من الممكن، على ضوء دراسة دقيقة صحيحة لموازين القوى عالمياً وإقليمياً وفلسطينياً، أن تُرسم خطوط عريضة لاستراتيجية وتكتيك محكميْن، في مواجهة الكيان الصهيوني، للأشهر والأسابيع القادمة. أو قل، للدقة، خطة تكتيك كبير. وخلاصته: المحافظة على الوضع القائم لميزان القوى الذي تشكّل خلال الشهرين الماضيين في مخيم جنين، وما أظهرته المواجهات المسلحة في عدة نقاط في الضفة الغربية. الأمر الذي يجب اعتباره تطوراً نوعياً للصراع ضد الاحتلال في الضفة الغربية، بل على مستوى الوضع في الداخل الفلسطيني كله. إن بروز السلاح إلى العلن في مخيم جنين، وفشل عدة محاولات صهيونية لاقتحام المخيم، وسحب السلاح، واعتقال، أو قتل المقاومين، كما حدث مثلاً في عام 2002 في مخيم جنين نفسه، كلُّ ذلك راح يمثل معادلة جديدة في ميزان القوى في الضفة الغربية. هذا ويمكن لهذه المعادلة أن تتطور إلى حالة أوسع من مخيم جنين. بل يمكن أن تُدخل الصراع في الضفة الغربية والقدس، وعلى مستوى الداخل الفلسطيني، في مرحلة أعلى، (عساها توازي ما هو حادث مع قطاع غزة حيث تكرّس القطاع كقاعدة مقاومة جبّارة لا تُقهر).
لقد غرقت أميركا في صراع مسلح مع روسيا في أوكرانيا. وأصبح هدفها الخروج من الحرب الأوكرانية منتصرة. ولكن بعد مرور أربعة أشهر على تلك الحرب، أخذت تلوح أمامها الآن بوادر هزيمة، أو بوادر توسّع لنطاق الحرب، ما قد يقرّر مصير قوتها العالمية من رقم 1 إلى رقم 2 لحساب الصين، أو إلى رقم 3 لحساب الصين وروسيا. باختصار، أميركا متورّطة ومرتبكة في الحرب الأوكرانية، ونتائجها السلبية على الاقتصاد العالمي، والرأي العام الداخلي أميركياً وأوروبياً، أصبحت ثقيلة. الأمر الذي يعكس نفسه، سلبياً، على موقع الكيان الصهيوني في ميزان القوى. ولا سيما في مواجهة انفجار فلسطيني واسع في القدس والضفة الغربية، وفي كل فلسطين، بما في ذلك مواجهة عسكرية مع قطاع غزة. بكلمة أخرى، لا تستطيع أميركا والكيان الصهيوني مواجهة فتح جبهة فلسطينية واسعة، لم يعد بمقدور الكيان الصهيوني الحسم فيها عسكرياً لمصلحته، ولم يعد بمقدوره مواجهة رأي عام عالمي، كما حدث في حرب «سيف القدس»، حين يتحرّك ضده، وينهش فيه نهشاً.
إن فشل زيارة جو بايدن الأخيرة في تحقيق أيّ من أهدافها، ولا سيما حشد عدد من الدول العربية في حلف مع الكيان الصهيوني، أو، في الأقل، الفشل في دفع ظاهرة الهرولة، خطوة أخرى إلى «أمام»، يدل، في ما يدل، على أن الوضع العربي، حتى النظامي منه، لا يحتمل أن يدعم الكيان الصهيوني، في مواجهة واسعة ضد الشعب الفلسطيني. بل لا يستطيع عدد من الدول العربية، ذات الوزن، غضّ النظر عمّا يرتكبه العدو من جرائم. هذا علماً أن الشعوب العربية والإسلامية أصبحت أكثر استعداداً للانتفاض لدعم المقاومة الفلسطينية والشعب الفلسطيني، والوقوف ضد أميركا والكيان الصهيوني.
هذه الاستراتيجية وهذا التكتيك في مواجهة العدو الصهيوني، خلال الأشهر القليلة القادمة، يمكن أن يعملا، كما يُقال، بأوراق مكشوفة، عدا الأوراق التي لا تُكشف إلّا في معمعان الحرب


أمّا على مستوى الداخل الفلسطيني، فقد أثبتت الوقائع والمواجهات خلال عام 2022، أن في الإمكان إحباط اعتداءات الكيان الصهيوني على المسجد الأقصى وفي القدس، بل وفي الإمكان التجرؤ على القيام بعمليات من طراز هام وفعّال، مثل عمليات بئر السبع وبني براك، وشارع دوزينغوف (تل أبيب)، وبيت إيل، وإلعاد. والأهم بروز السلاح إلى العلن في جنين، وتثبيت نفسه، بالرغم من عدة محاولات لاقتحامه، بهدف تصفيته.
ولهذا يمكن القطع أن موازين القوى في المستويات الثلاثة: العالمي والإقليمي والفلسطيني، تسمح بوضع استراتيجية، ممهورة بتكتيك ناجح، لتكريس معادلة السلاح المُعْلَن في جنين، ونقل عدواه إلى نقاط أخرى في الضفة الغربية. وذلك بشرط تصعيد التعبئة والمعنويات العالية للمحافظة على هذا السلاح، مهما تعرّض له من هجوم عسكري واسع ومصمّم. وذلك مع التأكيد على أن بالإمكان الصمود الباسل، الواثق بالنصر، إذا ما استمر لمدة تسمح بتحرّك المقاومة في قطاع غزة، وانطلاق تحركات شعبية واسعة في كل أنحاء فلسطين، وخارجها. الأمر الذي سيفرض حتماً على العدو أن يتراجع عن خطة الاقتحام، أو الدخول في مواجهة واسعة ستفرض عليه وقف إطلاق النار، والقبول، في الأقل، ببقاء السلاح المُعْلَن في أيدي المقاومة والمقاومين، في جنين. وهذا بدوره يكرّس معادلة-معادلات اشتباك جديدة، على مستوى القدس والضفة الغربية، وفلسطين الداخل. فضلاً عن تكريس وحدة فلسطينية شاملة في الداخل والخارج (في كل أماكن التواجد الفلسطيني).
هذه الاستراتيجية وهذا التكتيك في مواجهة العدو الصهيوني، خلال الأشهر القليلة القادمة، يمكن أن يعملا، كما يُقال، بأوراق مكشوفة، عدا الأوراق التي لا تُكشف إلّا في معمعان الحرب والمعركة والصدام. وذلك حين تجد القيادة الصهيونية نفسها في حالة ارتباك في مواجهة استراتيجية وتكتيك لا يمكنها مواجهتهما. وذلك بالرغم من اللعب، بأوراق مكشوفة، في مواجهة احتلال الضفة الغربية وتهويد القدس، والاعتداء على المسجد الأقصى، ومحاولة اقتحام مخيم جنين، أو الدخول في حرب مع قطاع غزة.
هنا يصبح الصمود في مخيم جنين، وبمعنويات عالية وثقة بالنصر، شرطاً لخوض الصراع في المرحلة الراهنة، والأشهر القادمة. وهنا يصبح قرار منع اقتحام المخيم قراراً استراتيجياً على المستوى الفلسطيني. وبهذا يصبح من الضروري تعبئة القوى التي ستُزجّ في المعركة، والقوى المناصرة التي ستنضم داخلياً وخارجياً، لتحمل كتفاً في هذه المواجهة. إنها الحرب التي ستفتح نتائجها صفحة جديدة على طريق تحرير فلسطين، كل فلسطين من نهرها إلى بحرها، ومن شمالها في الناقورة إلى جنوبها في أم الرشراش. وبالمناسبة، إن معركة جنين القادمة لن تكون كمعركة جنين 2002، بالرغم من عظمتها وشجاعتها، وما تركته من نتائج قتالية. وذلك لسبب واحد هو ما حدث من تغيّر في موازين القوى، في غير مصلحة الجيش الصهيوني، أوّلاً، وفي مصلحة قوى المقاومة اليوم، ثانياً. فأمس كانت البطولة والصمود، واليوم ستكون البطولة والنصر، بإذن الله.

* كاتب وسياسي فلسطيني