فجر يوم 8 تموز 1949، نفّذت السّلطة اللّبنانية حكم الإعدام بحق أنطون سعادة بتهمة «التّعامل مع اليهود لقلب نظام الحكم» كما سبق أن أعلن رئيس الحكومة رياض الصلح. وكان يوسف شربل، النائب العام الاستئنافي، قد كرّر التّهمة في 20 حزيران 1949، قائلاً: «إن الحزب، أو بالأحرى رئيسه، يستعين بأجنبيّ، وإن هذا الأجنبيّ هو الآن إسرائيل. ليست الغاية (الاستعانة بإسرائيل) إجراء انقلاب في لبنان وتسلّم الحكم فيه فحسب، بل كذلك لمناوأة الدولة السورية بشخص رئيسها الزعيم حسني الزعيم، بسبب ما يظهره من التصلّب تجاه الصهيونيين». إضافة إلى ذلك، ادّعى شربل أن لديه «شهوداً ووثائق في حوزته، وأن الشّهود عزّزوا كلامهم بوثيقة تحمل تاريخ 13 أيّار 1949 قالوا إنّ منفّذ عام عكا (المسؤول الحزبي) رفعها إلى سعادة». في اليوم التالي لإطلاق شربل اتّهامه، ردّ سعادة، في حديث إلى جريدة «العلم» الدمشقية، على الاتّهامات بقوله: «إنّني أتحدّى رئيس الحكومة المتهادنة مع اليهود أن يعطي للنشر الوثائق المزعومة. فإذا كانت لدى الحكومة وثائق مشرّفة للحزب ومخزية للمتحكّمين في رقاب الشّعب اللّبناني والطّائفيين الّذين نملك وثائق عديدة عن اتّصالاتهم واتّصالات جميع الرّجعيين والنّفعيين باليهود، من بيع أراضٍ، إلى بيع مصالح، إلى بيع خطط سياسيّة في الحكم تسهّل الانتشار اليهودي». وأضاف: «إن لنا اتّصالاً باليهود مشرّفاً هو اتّصال الحرب والنار بيننا وبينهم. هو اتّصال الأعداء بالأعداء هو ما يسمّونه في بعض اللّغات contact de feu، وهذا الاتّصال هو مشرّف بلا شكّ وهو يختلف عن اتّصالات الرجعيين النفعيين المخزية».


الاتّهام، ثمّ الجريمة، هما، عملياً، هروب إلى الأمام وتتويج لممارسات نظام طائفيّ انفضح دوره في حرب 1948 في فلسطين، وهذا ما شرحه سعادة، في حديث بتاريخ 11 حزيران 1949، بعد يومين فقط من اعتداء حزب الكتائب على مكاتب جريدة «الجيل الجديد» في الجمّيزة وجرح العديد من القوميين وما رافق ذلك من تدخّل فوري منسّق بين السلطة والكتائب وقيام الجيش بحملة اعتقالات ومداهمات لمكاتب الحزب ولمنزل سعادة. يقول سعادة: «أنا متأكّد بأن تصرّف الحكومة جاء بهدف رفع المعنويّات وإثارة العصبيّات بهدف تجاوز مرحلة الخداع والخيانة في موضوع فلسطين والاتّفاق الخياني. أرادت الحكومة إشغال الجيش بملاحقة الحزب بهدف التوصّل في النهاية إلى اتّفاق مع الدّولة اليهوديّة التي تهدّد جميع البلدان السّوريّة وفي طليعتها لبنان».

الوثيقة والاتّهام
منذ عودته إلى الوطن من المغترب القسريّ عام 1947، كان سعادة يحذّر باستمرار، في خطبه وتصريحاته ومقالاته، من الخطر الاستيطاني الصهيوني في الجنوب السّوري، وكان يتلقّى دوريّاً، من فروع حزبه في فلسطين، تقارير ميدانيّة عن الوضع، وكانت تلك التّقارير مخالفة للصورة الورديّة التّي رسمتها الأنظمة العربيّة والتّي كانت توهم النّاس بأن النّصر على الصهاينة قريب. واستناداً إلى تلك التقارير، كانت حملة سعادة عنيفة على القوى الرجعيّة التي تتآمر على فلسطين، وازدادت الحملة حدّة بعد هزيمة 1948 وقيام الدولة اليهوديّة.
عثرت السلطة اللبنانية، إثر مداهمتها مكاتب الحزب ومنزل سعادة، على مجموعة من تلك التّقارير، وعمدت إلى نشر بعضها في كتاب صدر عن وزارة الأنباء بعنوان: «قضية الحزب القومي، بيروت 1949». وما لبثت السّلطة أن عمدت إلى سحب ذلك الكتاب-الفضيحة من التّداول، لأنّه تبيّن أنّه يدينها ولا يدين سعادة وحزبه.




بنى الصلح ويوسف شربل اتّهامهما بالتعامل مع إسرائيل على وثيقة حملت الرقم 173 تمّ نشرها في الكتاب. والوثيقة عبارة عن تقرير كتبه بتاريخ 13 أيّار 1949 المسؤول الحزبي في عكا محمد جميل يونس ووجّهه إلى سعادة، جاء فيه: «وقفت على كثير من أسرار مفصّلة عن المنطقة المقيم فيها وسأرفع تقريري بعد رجوعي. إن منظّمة الفالانج [الكتائب] اللبنانية والمطران مبارك على اتّصال ومفاوضة مع إسرائيل لقلب الحكم في لبنان وإنشاء الوطن المسيحي واضطّهاد الفئات والطوائف الأخرى. وقد اطّلعت من مواطنين على كتب توصية من المطران مبارك وسأحاول الحصول على نسخ منها».
كانت المعلومات الواردة في تقرير محمد جميل يونس، وغيرها من التّقارير، مادّة أساسيّة استعملها سعادة في مقالاته وخطبه ضدّ مبارك وحزب الكتائب. وكان قد تلا تسلّم سعادة تقرير يونس أنّه تلقّى إنذاراً من وزير الداخلية جبرائيل المر في مطلع حزيران 1949 نقله إليه أحد القوميّين، فريد صبّاغ، الّذي التقى الوزير بناءً على طلبه وأبلغه أن ينقل إلى سعادة التالي: «عقدنا جلسة في مجلس الوزراء وقامت قيامة رئيس الوزراء عليكم وشاركه الحملة وزراء آخرون. لقد اتّخذنا قراراً بملاحقتكم وإبادة الحزب. أردت إبلاغكم بذلك، تدبّروا أموركم واتّصلوا بالرئيس الصلح لتبريد الأجواء».
لن أستفيض في شرح تفاصيل ما جرى لاحقاً، لكنّ سعادة أبلغ صبّاغ بأن يتّصل بالصّلح ويحاول تهدئة الوضع. يتحدّث الصباغ عن لقائه بالصّلح كما يلي: «قال الرئيس الصّلح، مسألة حادثة الجميزة ثانويّة جداً بالنسبة إلي. المسألة أخطر بكثير، زعيمكم يتعاون مع اليهود لقلب الحكم في لبنان. لا أريد النقاش». وانتهى بذلك اللقاء.
من الواضح أن اتّهامات الصّلح لسعادة تستند إلى تقرير محمد جميل يونس الّذي استعمله الصّلح كذريعة وقميص عثمان للتخلّص من سعادة والحزب الذي يكنّ له عداءً شديداً. لكن لماذا تنطّح الصّلح وكان بمثابة رأس حربة في محاربة سعادة؟ السبب واضح وهو أنّه على الرغم من العداوة بين الصّلح والمطران مبارك، وكذلك حزب الكتائب، إلا أنه بمنظور الصّلح، وهو أحد قادة النّظام الطائفي، أنه لا بد من تضامن أطراف النّظام كافة لمحاربة خطر محدق يهدّد الجميع. لذلك، تناسى عداواته مع الكتائب وقام بهندسة المصالحة بينها وبين حزب النجادة الطائفي قبل أن يحرّض الكتائب على تفجير الوضع في الجميزة في 9 حزيران 1949. المشهد تكرّر لاحقاً في مطلع السبعينيات عندما اقترفت الكتائب، بتحريض من السلطة، جريمة باص عين الرمانة التي كانت سبباً في تفجير الحرب الأهلية.
لا أريد في هذه العجالة أن أستفيض في شرح تفاصيل اتّصالات الصلح ولقاءاته مع الصهاينة منذ اجتماعاته مع حاييم وايزمن منذ عام 1921 إلى تلقّيه الأموال من الوكالة اليهودية، كما تشير وثائق فرنسيّة وصهيونيّة عديدة، لكن من السخرية أن يتّهم الصّلح سعادة بما هو غارق فيه. أكتفي بذلك للقول بأنّ شخصية الصلح الانتهازيّة والطّائفية تحدّث عنها بتفصيل قريبه سعدالله الجابري في يومياته غير المنشورة حتّى الآن. وأودّ الإشارة إلى حدث شرحه الجابري الّذي كان ضمن وفد سوري ضمّ الصلح أيضاً في باريس لإجراء محادثات سوريّة- فرنسيّة لعقد معاهدة سنة 1936. يصف الجابري الصلح في مذكّراته بأنّه «ينسّق مع حاييم وايزمن الّذي يلتقيه باستمرار دون إبلاغنا وأنّه شخص محبّ للمال، متغطرس، متذبذب، منعدم المستوى الأخلاقي اللائق وأيضاً كاذب».
أمر آخر سأشير إليه باقتضاب، وهو المفاوضات السرّية التي كان يجريها رياض الصلح مع مندوبين صهاينة في باريس في الفترة ما بين تشرين الثاني 1948 وكانون الأول 1948. وكان عدد الاجتماعات ستة جرت بينه وبين كل من طوفيه أرازي وإلياهو ساسون. لن أتطرّق إلى تفاصيل ما جرى في تلك الاجتماعات كما فصّلتها وثائق إسرائيلية لكن سأكتفي بالتالي: كتب بن غوريون في مذكّراته في 9/12/1948: «[إلياهو] ساسون وصل [من باريس] يوجد حسب أقواله إمكانات للسّلام. رياض الصّلح على استعداد لأن يعمل لمصلحتنا. لا توجد للبنان مطالب وتطلّعات إقليميّة. عبء الحرب ثقيل عليهم، ولكنهم لا يريدون الخروج لوحدهم. لا توجد إمكانية لرياض الصلح للصّعود، فقد وصل إلى المنصب الأعلى الممكن لمسلم في لبنان. في خارج لبنان لا أمل له. وطموحه الوحيد أن يكون مؤثّراً في الجامعة العربيّة».

مبارك والكتائب والصهاينة
بالعودة إلى تقرير محمد جميل يونس الذي أرسله إلى سعادة، تبيّن لاحقاً بشكل لا مجال للشكّ فيه أن ما ذكره يونس صحيح مئة في المئة. تأكّد ذلك في وثيقة صهيونيّة بتاريخ 28 شباط 1949 تحدّث فيها شموئيل يعري من قسم الشرق الأوسط في وزارة الخارجية الإسرائيلية عن لقاء تمّ في حيفا مع مبعوثين من المطران مبارك، تماماً كما ذكر محمد جميل يونس في تقريره. جاء في الوثيقة التالي: «في 2.24 صباحاً تلقّينا خبراً هاتفياً من السيّد بايلي في حيفا بأن ثلاثة أشخاص عرب جاؤوا إلى مكتبه، قدّموا أنفسهم كمبعوثين من قبل رئيس الأساقفة مبارك وأعربوا عن رغبتهم بلقاء مسؤول في وزارة الخارجية. التقيتهم في ذلك اليوم بعد الظهر على مدى ساعة ونصف ساعة في مكتب السيّد بايلي. اتضح أن اثنين منهما مسيحيان إسرائيليان: سليمان شكور من النّاصرة وفريد خوري من كفربرعم. وهما على علاقة منذ وقت مع مصلحة الاستخبارات عبر السيد سمسونوف من زخرون- يعقوب. ووفقاً لنصيحته، زارا المطران مبارك في بيروت. (رحلاتهما بين إسرائيل ولبنان كانت على ما يبدو من أجل أعمال تجاريّة سوداء، وكان لديهما بطاقة عبور قديمة من مصلحة الاستخبارات). ووفقاً لطلب مبارك فقد رافقهما في طريق عودتهما إلى إسرائيل أحد رجاله الحافظين لأسراره، اسمه توفيق سمعان، من أجل التّواصل مع وزارة الخارجيّة. في مطلع كلامه قدّم لي رسالة بخط يد المطران مبارك (عن استمارة مطبوعة ومختومة بتوقيع المطران مبارك) وهذا نصها:
«اغناطيوس مبارك ينقل أفضل تحاياه لأصدقائه النبلاء ويطلب منهم تسهيل مهمات ابنه حامل الرسالة توفيق سمعان والإنصات لما سيقوله. هو أحد أبنائنا الأعزّاء ورجل سرّنا مع الشكر مسبقاً. مبارك مطران بيروت في 15/2/1949».
سمعان وصف مهمّته بأن المطران مبارك يطلب معرفة موقف الحكومة الإسرائيليّة حيال خطّة انقلاب في لبنان. ووفق كلامه، فقد تم تعبيد الأرضية لذلك ولم تعد ثمّة حاجة إلا إلى قليل من التشجيع والمساعدة من جانب إسرائيل. المرارة وسط مسيحيي لبنان وصلت إلى ذروتها، وعلى سبيل المثال تحدّث عن عجز الحكومة بإيقاف إزعاج مسيحيي بعلبك من جانب العشائر الشيعية الذين يستفيدون من رعاية رئيس مجلس النّواب صبري حمادة. وعندما قصد وفد مسيحيّ الحكومة بطلب مساعدة عسكريّة قال لهم حمادة: «إذا كنتم تفكّرون بالاعتماد على القوّة فاعلموا أن عشيرة واحدة من عشائري كافية لهزيمة كلّ الجيش اللبنانيّ».
استجوبته بشأن العلاقات بين مبارك والأحزاب المسيحية - مثل الكتلة الوطنيّة والكتائب - وحتى إلى أي مدى خططهم منسّقة. أجاب بأنّ مبارك ليس له حريّة حركة وهو يخضع لرقابة دائمة من البوليس السري. هو، سمعان، يعمل كصلة وصل بينه وبين الأحزاب (أيضاً أظهر لي صورة التُقطت له مع مبارك، إدّه والجميّل زعيم الكتائب). ادّعى أن إدّه والجميّل متّفقان مع مبارك أيضاً بالنسبة إلى خطّة الانقلاب ولكنّه شدّد على أنّه يمثّل الأخير فقط. ووفقاً لكلامه من المؤكد أيضاً أنّ الغالبيّة الكبرى من الجيش اللبنانيّ سوف تدعم الانقلاب لحظة انطلاقه.
أجبته أنّنا رغم ترحيبنا بأيّة محاولة من جانب مسيحيي لبنان للتحرّر من عالم الزّعامات العربيّة فنحن لا يمكننا إبداء رأي بهذا الاقتراح، قبل أن تصبح بأيدينا خطّة مفصّلة حول كيف هم يفكرون في تنفيذ الانقلاب، وما هي القوّة المتوفّرة لديهم، وما بالضبط نسبة المساعدة التي يطلبونها من إسرائيل؟ لذلك من المناسب أن يتشاور المطران مبارك مع زعماء آخرين من حلفائه خصوصاً عناصر الكتائب ويكلّفهم بإعداد خطّة كهذه، وبعد ذلك سوف نتمكّن من تقديم إجاباتنا المدروسة».
تختم الوثيقة بالتالي: «في النّهاية تمّ الاتّفاق على أن سمعان مع الرجلين المرافقين سوف يعودون في اليوم التّالي إلى لبنان على أن يعود إلى إسرائيل في اللحظة التي سوف يصبح لديه ما يمكن إضافته. من أجل ذلك اتصلت مع حاكم عكا الملازم أول عمير، وأمّنت للثلاثة إذن مرور عبر الحدود الإسرائيليّة- اللبنانيّة لمدّة أسبوعين- ثلاثة. سمعان الذي هو على ما يبدو صاحب أملاك، ترك انطباعاً جيداً. لم يتمكّن من طلب أجرة أو أيّة «مكافأة» ووافق فوراً على عودته من حيفا إلى لبنان».
التقرير أعلاه نسف كلّ أكاذيب السلطة بإلصاق تهمة الخيانة بسعادة والقوميّين. النص واضح لا لبس فيه، ولا أجد ضرورة في الاستفاضة والتّعليق لكن أودّ التّذكير بعجالة بموقف المطران مبارك من مسألة الوطن القومي اليهودي في فلسطين. مبارك هذا كان يدعو أيضاً لإنشاء وطن قومي للمسيحيين في لبنان. وكان قد قدم مذكّرة رسميّة بتاريخ 5 آب 1947 إلى لجنة التّحقيق الدّوليّة التي أرسلتها الأمم المتّحدة لدرس قضيّة فلسطين يدعو فيها إلى إنشاء دولة يهوديّة وضمّن مذكّرته تلك عبارات تحقير للعرب والمسلمين.
لا مجال هنا للاستفاضة حول مواقف مبارك من الحركة الصهيونيّة، فهي تجسيد صريح لآراء العديد من السّياسيّين اللّبنانيّين، سابقاً وحالياً. ما ميّز مبارك كونه صريحاً ووقحاً. أكتفي فقط بذكر مقاطع من خطاب له ألقاه في بيروت عام 1936 بمناسبة إقامة الجالية اليهوديّة حفلاً وداعيّاً للبطريرك عريضة الذي كان في طريقه إلى جولة أوروبيّة. يقول مبارك: «نؤكّد لكم يا أبناء إسرائيل الّذين طُردتم ولم يقبلكم العرب في فلسطين، باسم غبطة البطريرك وباسمي أن لبنان يكفينا ويكفيكم. ومنذ زمن طويل وصاحب الغبطة يخدم هذه الفكرة وبأوامره واصلنا السعي تجاه أولياء الأمر حتى يأتي اليهود إلى لبنان (الوثائق الديبلوماسيّة الفرنسيّة تشير إلى ذلك وتكشف عن عرض قدّمه البطريرك عريضة لمسؤولين في الوكالة اليهوديّة لبيعهم أراضيَ في شمال لبنان للاستيطان) فوجود اليهود في فلسطين جعل الأراضي المقدّسة محسودة من العالم بأسره، لأن العالم يئنّ من الأزمة الاقتصادية ولا وجود لها في فلسطين، وقد شعر المتعصّبون بالحسد فكان جوابهم نكران الجميل».
أكتفي بهذا القدر عن مبارك لأشير باختصار إلى أنّ هناك العشرات من الوثائق الصهيونيّة التي تشرح تفاصيل الاجتماعات والمفاوضات بين الدولة الصهيونيّة وحزب الكتائب ممثَّلاً ببيار الجميّل والياس ربابي، رئيس تحرير جريدة «العمل» الذي كان يكرّر الطّلب لدعم تمرّد عسكريّ في لبنان لقلب نظام الحكم، إضافة إلى السّلاح والمعونات الماليّة. أكتفي هنا بالإشارة إلى تقرير كتبه إلياهو بن حورين، عضو مجلس الطوارئ الأميركي- الصهيوني، إلى وزير الخارجية الإسرائيلية موشي شاريت بتاريخ 13 أيلول 1948 يقول فيه: «وجهة نظر الجميّل أنّ إرسال الجيش إلى الجنوب فرصة ذهبيّة للتمرّد على بشارة الخوري وأنّ على اليهود دفع المال وتقديم السّلاح للاستيلاء على لبنان وأنّ السّلاح يمكن تسلّمه في مرافئ صغيرة يسيطرون عليها». نقل بن حورين وجهة نظر الجميّل الّتي أبلغه بما فيها الياس ربابي أثناء لقاء بينهما في نيويورك. طلب بن حورين من ربابي أن يلتقي بمسؤولين صهاينة في باريس أثناء عودته إلى لبنان لشرح الموقف لهم. لم تتوقّف الاتّصالات الكتائبيّة مع الدّولة اليهوديّة، تلقّوا منهم المال والسّلاح ثم تحالفوا معهم في الحرب الأهلية وقاتلوا في خندق واحد.
تأكّد ذلك في وثيقة صهيونيّة بتاريخ 28 شباط 1949 تحدّث فيها شموئيل يعري من قسم الشرق الأوسط في وزارة الخارجية الإسرائيلية عن لقاء تمّ في حيفا مع مبعوثين من المطران


ما أودّ استخلاصه من جريمة إعدام أنطون سعادة وما تلاها أنّ النّظام الطائفيّ اللبنانيّ لا يتورّع عن ارتكاب الجرائم للحفاظ على مكتسبات زعمائه المتحالفين والمختلفين في آن؛ متحالفين ضدّ كلّ من يهدّد نفوذهم ويفضح خياناتهم، كما كان الحال مع سعادة إذ وافقوا بالإجماع على إعدامه. وفي الوقت نفسه، يتصارعون في ما بينهم على انتزاع المزيد من النّفوذ لمصالحهم الشخصيّة رافعين شعار حقوق الطّائفة الّتي يمثّلون. وإذا قارنّا ما حدث في تموز 1949 باليوم، يتأكّد لنا أن هذا النظام لا ولن يحاكم أي طرف فيه بغضّ النّظر على الجرائم الّتي يرتكبها. هناك لبنانيون قتلوا ضباطاً وجنوداً ومواطنين ونواباً ورجال دين وفجّروا كنائس وارتكبوا مجازر جماعية، تمّ نسيان كل ذلك ولم يقدم تحالف الطّوائف على محاكمة أو محاسبة أحد. تحالفوا علناً مع الصّهاينة وانتخبوا رؤساء للجمهوريّة.
واليوم، أركان التحالف المذهبي- المصرفي نهبوا الناس علناً، هجّروهم وأفقروهم وسرقوا الدّولة ودمّروا النّسيج الاجتماعي في البلاد لكنّهم متحالفون في ما بينهم تغطيهم قوى أجنبية ارتهنوا لها. لا مفرّ، مشروع لبنان الكبير الطائفيّ سقط إلى الأبد، لكنّ هذا النّظام سيحاول وبأيّة وسيلة يمكنه اللجوء إليها، حتى طلب المعونة العسكرية الأجنبية على وأد كلّ حركة مقاومة للمشروع الصّهيونيّ. يمهّدون منذ الآن للتطبيع مع العدو وهذا متوقّع منهم. لكن رغم أنّ المحاولة الّتي قام بها سعادة وحزبه لنشر وعي قومي بين الناس قد تمّ تصفيتها عام 1949، فإنّ الوضع اليوم مختلف جذريّاً. لن يتجاسر النّظام على قمع الناس لأن الثّمن الّذي سيحصده سيكون موتاً محتّماً. هذه البلاد، رغم كل نكباتها والمؤامرات الّتي تعرّضت لها من حكّامها ومن الغرب الصهيونيّ، لن تذعن لمشروع تدميرها واستيطانها. نبض المقاومة الشعبية متواصل رغم الحصار والتجويع. لا مفرّ من النّجاح وإن طال زمن المعركة. ولا بدّ كما قال سعادة من: «... فإنّكم ملاقون أعظم انتصار لأعظم صبرٍ في التّاريخ».

* كاتب لبناني