يمكن لمبادرة العماد ميشال عون أن تُناقش في شكلها والمضمون. لكن السمة الغالبة لصدورها هي التعبير عن اضطراب يسود الحياة السياسية اللبنانية، ولا يستثني فريقاً أو حزباً أو تياراً. أول الخلل، في ممارسة القوى التي وجهت وتوجه السياسة اللبنانة، هو في غياب البرامج الوطنية الشاملة. تغيب تلك البرامج ذات الطابع الوطني، اولاً، بسبب تقدم الخاص على العام، والفئوي على الوطني: لا يخطئ اللاعبون اللبنانيون في تحديد الزاوية التي منها يطلون على شؤون بلدهم.
إنها زاوية فئوية، اجتزائية، ومحدودة. اللجوء إلى الحساسيات والعصبيات (وحتى الغرائزيات) هو عنصر محوري في التحشيد والتعبئة وخوض المعارك أو... افتعالها! الاكثر تعبيراً وتأثيراً هو الأكثر تشدداً. يصبح التطرف هو الأسلوب الافضل: من جيل الى جيل تتفاقم هذه الظاهرة وتترسخ في اسلوب الحياة والعلاقات، بعد ان ترسخت وتشرعنت في النظام السياسي الذي يوغل في الجمود والتخلف والفشل (يلاحظ دائماً أنّ الورثة اكثر تعصباً وتطرفاً، وغالباً، أقل جدارة، ما يدفع للترحم على آبائهم!).
تغيب البرامج العامة، ثانياً، بسبب تعاظم وتفاقم دور الخارج في التأثير في الداخل اللبناني. الارتهان شبه الكامل هو ما يميز علاقات القوى السياسية اللبنانية (الاكثر تأثيراً) بالقوى الخارجية. هي علاقات تتوسع وتتعمق باستمرار غير مستثنية اي شأن سياسي أو روحي أو مادي أو أمني أو اعلامي أو، حتى، فني رياضي!
الاستقواء بالدول والقوى الخارجية، من جهة، والارتهان لها ولسياساتها، من جهة ثانية، هما وجها عملة وعملية واحدة. وهذه تجد رواجاً منقطع النظير بحيث يتباهى ممثلو الاطراف اللبنانيين بما يعقدونه من علاقات مع الخارج: بل هم يشتقون لذلك نظريات ومعادلات على طريقة ذلك الذي عرف حده فوقف عنده: ألـ«س ـ س» و«س ــ ألف» هما آخرها وأحدثها. طبعاً الاقوى في هذه المعادلة وصاحب القرار في مسائلها الاساسية، هو الخارج بالتأكيد. فهو الذي يوظف مقدرات الاطراف اللبنانية الملتحقة بما يخدم مصالحه وسياساته ومشاريعه. العلاقات بين القوي والضعيف تقرر نتائجها موازين القوى والجدوى وطبيعة المعارك التي تخاض على المستويين الاقليمي والدولي، لا المبادئ ولا «الشطارة» أو ما سواها من السبل الملتوية...
يعطي المشهد اللبناني الراهن، في تأزمه المتفاقم ،للكثيرين انطباعا خاطئا لجهة طبيعة الصراعات وجوهرها الحقيقي. وهو، من جهة ثانية، يموِّه مشتركات فعلية، تبقى، رغم تعاظم التناقضات وتفجرها احياناً، عاملاً رئيساً وموجها للمواقف والادوار والعلاقات. في الشأن الاول، راكمت الفئات النافذة، خبرة طويلة في استخدام الهويات الاولى والانتماءات الدينية والمذهبية والعائلية والعشائرية، في تشكيل مشهد الصراع العام. وهي كونت، بالاستناد الى ذلك، منظومة سيطرة وولاء واخضاع وعصبيات... تتعزز باستمرار. بل انه يجري توارثها من الآباء الى الابناء دون كبير اعتراض، نظراً لما تراكمه من وسائل الترهيب والترغيب عبر تقاسمها السطوة والسطو في مؤسسات الدولة وبالإستقواء بالخارج، خصوصاً.
وبالنسبة للأمر الثاني، أي المشتركات التي يجري حجبها أو تمويهها، لا تألو القوى المتصارعة جهداً، في الحرص عليها وفي تكريس حضورها الكبير حيث ينبغي، وبالكيفية المؤثرة، أو حتى الحاسمة، وفق ما تستدعيه الحاجة. دور الجهاز المصرفي اللبناني هو احد اهم وابرز الامثلة على شبكة المصالح المشتركة التي يجري تمويهها. لم يختلف اطراف الصراع يوماً على وظيفة وعمل ودور هذا الجهاز المجسد لآليات الاستغلال وتعظيم الربح والفوائد غير المشروعة... هو يبقى، بشكل ضمني أو علني رسمي أوغير رسمي، خارج النزاع والمساءلة والرقابة (الا فيما يتصل بضمان حسن سير آليات عمله وليس بعدالة تعامله مع الشأن المالي العام والخاص). بروز دور حزب «المستقبل» في السجال والتقرير بشأن موضوع سلسلة الرتب والرواتب، ودفاعه المستميت عما يسميه «المصلحة العامة للخزينة» و«الاستقرار المالي»، هو تعبير عن المشتركات المذكورة. في مجرى ذلك برهن الرئيس فؤاد السنيورة انه الاكثر قدرة على تجسيد هذه «المصلحة الوطنية» المزعومة، فكانت له الكلمة الاولى في سياق التجاذب، «الودي» دائماً، القائم بين الكتل النيابية حول الموقف من عدم تلبية بعض مطالب الموظفين في القطاع العام، بكل فروعه، عبر معركة «السلسلة» المستمرة، والتي ما زالت تأكل وتشرب مع المعلمين والموظفين واللبنانيين منذ اكثر من ثلاث سنوات وحتى إشعار آخر (هي، بالمناسبة، معركة قاسية وطويلة ومن النوع الذي لا يقف عند حدود العطلة الصيفية أو مقاطعة التصحيح...)!
تدور معركة «السلسلة» وسط معاندة عجيبة من قبل اطراف السلطة، بسبب توحدهم الضمني و«المبدئي» حيالها (رغم بعض التباينات الثانوية)، ورغم الضغوط الهائلة التي مارستها «هيئة التنسيق» طيلة الاعوام الثلاثة الاخيرة، وخصوصاً في الأشهر الست الماضية: حصل نقاش علني حول من يتولى مسؤولية اعلان الموقف الرسمي السلبي من السلسلة، وليس حول الموقف نفسه!
يدور الصراع، حيث وحين يدور، ضارياً وعنيفاً احياناً، وذلك من أجل تكريس حضور الاطراف في أساس اللعبة وتحسين هذا الحضور، لا من أجل تغيير قواعد اللعبة أو الاخلال بهذه القواعد! إنها لعبة الخلاف والاتفاق وفق شروط «اقوياء» الداخل وداعمي الخارج، لابقاء زمام المبادرة في أيديهم، وعلى حساب الضعفاء ولابقائهم خارج معادلة التأثير والتغيير.
لا يتمكن نظام التقاسم والمحاصصة القائم دائماً من احتواء النزاعات والصراعات حين تتفاقم، ايضاً، بتفاعلها مع نزاعات وصراعات الخارج: يدخل المتنازعون، آنذاك، في حروب دامية، لكنهم يخرجون منها دائما بتسويات لا تمسّ أبداً بجوهر النظام القائم، ولا بآليات الصراع داخله التي ينخرط فيها الجميع ويحرصون على إستمرارها في الوقت عينه!
ثمة عامل ثالث لا بد من تكرار تناول دوره (أو غياب دوره) في تسهيل استمرار لعبة طرفي البورجوازية اللبنانية الكبيرة في تحاصص خيرات البلاد وربط مصيرها بمصالح وحسابات القوى الخارجية (الاستعمارية خصوصاً). هذا العامل هو تفاقم ضعف القوى الوطنية وعجزها عن التوحد خلف برنامج وطني انقاذي مستقل وقيادة قادرة ومقنعة. الواقع ان هذه القوى التي تتخلى عن دورها وواجبها، إنما تفعل ذلك لأسباب أكثرها ذاتي وليس موضوعياً. بعضها ممن يقف الآن على مسافة أشهر من ذكراه التسعين (الحزب الشيوعي) لا تفعل قيادته الراهنة سوى الإمعان في معركة بقائها هي (على حساب أصول عمله وحضوره والمشرق من تاريخه)، لا بقاؤه هو بما يتطلبه ذلك من مبادرات وعلاقات وتجديد.
الخطر اليوم أكبر، في مناخ استعار االفئويات والتطرف والتكفير والعبثية. الخطوات والمبادرات ينبغي أن تكون بحجم هذا الخطر!
* كاتب وسياسي لبناني