كيف تمّت خيانة أنطون سعادة، قائد نهضة سورية، قومية، اجتماعية؟ سؤال لا يزال يقضّ مضاجعنا. خيانة على كل الصعد، داخلية، ومن أقرب المقرّبين له، وخارجية، وبشكل يوحي وكأن سعادة خطّط بشكل صبياني، بينما الحقيقة أن اغتيال سعادة كان اغتيالاً لمشروعه «السوراقي»، ومحاولته استرجاع فلسطين.
أنطون سعادة وحسني الزعيم
كان سعادة يعرف أن الدول العربية غير جادّة في تحرير فلسطين، وانتابه حزن شديد عبّرت عنه السيدة وديعة قدورة خرطبيل حين قالت لي إنها التقت سعادة عام 1948، وذلك لأن أخاها الصيدلي أديب قدورة ينتمي إلى الحزب القومي، وأخبرته أنها متحمّسة جداً للقضية الفلسطينية، وبما أن زوجها طبيب فلسطيني، فهما يتهيّآن للذهاب إلى فلسطين ونصرة أهلها مع الجيوش العربية. لم يثنها سعادة عن عزمها لكنه قال لها إن الدول العربية باعت فلسطين. وهذا ما حدث حين أعلن بن غوريون، رئيس الوكالة اليهودية آنذاك، نشوء «دولة إسرائيل» في 14 أيار 1948.

لم يستطع سعادة أن يتغاضى عن هذه المأساة الفظيعة، فكتب في 21 كانون الثاني من عام 1949 مقالة في جريدة «كل شيء» لصاحبها محمد البعلبكي، بعنوان: «العروبة أفلست»، قال فيها: «ذهبت كيليكيا، ثم ذهبت اسكندرونة، ثم جاءت فلسطين، فكرّرت نداءاتي... لم يجتمع العالم العربي أمة واحدة في فلسطين». وكرّت سبحة التسويات بين الدول العربية وإسرائيل، فوقّعت مصر هدنة معها في 24 شباط 1948، في جزيرة رودس، كما وقّع لبنان في 23 آذار اتفاقية هدنة في رأس الناقورة، وفي 3 نيسان من العام نفسه وُقّعت هدنة دائمة بين الأردن وإسرائيل. وفي هذه الأثناء، وفي 30 آذار 1948، قام حسني الزعيم بانقلابه على شكري القوتلي، وبعدها مباشرة، أي في 5 نيسان، أعطى حسني الزعيم الأوامر ببدء المفاوضات بين سوريا وإسرائيل، وترأّس الوفد العقيد فوزي سلو.
لقد بيّن مايلز كوبلاند في كتابه «لعبة الأمم» أن انقلاب حسني الزعيم أتى بإيعاز ودعم من قبل الولايات المتحدة الأميركية، لأن الرئيس السوري شكري القوتلي رفض أن يمر خط التابلاين من السعودية إلى لبنان عبر الأراضي السورية دون أن تستفيد هذه الأخيرة منه، بينما وافق حسني الزعيم ليس فقط على مرور خط النفط، بل على بدء مفاوضات هدنة مع إسرائيل.

موقف حسني الزعيم
لم يكن سعادة يعرف ما نعرفه اليوم حول مداولات حسني الزعيم مع بن غوريون وموشي شاريت، وإلا لما وثق بالدكتور صبري قباني الذي كان طبيب حسني الزعيم الخاص والمحبّذ لفكر سعادة ومبادئه. فقباني هو الذي دعا سعادة إلى دمشق وحفّزه على التعاون مع حسني الزعيم. والحق يقال بأن قباني لم يكن يعرف نوايا حسني الزعيم الحقيقية. فحسني الزعيم اقترح سلماً منفرداً مع إسرائيل في 16 نيسان 1949 مقابل نصف بحيرة طبريا، وتوطين اللاجئين الفلسطينيين في سوريا حسب مذكّرات بن غوريون. وفي 9 أيار رحّب وزير خارجية الولايات المتحدة دين اتشسون بمبادرة حسني الزعيم واعتبرها عرضاً لا يفوت، ولام في ما بعد بن غوريون على رفضها!
حين تبيّن لحسني الزعيم أن عرضه رُفض، أوعز إلى طبيبه الخاص، الدكتور صبري قباني بتحضير لقاء مع أنطون سعادة، فكان اللقاء الأوّل في 27 أيار 1949. بعد مضي أربعة أيام فقط من لقاء سعادة وحسني الزعيم، سارع موشي شاريت إلى الاتصال بحسني الزعيم، ودعمت الولايات المتحدة هذا المسعى، وبعث أبا ايبان في أوّل حزيران رسالة من واشنطن إلى وزير خارجية إسرائيل، موشيه شاريت، يقول فيها إن لقاء بن غوريون وحسني الزعيم سيقود إلى اتفاق سلام هو الأوّل من نوعه بين دولة عربية وإسرائيل. استعمل حسني الزعيم مشروع أنطون سعادة كورقة مساومة مع الإسرائيلي، فحين رفضت إسرائيل التحدث معه، هدّد بدعم أنطون سعادة، وحين خضعت إسرائيل، وبعثت موشي شاريت للقاء حسني الزعيم سرياً، امتنع عن إعطاء السلاح لسعادة، وسلّمه للسلطات اللبنانية مقابل الاعتراف بحكمه كرئيس للجمهورية السورية من قبل الملك فاروق، وبشارة الخوري، ورياض الصلح.
الحقيقة أن القبض على سعادة تمّ من بيت معروف صعب، وسارع من كان موجوداً من الأمناء إلى اللجوء إلى الأردن


عاد سعادة إلى لبنان في 28 أيار، لكنّ رياض الصلح الذي كان مطّلعاً على المداولات الصهيونية-السورية، قرّر التخلّص منه لأن مشروعه هو المشروع الوحيد الذي يمثّل خطورة على وجود الكيان الصهيوني، كون سعادة غير مرتبط مع أي دولة شرقية أو غربية خارج نطاق «سوراقيا». وأكّد سعيد فريحة، وهو المقرّب من رياض الصلح، أن هذا الأخير ترأّس اجتماعاً لأمن الدولة تقرّر فيه القبض على سعادة وإنهاء الحزب السوري القومي الاجتماعي، وحُدّد الموعد في 5 حزيران 1949، فكانت أحداث الجميزة، وحرق مطبعة الحزب القومي، وفشل محاولة اغتيال سعادة الذي غادر متخفّياً إلى دمشق.
بعد اجتماعه بموشيه شاريت، تراجع حسني الزعيم عن وعوده بتقديم السلاح، ووجد سعادة نفسه أمام طريق مغلق بإحكام، فلا عودة إلى الوراء، ولا مكان للتقدم إلى الأمام. وعى سعادة مدلول هذه التطورات الخطيرة، ولم يعد من سبيل إلا إعلان ثورة شعبية هي ورقته الأخيرة والوحيدة. اعترف لوالدتي بأن لا أمل لنجاح هذه الثورة في لقائهما الأخير في منزل معروف صعب، لكن لا خيار آخر أمامه، لذلك سمّاها «الثورة القومية» الأولى، أي أنها ليست نهائية، لكنها تفتح الطريق لثورات أخرى يقوم بها شعبه، وتسجل له موقف كبرياء وشموخ وعزة وطنية في مواجهة المستعمر الصهيوني، وتفضح خضوع قيادات سوريا ولبنان والأردن ومصر للمشروع الصهيوني، فبالنسبة إليه المقاومة هي الطريق الوحيد لحياة وعزة شعبه.

موقف القيادة الحزبية في دمشق
طالما دعم حسني الزعيم أنطون سعادة، كان بعض أمناء الحزب السوري القومي الاجتماعي مسرورين، ومنشرحي البال، ومتوثّبين للثورة، ومتحسّبين للمغانم السياسية والاجتماعية التي سيجنونها، لكن ما إن علموا بأن الرياح تغيرت وجهتها، حتى سلّموا سعادة إلى قدره المحتوم. كيف؟ أقام سعادة في بيت الأمين معروف صعب الذي رفض أن يسمح للسيدة عبلا خوري، الآتية من قبل عمّها فارس الخوري، رئيس وزراء سوريا السابق، تنبيه سعادة بعدم الذهاب إلى القصر الجمهوري لأن حسني الزعيم انقلب عليه، فرفض معروف صعب السماح لها برؤية سعادة. كذلك بعث أديب الشيشكلي القومي، والضابط في الجيش السوري محذّراً سعادة من مكائد حسني الزعيم، فلم تصل رسالته. والأخطر من كل ذلك أن العقيد إبراهيم الحسيني الذي كان صلة الوصل بين سعادة وحسني الزعيم، تخفّى وزار الأمين ع.م طالباً منه إبلاغ الزعيم بألا يذهب إلى القصر الجمهوري لأن حسني الزعيم سيسلمه إلى السلطات اللبنانية، فتوارى ع.م ولم يبلغ سعادة بالخطر المحدق به.
الحقيقة أن القبض على سعادة تمّ من بيت معروف صعب، وسارع من كان موجوداً من الأمناء إلى اللجوء إلى الأردن، فيما تخفّى البعض الآخر، واخترعوا في ما بينهم قصة أن سعادة تركهم وتوجه إلى الأردن مع مرافقه الخاص صبحي فرحات، ولذلك لم يتخذوا أي إجراء، وعمّموا هذه الأكذوبة على الرفقاء فصدّقوها! بينما الحقيقة أن سعادة تم تسليمه من منزل معروف صعب، وأن مرافقه أُخذ رأساً إلى سجن المزة حيث بقي إلى حين انقلاب أديب الشيشكلي الذي أطلق سراحه.

* أستاذة جامعية

مصادر:
- مايلز كوبلاند، لعبة الأمم
- مذكّرات صبري قباني
- مذكّرات بن غوريون
- أنطون سعادة، الأعمال الكاملة، المجلد التاسع
- رسالة الدكتور جورج يونان