وضعت «مسيرة الأعلام» الصهيونية في القدس المحتلة قيادة قوى المقاومة الفلسطينية على المحكّ. أقول ذلك لأن إرباكاً واضحاً ظهر في تعاملها مع الحدث. فبعد النبرة الحادة، والسقف العالي لخطابها، بشأنِ قدرتها على مواجهة المخطّطات والممارسات العدوانية الصهيونية في القدس، مرّت «مسيرة الأعلام» من دون ردِّ فعلٍ مناسبٍ للتوقّعات التي بنتها في عقول ونفوس الجماهير الفلسطينية. هذا عدا الحديث سابقاً عن قواعد اشتباكٍ جديدة مع العدو كانت قد رُسِّخَت كإنجازات لمعركة «سيف القدس». والأغرب من كلّ هذا غياب القادة عن المسرح يوم المسيرة وبعدها. وكنتُ قد طرحت، في مقالة سابقة (معركة «الشيخ جرّاح» مدخلاً لتقويم القيادة الفلسطينية)، أن التقويم الموضوعي للعمل القيادي يُبنى على أساس الأهداف المحدّدة مسبقاً ومدى تحقيقها، وكذلك الدوافع وأسس اتخاذ القرار وآليّته. وأعتقد أنّ تقويم القيادة، سواء كانت في السلطة أو المعارضة، حاجة ملحّة من أجل تصويب النضال الوطني باتجاه تحقيق هدف التحرير المنشود. فمن الضروري، إبقاء من بيدهم القرار تحت المجهر الناقد ليشعروا بأنهم مسؤولون تجاه الشعب، وأن الثقة الممنوحة لهم ليست عمياء، وأن المعارضة لهم بنّاءة وتهدف للأفضل.لنأخذ عيّنة من تصريحات قادة المقاومة قبل وقت قصير من «مسيرة الأعلام»: «لن نسمح مطلقاً باستباحة المسجد الأقصى والعربدة في شوارع القدس». هذا ما صرّح به إسماعيل هنيّة، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، مضيفاً أن مرحلة ما بعد معركة «سيف القدس» تختلف عمّا قبلها، وذلك بعد أن «مزّقت صواريخ المقاومة مسيرة الأعلام». وبدوره، هدَّد يحيى السنوار، رئيس «حماس» في قطاع غزة بإطلاق 1111 صاروخاً، في أوّل رشقةٍ، إذا ما تجرّأ الصهيونيّون على القدس، ووعد بفتح خطٍّ بحري إلى غزة، علماً أنّ تحقيق هذا الوعد، في ظل الظروف القائمة، أقرب إلى المستحيل، اللهمَّ إلا إذا كان هناك في الأفق تسوية ما، تدخل فيها مصر إلى جانب قطر أو تركيّا، أو كِلتيْهما.
أعتقد، أن القرار بعدم اللجوء إلى إطلاق رد «سيف القدس 2»، كان قد اتُّخذ قبل موعد «مسيرة الأعلام» بأيام قليلة، بغضّ النظر عمّا سيجري خلالها. فقد لاحظتُ أن لهجة دوائر «حماس» على وسائل التواصل الاجتماعي (وخاصة «كلوب هاوس») قد بدأت، قُبَيْلَ المسيرة، تنحو في خطابها نحو واجب التحلّي بـ«العقلانية» في الرد، والأخذ في الحسبان الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لأهل قطاع غزة، وضرورة أن يكون أهل الضفة الغربية، وبالذات القدس، قادرين على المشاركة الفعّالة بمستوى الحدث. كما تم الحديث عن أن العدو بإصراره على المسيرة، التي ترافق موعدها مع إجراء المناورة العسكرية «عربات النار» الفريدة من نوعها، قد يكون يخطّط لجرّ المقاومة للوقوع في فخٍّ غير محسوب له. وهذا يعني أن «حماس» يمكن أن تكون قد تعرّضت لضغوطات من أطراف معيّنة، جعلتها تتراجع عن تهديداتها المعلنة سابقاً، أو أنها قدَّرت أن هذا هو الموقف السليم.
الحديثُ عن قوى المقاومة الفلسطينية يقودنا للتّركيز على قطاع غزة الذي بات مصدر الفعل الأساسي لها. ولذلك، لا بد من النظر في جوانب القوة والضعف لهذه القوى في بيئة قطاع غزة. تكْمُنُ قوة المقاومة في القطاع في أنها، بعد سيطرة «حماس» عليه، باتت يدها مطلقة في حدوده، وتستطيع إدارة الشّؤون الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، وكلّ ما يخصّ المقاومة، على نحوٍ يتناسب مع ضرورات مواجهة الاحتلال الصهيوني على طريق تحقيق هدف التحرير المنشود.
لكنّ الميزة الإيجابية المذكورة، ونظراً إلى الظروف الموضوعية المحيطة بقطاع غزّة، تحملُ في طيّاتها مخاطر جمّة. فالسلطة ليستْ بَسْطَ سيطرةٍ وامتلاك مقاليد الأمور العامة الشكلية فقط، وإنما مسؤولية تجاه كلّ ما يتعلّق بشؤون الناس الذين يعيشون في نطاقها. وبما أن مصادر «القطاع» الاقتصادية محدودة جداً، أو شبه معدومة، وبما أنّه محاصرٌ من قبل العدو، وبما أنّ مَنْفذَه الوحيد للعالم الخارجي هو مصر المرتبطة بالكيان باتفاقيات وعلاقات تصب في مصلحة إسرائيل، وبما أن الحصول على مقوّمات الحياة الأساسية، بما فيها الغذاء والوقود والكهرباء (وحتى الهواء)، بحاجة لإذنٍ من العدو، فإن مهمّة السلطة تصبح تعجيزية وقد تكون خارج السيطرة.
هدفُ هذه المقالة هو لفت نظر قيادة المقاومة إلى أنها مسؤولة تجاه الشعب الفلسطيني عند اتخاذها أيّ قرار


إذاً، نجد أن قوى المقاومة تقف أمام تحدٍّ كبير، يمكن تلخيصه بضرورة إيجاد المعادلة «السحرية» التي تجمع بين مهمّتَيْ كلٍّ من السلطة والمقاومة، بحيث تتكاملان وتتضافران لتحقيق هدف التحرُّر الكامل. وإذا ما أخذنا في الحسبان الصراع المحتدم بين السلطتين في رام الله وغزة، وبشكل أعمّ بين نهجي المقاومة والتنسيق الأمني الأوسلَوي، والأثر المدمّر لذلك على المجتمع الفلسطيني، فإن هذا يضع قوى المقاومة أمام مسؤوليّةٍ استثنائية.
لن أتطرّق إلى الشأن العسكري لأنّه ليس من اختصاصي وفيه أسرارٌ كثيرة لا يعرفها إلا المعنيّون به، لذلك سأكتفي بالإشارة إلى أمرٍ معروف للجميع ويتعلّق بقوة الردع الصاروخية. وخلاصته، أن تصنيع المقاومة للصواريخ أو التزوّد بها يَجْرِيان في ظروف صعبة جدّاً، ما يجعل قدرتها على تعويضٍ مناسبٍ لما تطلقه منها، إذا ما انخرطت في حربٍ طويلة، محدودة للغاية. لهذا نستبعد أن يكون بمقدور المقاومة خوض مثل هذا الحرب اعتماداً على الصواريخ وحدها. لكن قد يختلف الأمر في ظرفِ حربٍ شاملة في المنطقة.
هدفُ هذه المقالة هو لفت نظر قيادة المقاومة إلى أنها مسؤولة تجاه الشعب الفلسطيني عند اتخاذها أيّ قرار يمس قضيّته وشؤون حياته، وإلى ضرورة أن تُجري تقويماً دوريّاً لسياساتها ولممارساتِها، وأن لا تخشى النقد الذاتي ونقد الآخرين البنّاء. فالمقاومة، في ظروف غزّة، ليست محصورة في النطاق العسكري الصّرف. إنها عملية بناء مجتمعٍ مقاوم بكل جوانبه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. لذلك أرى أن الاعتماد المالي على مِنَحٍ مالية عربية لإدارة شؤون السلطة في القطاع، والحاجة إلى المساعدات العربية الضخمة (غالباً لا تتوفّر) بعد كلِّ عدوان صهيوني لإعادة بناء ما يتم تدميره، يشكّلان نقطة ضعفٍ رئيسية. ومن نقاط الضعف المهمّة نُدْرَةُ فرص العمل في القطاع واللجوء للعدو ليعطي تصاريح لعمل مئات الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، ويترافق ذلك مع أنواع مختلفة من الابتزازات للمقاومة (ومنها سياسية وقواعد اشتباك).
كلّنا ندرك صعوبة الوضع، ولا يُطلب من المقاومة المستحيل. لكن ما العمل؟ فمن يتبوّأ المسؤولية يصبح مسؤولاً، ومُطالباً بأن يجد الحلول المناسبة. مثالاً على ذلك، سمعنا منذ أشهر دعوة عالية الصوت من قِبَل «حماس» و«الجهاد الإسلامي» و«الجبهة الشعبية» لإنشاء جبهة مقاومة وطنية، لكن لم نرَ بعدها أية ممارسة تدلُّ على جديّة الدعوة. وقد تَمَّتْ هذه الدعوة بعد أن يَئِسَتْ هذه القوى من مسلسل الحوارات الوطنية المملّ مع حركة «فتح»، والذي كان يهدف لإصلاح منظمة التحرير والسلطة، المُفترَض أنّهما المسؤولتان عن شؤون الشعب الفلسطيني. لا أدري إذا ما زال موضوع هذه الجبهة على جدول أعمال هذه القوى، أو أنها تفكّر في شيء آخر. في كل الأحوال، من مهامّ القيادة أن تخطّط وتضع برامجها، لتحقيق الأهداف المرجوّة والواضحة للشعب ليلتفّ حولها وينخرط في عملية التنفيذ. تظهَرُ كفاءة القيادة في الظروف الصعبة، وبما أن القضية الفلسطينية تمُرُّ في أصعب الظروف وأعقدها، لذلك تتعاظم مسؤولية القيادة لاجتراح الحلول. ونظراً إلى كون قيادة السلطة والمنظمة قد فقدت صلاحيّتها منذ زمنٍ بعيد، فإن قيادة المقاومة باتت على المحكّ، فهل تثبت جدارتها؟

*كاتب وباحث فلسطيني