بعد وفاة الإسكندر الكبير تفكّكت الإمبراطورية اليونانية التي امتدّت شرقاً حتى نهر الأندوس، فغزا الملك شاندرا غوبتا عندها شمال الهند مؤسّساً للسلالة المورية. بعد وفاة شاندرا تولّى العرشَ ابنه بيندوسارا، ومع دنوّ أجله بدأ يبحث عن وريثه المفضّل. تقول الأسطورة إنّ أحد أبناء بيندوسارا من الذين رفضهم قبلاً، كان مهووساً بسعيه لتولّي العرش إلى درجة قتل كلّ إخوته (من أمّهات متعدّدات) البالغ عددهم تسعة وتسعين. مزهوّاً بزيّ لا يحقّ ارتداؤه إلّا للإمبراطور، وقف الابن المسعور أمام والده المحتضر معلناً بازدراء: «أنا خليفتك الآن!». هذه كانت بداية أشوكا. في القرن الثاني قبل الميلاد، بدأ الإمبراطور الهنديّ عهداً من الإرهاب والظلم. يُروى أنّه بعد رفض وزراء أشوكا أحد أوامره بقطع أشجار فاكهة محيطة بقصره، قرّر قطع رؤوسهم بدلاً منها. شرّه لم يعرف حدّاً. بنى أشوكا قصراً ضخماً لضحاياه السذّج. لم يدركوا إلّا بعد فوات الأوان أنّ في أعماق القصر غرف تعذيب مصمّمة للقتل عبر أكثر خمس طرق إيلاماً. عُرف القصر بجحيم أشوكا. لم يكن كلّ ذلك أفظع ما قام به، فقد شرع باستكمال غزو الهند الذي كان بدأه جدّه، مرسلاً قوّاته إلى كالينغا لإبادة سكّانها فقتل مئة ألف حسبما اعترف لاحقاً. وفيما وقف أشوكا فوق أنقاض الجريمة وجثثها مستعرضاً انتصاره، تجرّأ أحد السكان على الدنوّ منه، حاملاً جثّة طفل رضيع بين يديه. قال هذا التلميذ البوذيّ الشجاع الذي فُقدت هويّته عبر التاريخ لأشوكا: «أيّها الملك العظيم، أنت الأقوى بحيث يمكنك القضاء على مئات الآلاف من الأرواح كما تشاء، أرني مدى قوّتك حقّاً، أرجع الحياة لهذا الطفل الميت».شجاعة ذاك الفيلسوف الجريء وحكمته وجدتا القلب في رجل بلا قلب. لم يعد أشوكا هو نفسه بعد ذلك اليوم. فقد أقام في موقع كبرى جرائمه العمود الأوّل من ما عُرف بعواميد أشوكا، وهو واحد من عشرين عموداً لا يزال صامداً حتى اليوم. عليه نقش أشوكا: «كلّهم أطفالي. أرغب في رفاهية أطفالي وسعادتهم، كما للجميع». توسّع تعريفه لصفة القرابة ليشمل كلّ الناس. حظّر طقوس التضحية بالحيوانات والصيد من أجل الرياضة. أسّس مراكز بيطرة في أنحاء الهند، ونصح مواطنيه بالتعامل مع الحيوان بلطف. حفر الآبار لجلب المياه إلى المدن والقرى. زرع الأشجار وبنى الملاجئ على طول طرقات الهند حتى يشعر الناس كما الحيوانات بالأمان. وقّع معاهدات سلام مع دول صغيرة مجاورة كانت ترتجف سابقاً عند ذكر اسمه. حكم أشوكا الهند ثلاثين عاماً إضافيّاً، بانياً المدارس والجامعات والمستشفيات وحتى دور العجزة. استحدث التعليم للإناث والرعاية الصحية المجانية. أمر بمراجعة أوضاع من سُجنوا ظلماً، وباحترام جميع الأديان سواسية. ووصل به الأمر لإرسال مبعوثين بوذيّين إلى المشرق العربيّ بهدف نشر تعاليم التعاطف والرحمة والتواضع والسلام.
ألفيّتان ونيّف مرّت، أرسِلت فيها إلى المشرق تعاليم جديدة من خلف البحار، أعادت التعاليم «الأشوكية» إلى عهد ما قبل الوحي. التعاطف والرحمة والتواضع والسلام تحوّلت إلى أنانية حوتية وتعذيب ومجاهرة بالإذعان والتطبيع وحروب. المئة ألف ضُربت بعشرات الأضعاف ممّن سقطوا ضحايا في الجزائر وفلسطين والعراق والسودان واليمن وسوريا وليبيا ولبنان والصومال والصحراء الغربية. الإمبراطورية امتدّت لتشمل أصقاع العالم هذه المرّة، عاثية خراباً ودماراً وفساداً وإفساداً عبر اجتياحات وغزوات وانقلابات وحروب وتقسيم وسرقة موارد، وعقوبات وسيطرة على ماليات وتدمير اقتصادات، وأوامر عمليات وتمويل منظمات، ورهن شعوب ومستقبلات، وصخرات سوداء، ومجازر ونوويات وتشوّهات. وكما في قصّة أشوكا، شجاع واحد تجرّأ على الدنوّ من القاتل، في محاولة للبحث عن فؤاد حيث لا فؤاد. لم ينجح هذه المرّة. جوليان أسانج صحافيّ من أحرار العالم قابع في سجون الإمبراطورية العجوز ينتظر تسليمه إلى إمبراطورية العصر. الشرّ الذي لم يعرف حدوداً في بدايات أشوكا، عرف الجحيم حدوداً له مع الإمبراطورية والأوركسترا التابعة لها.
أشوكا في عهده «المسعور» لم يكترث لا للإنسان ولا للحيوان ولا للشجر ولا للحجر. أمّا إمبراطورية العصر فمسعورة في كلّ عهودها؛ ليست غير مكترثة فحسب بل كارهة للكائنات والطبيعة، تفعل كلّ ما في وسعها للقضاء على مقوّمات الحياة. فمثلاً، بدلاً من اللامبالاة حيال حياته، يُقتل الحيوان ويُعذّب من أجل الربح السريع. وبدلاً من عدم العمل على تأمينها، يتمّ الإمعان بتلويث المياه وتسليعها وحتى تجفيفها. وبدلاً من اللامبالاة سواء قُطعت الأشجار أم لم تُقطع، تُنهش غابات بأكملها عمداً من أجل الإنتاج الرأسماليّ. وبدلاً من ترك الدول الصغيرة لمصيرها، مهما كان ذاك المصير، تُبتلع وتُغتصب. وبدلاً من عدم إيجاد تغطية صحّية مجّانية، يُضرب عمداً حقّ الاستشفاء من أساسه ويُسلّع حتى يبيت بمتناول فئة صغيرة فقط. وبدلاً من عدم إرسال مبعوثي سلام، تُرسل جيوش ودبّابات وطائرات حربيّة... وهكذا دواليك. كلّ سوء أشوكا كان بسبب عدم اكتراثه وعدم تعاطفه، لكن ماذا يسمّى الاكتراث بكلّ تفصيل من أجل الإيذاء والشرّ فقط؟ هل هذا إثبات لنظرية الشرّ المطلق؟
في لبنان وصل الاكتراث بأدقّ التفاصيل من أجل الإيذاء إلى حدّ قطع الطريق على أيّ احتمال للتحسين مهما كان مستبعداً. بعد حزمة كاملة من الشرّ، تمّ الضغط أخيراً على زرّ يستبق حصول أيّ تغيير إيجابيّ في البلد. أزمات مفتعلة أوصلت إلى انتخابات مبتذلة وكتل مصطنعة. نظام التحالف الثلاثيّ (كومبرادورات، طوائف، رأسمال غربيّ) لم يتغيّر منذ قرن ولن يتغيّر في الوقت الراهن. لذا فكلّ من يشارك فيه ويبقى «مرتاحاً»، ذلك يعني تصالحه مع هكذا نظام. ليس مثيراً للعجب «ارتياح» أحزاب تقليدية، لكنّ الارتياب يصبح مشروعاً عند دخول فرقة جديدة تدّعي «التغيير» فيما هي جوقة في أوركسترا الإمبراطورية. الطامة الكبرى ليست هنا بل في أنّ مَن «يدركون» تماهي «الأحزاب» مع «النظام» لا يرون أنّ هذا النظام نفسه، بمرتكزاته الثلاثة، أنتج الجوقة الجديدة؛ هذه الجوقة أتت مرتديةً حلّة «التغيير»، ليس لشيء غير قطع الطريق على فرقة أخرى قد تخلقها الظروف من خارج النظام المذكور يكون هدفها التحسين حقّاً. وقد شرح عامر محسن تلك الفكرة في مقال عبر التذكير بما كتبه لينين عن مثال كاتبٍ يساريّ ألمانيّ قال إنّ على الأحزاب اليسارية التي اصطفّت مع السلطة الحاكمة والنظام الرأسماليّ أن تبقي على «مظهر» الحزب العمّاليّ وإلّا فإنّ حركة جذريّة عن حقّ قد تصعد وتتبنّى هذه الشعارات. وهذا هو لبّ وصول «جوقة التغيير» إلى لبنان.
قائد الأوركسترا أدخل الغناء قبل أن يقرّر الجمهور أنّه يريد فرقة «الروك» (و«الروك» في أوّل أيّامه أتى «تغييراً»، إيجابيّاً، للنمط السائد في الموسيقى)، ففرقة «الروك» (أي الحركة الجذرية) كانت لترفض أساساً ما قبلت به الجوقة من اصطفاف على مسرح لا يشبه «التغيير» بشيء، معروف بريبيرتواره المبتذل وموسيقاه الرديئة. الظهور على برنامج الصفاقة والتصفيق يكفي بنفسه للإشارة إلى أنّ الفرقة الجديدة مزيّفة وليست سوى جوقة في أوركسترا الإمبراطورية. أمّا فرقة «الروك» الجذرية فلم تولد بعد، وربّما لن تولد.

* باحث لبناني