شهر حزيران هو من أكثر الشهور الملتهبة خلال العقود الماضية، ليس بسبب حرارة الصيف المرتفعة، لكن بسبب ما شهده من أحداث مريرة وهزائم قاسية. بالإضافة إلى وضعه الوسط بين شهور السنة، إلا أنه شهر داكن الألوان تفوح منه روائح الهزائم المريرة، والأحزان المتراكمة، والذكريات السوداء عن النكسات الصعبة التي تركت آثارها في فلسطين والعالم العربي إلى اليوم. نذكر، على سبيل المثال، لا العد ولا الحصر، نكسة الخامس من حزيران عام 1967، عندما قام الجيش الصهيوني بهزيمة الجيوش العربية واحتلال الأراضي العربية في مصر وسوريا والأردن وبقية فلسطين، والهجوم على لبنان عام 1982، واحتلال العاصمة بيروت وإخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان وتوزيع قواتها على الدول العربية. وغير ذلك من الأحداث والمآسي التي تسببت في تشتيت وحدة العرب وزعزعة الاستقرار الداخلي لهذه الدول. كما حملت الذكريات الحزيرانية في طياتها، أيضاً، الأوجاع والمآسي والمصائب للفلسطينيين. غير أن ما حدث في صيف عام 2007 هو من أسوأ ما تكون الذكريات السود والحوادث القاتمة. ما جرى في ذلك الوقت من صراع وانقسام بين حركتي فتح وحماس (15 حزيران) ما زالت آثاره مستمرة إلى اليوم، يزداد عمقاً، ويزداد ألماً، ويساهم في إضعاف الشعب الفلسطيني بأطيافه ومكوناته كافة، كما يساهم في إجهاض المشروع الوطني الفلسطيني، ويزيد من قوة الاحتلال وتمكينه. لقد أدى ذلك الانقسام أو الشرخ إلى نشوء سلطتين وهميتين في الضفة الغربية وقطاع غزة تحت مسميات وأسباب مختلفة؛ إحداهما تصف ما حصل بالانقلاب والأخرى تسميه بالحسم العسكري. وصار لكل سلطة أجهزتها الأمنية التي تلاحق مؤيدي السلطة الأخرى. غير أن كلاهما تحت حصار الاحتلال، ولا يملكان أدنى مقومات السلطة، بينما الشعب مغلوب على أمره في جغرافيا ممزقة شر تمزيق. وبصرف النظر عما حصل، من انقلابات أو حسم عسكري، أصبح ذلك اليوم من الأيام السوداء التي نخجل من ذكرها بسبب ما شهده من أحداث يندى لها الجبين ليس أعجبها الخطف المتبادل والقتل العشوائي. وأغربها هو فرار بعض القادة الأمنيين بحثاً عن ملاذ آمن لدى الكيان الصهيوني. كالمستجير بالرمضاء من النار. لكن الانقسام بحد ذاته أصبح حقيقة واقعة مستمرة إلى يومنا هذا، مجبولة بالعنف والحقد، ولا ندري إلى متى ستستمر، تماماً مثل مسلسل أميركي بشع وطويل. وبالرغم من كل الجهود والوساطات الداخلية والعربية لرأب هذا الصدع وإنهاء الانقسام، إلا أنها باءت جميعها بالفشل. ربما لأن الوساطات غير حقيقية، وهنالك أقوال في مصداقيتها، ولا تستطيع الصمود أمام الإشارات الأميركية أو الصهيونية. وربما لأن التفاهمات التي تم التوافق عليها كانت هشة وبلاغية ولا تنطبق على أرض الواقع. وربما لأن المنقسمين توغلوا في اتجاهات متعاكسة أصبح لها منطق مختلف وأيديولوجيات متباينة. غير أن هذه الانقسامات ليست حديثة العهد، بسبب اتفاق أوسلو مثلاً، أو بسبب التأويلات الدينية للأحداث، بل إنه يمكن القول إن تاريخ النضال الفلسطيني يزخر بالانقسامات والشروخ التي كانت سبباً في فشل التجارب الوطنية وعدم اكتمالها، وذلك بسبب الأنانية والمصلحة الذاتية التي تهيمن على الوجهاء السياسيين (1)، والعناد والتشبث بالآراء الجزئية على حساب الموقف الوطني العام.لا بد من القول إن اتفاق أوسلو المشؤوم (أيلول 1993) قد أدى أغراضه كاملة. لقد قضى على الانتفاضة الأولى التي زعزعت أسس الاحتلال، ووفر البيئة الخصبة للانقسام العميق بين الفصائل الفلسطينية كافة والسلطة. وقضى على دور منظمة التحرير كإطار جامع للفلسطينيين، ولم يحصل الفلسطينيون على دولة أو ما يشبهها. وأوجد فئات ذات مصالح وامتيازات متناقضة مع مصالح الفئات الشعبية المكتوية بنار الاحتلال. وتم إنشاء أجهزة أمنية جديدة ذات عقيدة مختلفة عما هي عليه الفصائل. غير أن أخطر ما في الأمر هو الدور الذي تقوم به تلك الأجهزة في الضفة، والتي أشرف على تدريبها الجنرال الأميركي دايتون (2) والأجهزة الأمنية التي تقف خلفه. حيث تقوم تلك الأجهزة بالتنسيق الأمني اليوم مع سلطات الاحتلال الصهيوني بكفاءة عالية للقضاء على أشكال المقاومة كافة ضد الاحتلال. وعلى هذا الأساس، قام اتفاق أوسلو بما لم تقم به سنوات الصراع الماضية، وكان من نتائج الاتفاق أيضاً توسعة وبناء الكثير من المستوطنات، ومصادرة المزيد من الأراضي، وتشريد آلاف العائلات من منازلهم. بالنسبة إلى قادة الكيان الصهيوني، فقد أتى الاتفاق أكله، فهو اتفاق أمني محض يقوم فيه الفلسطينيون بالتنسيق الأمني مع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية ومحاربة الإرهاب.
السؤال المقلق لماذا ينبغي على الفلسطينيين أن ينقسموا بالرغم من عدالة قضيتهم؟


لكن، السؤال المقلق لماذا ينبغي على الفلسطينيين أن ينقسموا بالرغم من عدالة قضيتهم؟ لماذا يرون الفيل ويختلفون على ظله؟ هل الانقسام سببه اختلافات جذرية بين المنقسمين على الأهداف الوطنية؟ أم على مصالح فئوية ضيقة؟ هل الاختلافات بين القوى الوطنية أشد وطأة من الخلافات بينها وبين العدو؟ هل الاختلاف مستجد؟ أم هو انقسام بنيوي متأصل في الشخصية الوطنية؟ لا ريب أن الخلافات الداخلية والانقسامات المميتة لها أثر سيء بل شديد السوء على مستقبل الشعب الفلسطيني ومصيره، وعلى المشروع الوطني برمته. ولا يمكن التردد بالقول إن العدو يعمل ليل نهار على تغذية الانقسامات بين جميع الأطراف وبالسبل كافة المباشرة وغير المباشرة. وما يحصل اليوم بهذه الصورة البشعة، بصرف النظر عمّا إذا كان انقلاباً أو حسماً، إنما هو تكرار ممل لما حصل إبان الاحتلال البريطاني في ما يسمى فترة الانتداب، حيث مارست السلطات البريطانية سياستها المعهودة، فرق تسد، بحرفية عالية. في فترة العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، كانت أوضاع الحركة الوطنية الفلسطينية، وأحزاب العائلات، تعاني من فوضى عارمة بسبب الخصومات العائلية التي سادت بين القيادات التقليدية، التي اتخذت نهجاً تصالحياً مفرطاً تجاه الاحتلال البريطاني، وامتنعت عن معارضة سياساته المنحازة إلى الحركة الصهيونية، وذلك بسبب ارتباط مصالحها الشخصية مع سلطات الاحتلال (3). كان التنافس والصراع بين القوى الرئيسية في كثير من الأحيان شديداً جداً، وبدعم وتشجيع السلطات البريطانية المنتدبة (4)، وفي بعض الأحيان، بخاصة في المراحل اللاحقة من الثورة الكبرى (1936 – 1939)، تدهور هذا الصراع إلى درجة أن بعض القوى شاركت إلى جانب القوات البريطانية (5) وقامت بتزويد سلطات الاحتلال بالمعلومات وتعريفهم بأشخاص الثوار. وهذا ما يشبه إلى حد بعيد التنسيق الأمني الذي تقوم به سلطات هذه الأيام. وبينما كانت سلطات الاحتلال البريطاني منهمكة مع العصابات الصهيونية والمنظمة الصهيونية العالمية بتنفيذ وعد بلفور وسياسات إنشاء الكيان الصهيوني، كانت العائلات الفلسطينية والزعامات التقليدية آنذاك غارقة إلى أذنيها في أوحال الصراعات والمنافسات والتقرب إلى سلطات الاحتلال. لقد وصف موس العلمي (6) هذا الوضع، عام 1949، بعبارات بليغة: البيت يحترق والعدو في قلب الدار، ورب البيت صريع ملقى على الأرض، وأهله يختصمون على الميراث، وأي ميراث؟ (7). وبكل أسف، ما زالت الأخطاء عينها تتكرر وإن على نطاق أكبر وأوسع بالرغم من انتشار التعليم وازدياد الوعي الوطني. وبالرغم مما يقوله المثل الشعبي بأن التكرار يعلم الشطار، إلا أننا، وبكل أسف، لا نجد شطاراً ولا من يتعلمون من دروس التاريخ الواضحة. فالعدو ينمو ويقوى وتتمدد جذوره، ونبقى نحن على حالنا من التفكك والانقسام (8).
لقد استفاد البريطانيون آنذاك، كما يستفيد الصهاينة اليوم، من هذه المنافسات والخصومات وعملوا على تعميقها لإضعاف وتفريق صفوف الحركة الوطنية الفلسطينية والقضاء عليها. وقد استمرت هذه الخلافات السياسية العميقة بين تلك القوى إلى ما بعد النكبة. وامتدت الانقسامات العربية والعالمية إلى صفوف الفلسطينيين. قبيل النكبة، في عام 1947، اختلفت الأحزاب الشيوعية المؤيدة للاتحاد السوفياتي على تأييد قرار التقسيم. وفي ما بعد انقسمت الأحزاب الشيوعية والفصائل اليسارية وفقاً للانقسامات السائدة في تلك الأيام، حول التفاصيل النظرية وآليات الصراع الطبقي، ولم تستطع التوحد لإقامة جبهة وطنية عريضة لمقاومة الاحتلال الصهيوني، كذلك انقسمت الحركات والأحزاب القومية، لتتماهى مع الانقسام السائد بين الدول العربية. ولم تستطع منظمة التحرير الفلسطينية طوال مسيرتها النضالية من تطوير برنامجها الوطني الذي يجمع ويوحد جميع الفصائل بسبب غياب الاستراتيجية الوطنية الواحدة والرؤية الواضحة لتحقيق العودة ودحر الاحتلال وبناء الدولة الفلسطينية الديموقراطية المستقلة. بل ظلت الانقسامات سائدة بسبب هيمنة السياسات الارتجالية والعشوائية التي لا تستند إلى أي تخطيط» والتي أدت بعد ذلك إلى عقد اتفاق أوسلو وإلغاء الميثاق الوطني الذي كان يربط بين جميع القوى، في احتفال فلكلوري رديء التخطيط وبمشاركة الرئيس الأميركي. وهكذا نجد أن تاريخ النضال الفلسطيني زاخر بالانقسامات العميقة التي أدت إلى إجهاض جهود الشعب الفلسطيني، وإضعاف التنظيم الداخلي للقوى الوطنية، وغياب الرؤية الوطنية الواضحة والموحدة التي تلتقي عليه القوى كافة.
وبالرغم من كل الإخفاقات، ظل الشعب الفلسطيني بفئاته كافة موحداً في مواجهة الصراع ضد الاحتلال البريطاني وضد المشروع الصهيوني؛ منذ بدايته حتى يومنا هذا. وعلى هذا الأساس قامت هبات كثيرة وإضرابات، وثورات ومواجهات حامية، وانتفاضات إلا أنه لم يكتب لها النجاح ولم تؤت ثمارها لأسباب كثيرة محلية وخارجية.
لكن أهمها تخاذل القيادات السياسية البائسة التي قادت الشعب الفلسطيني من فشل إلى فشل بسبب أنانيتها ومصالحها الشخصية؛ والتي لم تكن يوماً على نفس مستوى تطلعات الشعب وتضحياته. ويمكن القول؛ إنه طوال هذه المسيرة الغنية بالتضحيات، ظل الخلاف وما زال أهم من تباين الآراء، وأن المصالح الشخصية أهم من المصلحة الوطنية والمواضيع الثانوية أكثر أهمية من القضايا الرئيسة. وظلت هذه السمة مستمرة إلى اليوم بنفس القوة ونفس الزخم، وظلت القيادة المتنفذة والفاشلة لا ترى أبعد من مصالحها، ضاربة بعرض الحائط المصالح الوطنية للشعب الفلسطيني. وفي هذا السياق يعم الفشل على الجميع ولا يمكن استثناء أحد من المسؤولية. وينبغي القول في هذه العجالة إن حل هذه المشكلة العويصة يكمن في تقنين الانقسام الداخلي بحيث لا يكون أشد من العداء للكيان الصهيوني، وأن تكون هنالك استراتيجية وطنية تستند إلى رؤية واضحة تعيد الاعتبار إلى المشروع الوطني والميثاق الوطني، وأن يكون هنالك برنامج عمل وطني تجتمع عليه القوى الوطنية كافة بصرف النظر عن يساريتها أو إسلاميتها. ولا بد من إفساح المجال أمام القيادات الوطنية الثورية التي لا يمكن أن تضعف أمام المغريات والامتيازات الرخيصة.

هوامش:
(1) د. عبد الوهاب الكيالي، تاريخ فلسطين الحديث، الطبعة 12، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2021
(2) كيث دايتون (1949) جنرال في الجيش الأميركي، تولى مهمة تدريب قوات الأمن الفلسطينية ومساعدة السلطة الفلسطينية على ضبط الأمن داخل أراضي السلطة، ومنسقاً أمنياً بين الفلسطينيين والإسرائيليين منذ عام 2005. حاصل على شهادة في التاريخ، وعلى درجة الماجستير في العلاقات الدولية، وهو صاحب خبرة عملية عسكرية خاصة في سلاح المدفعية، وفي التفتيش عن الأسلحة العراقية، وعمل ملحقاً عسكرياً في موسكو، ويتقن اللغة الروسية. تأخذ الإدارة الأميركية برأيه حول السلاح والأموال المطلوبة لدعم النشاطات الأمنية الفلسطينية، وأيضاً حول تعيين مسؤولين أمنيين فلسطينيين. يساعد الجنرال دايتون مجموعة من الضباط الإنكليز والكنديين، وتساعده شركة أمنية خاصة اسمها ليبرا Libra مكونة من مرتزقة على نمط الشركات الأمنية العاملة في العراق.
(3) د. عبد الوهاب الكيالي. المصدر السابق.
Rashid Khalidi. The Iron Cage. Oneworld Publications, Oxford, 2007 (4)
(5) Khalidi Rashid المصدر السابق.
(6) موسى العلمي (1897-1984)، ولد في القدس وتلقى تعليمه في مدارسها. درس القانون في جامعة كمبريدج وتخرج فيها عام 1922. عمل مستشاراً للمندوب السامي البريطاني، وكان مقرباً من الحاج أمين الحسيني. أدى دوراً بارزاً في مؤتمر لندن 1939. امتنع عن العمل السياسي بعد النكبة، وركز جهوده على إنشاء المزارع ومدارس للتدريب الزراعي والمهني للأيتام الفلسطينيين.
(7) وليد الخالدي. نكبة 1948 أسبابها وسبل علاجها. تقديم، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت 2009.
(8) وليد الخالدي، المصدر السابق.

* كاتب فلسطيني