لا بد من القول إن اتفاق أوسلو المشؤوم (أيلول 1993) قد أدى أغراضه كاملة. لقد قضى على الانتفاضة الأولى التي زعزعت أسس الاحتلال، ووفر البيئة الخصبة للانقسام العميق بين الفصائل الفلسطينية كافة والسلطة. وقضى على دور منظمة التحرير كإطار جامع للفلسطينيين، ولم يحصل الفلسطينيون على دولة أو ما يشبهها. وأوجد فئات ذات مصالح وامتيازات متناقضة مع مصالح الفئات الشعبية المكتوية بنار الاحتلال. وتم إنشاء أجهزة أمنية جديدة ذات عقيدة مختلفة عما هي عليه الفصائل. غير أن أخطر ما في الأمر هو الدور الذي تقوم به تلك الأجهزة في الضفة، والتي أشرف على تدريبها الجنرال الأميركي دايتون (2) والأجهزة الأمنية التي تقف خلفه. حيث تقوم تلك الأجهزة بالتنسيق الأمني اليوم مع سلطات الاحتلال الصهيوني بكفاءة عالية للقضاء على أشكال المقاومة كافة ضد الاحتلال. وعلى هذا الأساس، قام اتفاق أوسلو بما لم تقم به سنوات الصراع الماضية، وكان من نتائج الاتفاق أيضاً توسعة وبناء الكثير من المستوطنات، ومصادرة المزيد من الأراضي، وتشريد آلاف العائلات من منازلهم. بالنسبة إلى قادة الكيان الصهيوني، فقد أتى الاتفاق أكله، فهو اتفاق أمني محض يقوم فيه الفلسطينيون بالتنسيق الأمني مع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية ومحاربة الإرهاب.
السؤال المقلق لماذا ينبغي على الفلسطينيين أن ينقسموا بالرغم من عدالة قضيتهم؟
لكن، السؤال المقلق لماذا ينبغي على الفلسطينيين أن ينقسموا بالرغم من عدالة قضيتهم؟ لماذا يرون الفيل ويختلفون على ظله؟ هل الانقسام سببه اختلافات جذرية بين المنقسمين على الأهداف الوطنية؟ أم على مصالح فئوية ضيقة؟ هل الاختلافات بين القوى الوطنية أشد وطأة من الخلافات بينها وبين العدو؟ هل الاختلاف مستجد؟ أم هو انقسام بنيوي متأصل في الشخصية الوطنية؟ لا ريب أن الخلافات الداخلية والانقسامات المميتة لها أثر سيء بل شديد السوء على مستقبل الشعب الفلسطيني ومصيره، وعلى المشروع الوطني برمته. ولا يمكن التردد بالقول إن العدو يعمل ليل نهار على تغذية الانقسامات بين جميع الأطراف وبالسبل كافة المباشرة وغير المباشرة. وما يحصل اليوم بهذه الصورة البشعة، بصرف النظر عمّا إذا كان انقلاباً أو حسماً، إنما هو تكرار ممل لما حصل إبان الاحتلال البريطاني في ما يسمى فترة الانتداب، حيث مارست السلطات البريطانية سياستها المعهودة، فرق تسد، بحرفية عالية. في فترة العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، كانت أوضاع الحركة الوطنية الفلسطينية، وأحزاب العائلات، تعاني من فوضى عارمة بسبب الخصومات العائلية التي سادت بين القيادات التقليدية، التي اتخذت نهجاً تصالحياً مفرطاً تجاه الاحتلال البريطاني، وامتنعت عن معارضة سياساته المنحازة إلى الحركة الصهيونية، وذلك بسبب ارتباط مصالحها الشخصية مع سلطات الاحتلال (3). كان التنافس والصراع بين القوى الرئيسية في كثير من الأحيان شديداً جداً، وبدعم وتشجيع السلطات البريطانية المنتدبة (4)، وفي بعض الأحيان، بخاصة في المراحل اللاحقة من الثورة الكبرى (1936 – 1939)، تدهور هذا الصراع إلى درجة أن بعض القوى شاركت إلى جانب القوات البريطانية (5) وقامت بتزويد سلطات الاحتلال بالمعلومات وتعريفهم بأشخاص الثوار. وهذا ما يشبه إلى حد بعيد التنسيق الأمني الذي تقوم به سلطات هذه الأيام. وبينما كانت سلطات الاحتلال البريطاني منهمكة مع العصابات الصهيونية والمنظمة الصهيونية العالمية بتنفيذ وعد بلفور وسياسات إنشاء الكيان الصهيوني، كانت العائلات الفلسطينية والزعامات التقليدية آنذاك غارقة إلى أذنيها في أوحال الصراعات والمنافسات والتقرب إلى سلطات الاحتلال. لقد وصف موس العلمي (6) هذا الوضع، عام 1949، بعبارات بليغة: البيت يحترق والعدو في قلب الدار، ورب البيت صريع ملقى على الأرض، وأهله يختصمون على الميراث، وأي ميراث؟ (7). وبكل أسف، ما زالت الأخطاء عينها تتكرر وإن على نطاق أكبر وأوسع بالرغم من انتشار التعليم وازدياد الوعي الوطني. وبالرغم مما يقوله المثل الشعبي بأن التكرار يعلم الشطار، إلا أننا، وبكل أسف، لا نجد شطاراً ولا من يتعلمون من دروس التاريخ الواضحة. فالعدو ينمو ويقوى وتتمدد جذوره، ونبقى نحن على حالنا من التفكك والانقسام (8).
لقد استفاد البريطانيون آنذاك، كما يستفيد الصهاينة اليوم، من هذه المنافسات والخصومات وعملوا على تعميقها لإضعاف وتفريق صفوف الحركة الوطنية الفلسطينية والقضاء عليها. وقد استمرت هذه الخلافات السياسية العميقة بين تلك القوى إلى ما بعد النكبة. وامتدت الانقسامات العربية والعالمية إلى صفوف الفلسطينيين. قبيل النكبة، في عام 1947، اختلفت الأحزاب الشيوعية المؤيدة للاتحاد السوفياتي على تأييد قرار التقسيم. وفي ما بعد انقسمت الأحزاب الشيوعية والفصائل اليسارية وفقاً للانقسامات السائدة في تلك الأيام، حول التفاصيل النظرية وآليات الصراع الطبقي، ولم تستطع التوحد لإقامة جبهة وطنية عريضة لمقاومة الاحتلال الصهيوني، كذلك انقسمت الحركات والأحزاب القومية، لتتماهى مع الانقسام السائد بين الدول العربية. ولم تستطع منظمة التحرير الفلسطينية طوال مسيرتها النضالية من تطوير برنامجها الوطني الذي يجمع ويوحد جميع الفصائل بسبب غياب الاستراتيجية الوطنية الواحدة والرؤية الواضحة لتحقيق العودة ودحر الاحتلال وبناء الدولة الفلسطينية الديموقراطية المستقلة. بل ظلت الانقسامات سائدة بسبب هيمنة السياسات الارتجالية والعشوائية التي لا تستند إلى أي تخطيط» والتي أدت بعد ذلك إلى عقد اتفاق أوسلو وإلغاء الميثاق الوطني الذي كان يربط بين جميع القوى، في احتفال فلكلوري رديء التخطيط وبمشاركة الرئيس الأميركي. وهكذا نجد أن تاريخ النضال الفلسطيني زاخر بالانقسامات العميقة التي أدت إلى إجهاض جهود الشعب الفلسطيني، وإضعاف التنظيم الداخلي للقوى الوطنية، وغياب الرؤية الوطنية الواضحة والموحدة التي تلتقي عليه القوى كافة.
وبالرغم من كل الإخفاقات، ظل الشعب الفلسطيني بفئاته كافة موحداً في مواجهة الصراع ضد الاحتلال البريطاني وضد المشروع الصهيوني؛ منذ بدايته حتى يومنا هذا. وعلى هذا الأساس قامت هبات كثيرة وإضرابات، وثورات ومواجهات حامية، وانتفاضات إلا أنه لم يكتب لها النجاح ولم تؤت ثمارها لأسباب كثيرة محلية وخارجية.
لكن أهمها تخاذل القيادات السياسية البائسة التي قادت الشعب الفلسطيني من فشل إلى فشل بسبب أنانيتها ومصالحها الشخصية؛ والتي لم تكن يوماً على نفس مستوى تطلعات الشعب وتضحياته. ويمكن القول؛ إنه طوال هذه المسيرة الغنية بالتضحيات، ظل الخلاف وما زال أهم من تباين الآراء، وأن المصالح الشخصية أهم من المصلحة الوطنية والمواضيع الثانوية أكثر أهمية من القضايا الرئيسة. وظلت هذه السمة مستمرة إلى اليوم بنفس القوة ونفس الزخم، وظلت القيادة المتنفذة والفاشلة لا ترى أبعد من مصالحها، ضاربة بعرض الحائط المصالح الوطنية للشعب الفلسطيني. وفي هذا السياق يعم الفشل على الجميع ولا يمكن استثناء أحد من المسؤولية. وينبغي القول في هذه العجالة إن حل هذه المشكلة العويصة يكمن في تقنين الانقسام الداخلي بحيث لا يكون أشد من العداء للكيان الصهيوني، وأن تكون هنالك استراتيجية وطنية تستند إلى رؤية واضحة تعيد الاعتبار إلى المشروع الوطني والميثاق الوطني، وأن يكون هنالك برنامج عمل وطني تجتمع عليه القوى الوطنية كافة بصرف النظر عن يساريتها أو إسلاميتها. ولا بد من إفساح المجال أمام القيادات الوطنية الثورية التي لا يمكن أن تضعف أمام المغريات والامتيازات الرخيصة.
هوامش:
(1) د. عبد الوهاب الكيالي، تاريخ فلسطين الحديث، الطبعة 12، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2021
(2) كيث دايتون (1949) جنرال في الجيش الأميركي، تولى مهمة تدريب قوات الأمن الفلسطينية ومساعدة السلطة الفلسطينية على ضبط الأمن داخل أراضي السلطة، ومنسقاً أمنياً بين الفلسطينيين والإسرائيليين منذ عام 2005. حاصل على شهادة في التاريخ، وعلى درجة الماجستير في العلاقات الدولية، وهو صاحب خبرة عملية عسكرية خاصة في سلاح المدفعية، وفي التفتيش عن الأسلحة العراقية، وعمل ملحقاً عسكرياً في موسكو، ويتقن اللغة الروسية. تأخذ الإدارة الأميركية برأيه حول السلاح والأموال المطلوبة لدعم النشاطات الأمنية الفلسطينية، وأيضاً حول تعيين مسؤولين أمنيين فلسطينيين. يساعد الجنرال دايتون مجموعة من الضباط الإنكليز والكنديين، وتساعده شركة أمنية خاصة اسمها ليبرا Libra مكونة من مرتزقة على نمط الشركات الأمنية العاملة في العراق.
(3) د. عبد الوهاب الكيالي. المصدر السابق.
Rashid Khalidi. The Iron Cage. Oneworld Publications, Oxford, 2007 (4)
(5) Khalidi Rashid المصدر السابق.
(6) موسى العلمي (1897-1984)، ولد في القدس وتلقى تعليمه في مدارسها. درس القانون في جامعة كمبريدج وتخرج فيها عام 1922. عمل مستشاراً للمندوب السامي البريطاني، وكان مقرباً من الحاج أمين الحسيني. أدى دوراً بارزاً في مؤتمر لندن 1939. امتنع عن العمل السياسي بعد النكبة، وركز جهوده على إنشاء المزارع ومدارس للتدريب الزراعي والمهني للأيتام الفلسطينيين.
(7) وليد الخالدي. نكبة 1948 أسبابها وسبل علاجها. تقديم، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت 2009.
(8) وليد الخالدي، المصدر السابق.
* كاتب فلسطيني