّ من أجل شفائه من عقدة الذنب، التي سبَّبها العصيان والسقوط الأوّل. فيزيل الشّك ويُبقي اليقين ويقود الحياة في دولة ديموقراطية غير مرتهنة لأي خطّة أو سلطة، خارج علاقتها مع هذه الحقيقة دون المرور بأيّ سلطةٍ أخرى مهما علا شأنها. عندها فقط تصبح المعرفة قُوّة، مع مرونة الفهم، بعد أن أمّنَت هذه الأقانيم الثلاثة أسساً لمعرفة يحتاج إليها الإنسان لكسر اتهامات اللاوعي أو الوهم، وضبط الطبيعة، بعد أن اكتُسِبَت الديموقراطية من الجميع بكَدّ وقناعة وجهد صادق، يُغْنِي الفهم والعقل، ويبني الإنسان ومجتمعه ودولته، فلا يسهُل التلاعب بعدها بقناعات الفرد، لتتجذَّر هويته ومعرفة نفسه، كمواطنٍ صلبٍ، لا تهزّه الأزمات وأصبح يمتثل للدور الإلهي المرسوم له، في هدف الله له، لا أحد غيره، أيّاً كان.
يؤمّن العمل بهذه الأمور والإيمان بها مرونة الإنسان وقدرته على التجدد الناتج عن الفهم والاستيعاب الكامل بيقين أن الخير والشّر يعملان معاً في نفس هذه التجربة، لما تركته عمليّة الخلق والتجاذب بينهما، تاركةً للإنسان إيجاد طريقه بينهما في الوصول إلى الأفضل. الدستور الموضوع وفق هذه الأسس الثلاثة وفهم واضعه لها ولأهميتها في تكوين العود الصّلب للمواطن العارف لنفسه وحقوقه وذاته، لن يقبل إلا بدولة تشاركه الفلسفة هذه، تحقق احترامه لها، واحترامها له وللآخرين معه، فتتحقق العدالة والمساواة والحرّية بكامل أوجهها، وتُرسَم فلسفة الدّولة ودينامية حركتها للوصول بها إلى معرفة ذاتها والطريق الذي يقودها إلى قطع حبل السُّرَّة مع كل تلك الاتّكاليّة والوصول إلى النضج والخلاص، لتستطيع أن تحكم نفسها.
لا تستطيع أيّة أنظمة تعليميّة من تحقيق الإنسان ذي القيم الموحّدة تلك، من تحقيق ثقافة وشخصيَّة واحدة، إلا إذا استندت وبُنِيت على كامل هذه المرتكزات الثلاثة. عندها فقط تكون الثقافة جامعة وشموليّة مُوَحَّدَة وموحِّدَة لكل المواطنين، لأنها تجمع العناصر الرئيسية التي تبني الشخصية المتكاملة المحيطة لكامل دائرة الحياة، واعية لدورها فيها.
يشكّل البعد في التعليم في مؤسسات ثقافية لا تلتزم هذه الأعمدة الثلاثة، اجتزاءً للغاية المرجُوّة من التعليم الذي يبغي الوصول بالإنسان إلى المفهوم الديموقراطي في ممارسة العيش ضمن مجتمع مُوَحّد، ودولة متماسكة تعرف ماذا تريد ويعرف هو فيها أوّلاً ماذا يريد. ففي هذا الاجتزاء خطرٌ على اجتزاء الحقيقة نفسها. لا بدّ لنظامٍ تعليميٍّ يلتقي على هذه الأسس في عمليّة بناء متماسكة أن يصل إلى النتيجة المضمونة في بناء الديموقراطية. لأن تعدُّد مشارب المدارس والمعاهد والجامعات دون أيّ رابطٍ بينها وبين هذه العناصر، والذي يوَحِّد المعرفة فيها على هذه الأسس، يصعِّب عمليَّة بناء الإنسان ويعقِّدُ عمليَّة بنائه ونضجه، ومن ثم بناء ونضج الدّولة المستقلّة والحرّة والسّيِّدة التي تعرف نفسها وتعرف ماذا تريد وما هي حدودها. من الواجب اختزال التعليم الديني في هذه المؤسسات إلى الحد الأدنى، للانطلاق من أرضيّة متساوية في بناء متعادل وحرّ لإنسان يحتضن الديموقراطية داخل تكوينه، وترك ذلك للمجتمع أن يلتهم الإنسان حرّاً مختاراً منه ما يودُّ لنفسه بحريّتِه وعلى المجتمع تأمينها بنضج ومن دون تعصّب له، مع مزجها ببعض الفلسفة والعلم كذلك، على الأقل في الالتقاء معها على طريق خطّة الخالق للإنسان وتوسيع مدارِكه واستيعابه لها وللآخر، كموجود، بدل التّحيُّز والانعزال والتقوقع.
أي اجتزاء للحقيقة هو اجتزاءٌ لليقين، وتصبح نقطة الوصول خارج خارطة الله للإنسان وخارج خطته له. أي تصبح نقطة في الوهم والعدم وكل أنواع المخاطر والانزلاق لصرح الحياة ومجازفة فيها على حافة الانهيار. عندما تُجتَزَأ الحقيقة، تتشظّى، وتصبح شظاياها أجزاء حقائق غير مكتملة، يستعمِلُها كُلٌّ حَسبَ أهوائه، فيتلاشى العقد الذي يجمعها وتضيع الحقيقة، وتعمّ الفوضى. فيفقد الإنسان فيها قدرته على الإمساك بخطّة الحياة من جديد، ويبتعد الإنسان ويصبح في تعدّد تطلّعاته التي نشأت نتيجة الحقائق المجتزأة، مجرّد وحشٍ آخر مُتَقَدِّم قليلاً عن الوحوش الأخرى.
على القانون أن يكون حازماً، انطلاقاً من التّشريع في تطبيق هذه الرّكائز الثلاث مجتمعة في الثقافة التي تُجمع على هذه الحقيقة كاملة دون اجتزاء... قانون كامل غير مجتَزأ. يسهل فهم القانون عندما يكون بسيطاً. فبحسب صولون العاتي، مانح القانون اليوناني، فإن قوانين الدولة المثالية قليلة وبسيطة، لأنها مستمدة من اليقين. في الدولة الفاسدة القوانين كثيرة ومشوّشة، لأنها مستمدة من عدم اليقين. والبدء بالنظام الطَّائفِي في تحديد هويّة الانسان، هو عدم اليقين بعينه. قانون ينطلق من الحقيقة العامّة لروح الخلق وخطّته للإنسان. إن تجزيء القوانين بأجزاء قوانين، تحتاج هي نفسها إلى قوانين أخرى مجتزأة هي الأخرى لتوضيحها، هو مجرَّد منح ترخيص، ليليه الدخول في دوّامة التفسير، ومن ثم الاستئثار والتحيّز للذات وأهوائها، ويصبح الحقّ سراباً لمن يجده!
يصبح الإنسان فيها مطارداً من القانون الذي يطارد الضعيف بينما القويّ يخترقه حين يشاء، تماماً كخيوط العنكبوت التي تلتقط الحشرات الضعيفة، بينما تخترقها الوحوش الضارية. في هكذا حال تعود الدّولة إلى حالة الطبيعة بحسب ثوماس هوبز؛ الحياة دنيئة متوحّشة وقصيرة، وتكون النهاية، جزء الحقيقة، وجزء الحقيقة هو الرّياء، بل أبشع أشكاله.
إن الدستور اللبناني، دستور مُجْتَزَأ لم يستشِر حتى الركيزة الأولى لهذه الركائز الثلاث بشكلٍ كامل، بل اختار الانطلاق من الفروع؛ الطّوائف، وفي ذلك اجتُزِئت حقيقة الدّين الكاملة وابتعد الفرع عن الأصل. الأفضل الانطلاق من الأصل إلى الفرع، إذا أردنا بناء الإنسان الواعي والنّاضج الذي يعرف ما هي الحياة. هذا بالإضافة إلى عدم رجوع الدستور إلى الفلسفة والجزء المتبقّي مما هو مطلوب في استكمال بند العلم. قيل في زمنٍ ماضٍ: مَنْ جَدَّ وَجَد، وَمَنْ زَرَع حَصَد. هذا ما زرعناه، وهذا ما نحصده الآن. ما زرعه الآخرون، زرعوه لأنفسهم! متى يحين دورنا؟

* مهندس وباحث