هل يحق لأحدٍ مَن كان، ممن ينتسبون إلى قطر عربي أو إسلامي من دول الجامعة العربية، أو منظمة التعاون الإسلامي، (ولا حاجة لتوسيع البيكار أكثر)، أن يتكلّم في السياسة، أو المصلحة، أو يحدّد الأعداء، والأصدقاء، ما لم يعرف ما هو الكيان الصهيوني، وما يريد من فلسطين، ومن شعب فلسطين، أو ما يريد من البلدان العربية والإسلامية. إن معرفة ما يريده، في الحالتين، يجب أن تستند إلى التجربة التاريخية المبنية على معرفة الكيان الصهيوني، من خلال ما مارس ويمارس، من سياسات وأعمال. ومن ثم بعد ذلك يتضح ما وصل إليه من معرفة بطبيعة هذا الكيان وأهدافه. ثم معرفة، بالضبط، ما يريده، ويسعى إليه. أي يحدّد الموقف منه بناءً على ذلك.يخطئ كل من لا يصل إلى قناعة مطلقة بأن هذا الكيان يمثل عداءً مطلقاً لفلسطين وشعبها، إذ اعتبر، ويعتبر، فلسطين «أرض إسرائيل»، ويجب اقتلاع شعبها، كل شعبها، منها وتهويدها بالكامل. ويخطئ كل من لا يصل إلى قناعة يقينيّة، بأن هذا الكيان يريد إحكام السيطرة الصهيونية، على كل البلاد العربية، انطلاقاً من التفوّق العسكري الكاسح عليها، مجتمعة وفرادى، فيشنّ الحرب متى اقتضت استراتيجيته وسياسته، كما فعل في الخمسينيات والستينيات. ويخطئ كل من لا يصل إلى قناعة مطلقة، بأن هذا الكيان يريد هدم المسجد الأقصى، وبناء الهيكل المزعوم مكانه، وينكر أيّ حق ديني لمسلمي العالم في القدس وفلسطين باعتبارها «أرض إسرائيل»، وبأن من عليها من غير اليهود «غرباء»، وما يعتبر مقدسات إسلامية وردت في القرآن، أو في التاريخ الإسلامي، هي ليست بمقدسات. ويعتبر بعضها مقدسات يهودية، كما يدعي. ناهيك عن أن التهويد يحوّل المقدسات المسيحية، بما يشبه الآثار الرومانية، عندما يستكمل تهجير المسيحيين من حولها.
(مارك رودن، 1990 - من أرشيف ملصق فلسطين)

وإذا وسّعنا البيكار، فلا يحق لمنتسب من العالم الثالث، أو من اليسار العالمي أو أحرار العالم، ألّا يعتبر الكيان الصهيوني من صناعة الاستعمار، والعنصرية العالمية التي مورست بحق الشعب الفلسطيني، حيث لم يقتصر على الغزو العسكري للاستيلاء على فلسطين، وإنما راح يقتلع شعبها، ويمارس ضده سياسة الإبادة والتهجير، ليحلّ مكانه مستوطنين-عنصريين، استُجلبوا من كل بقاع الأرض.
ولهذا لا يحق لمن لا يُقرّ بكل هذه الحقائق، قديمها وجديدها والآتي من طينتها بعدها، أن يتناول موضوع الكيان الصهيوني بأيّة صورة من الصور التي تخالف، أو تتجاهل، هذه الطبيعة العدائية عداءً مطلقاً لفلسطين وشعبها، وكان لكل بلد عربي نصيبٌ مقدرٌ منها، لا سيما مصر وسوريا ولبنان والأردن والعراق، مروراً بالسودان، ووصولاً إلى قصف العاصمة التونسية. والأهم، في ما يتعلق، بالوضع العربي ما قام من تفوّق عسكري كاسح، مهدداً أمنه القومي، طوال مرحلة وجوده حتى اليوم. مما فرض ويفرض ألواناً من الإملاءات، التي تمسّ السيادة والاستقلال والأمن القومي والمصالح العليا.
طبعاً، الوحيدون الذين لهم «الحق» في أن يتعاملوا مع الكيان الصهيوني، بغض النظر عن كل ما تقدّم، هم الذين يستسلمون ويقبلون به. فإذا كانوا فلسطينيين عليهم أن يقبلوا في نهاية المطاف بتهويد كل فلسطين، ويقبلوا بالرحيل منها. لأن هذا هدف الكيان، حتى وأنت راكعٌ على ركبتيك. وإن كانوا من العرب فعليهم بتسليم رقابهم، وعقولهم ومشاعرهم، للكيان الصهيوني، وأن يضحوا بفلسطين وشعبها، وبمصالحهم ودينهم، أكانوا مسلمين أم مسيحيين.
ولهذا من العبث أن يتصوّر أحد إمكان التعايش مع الكيان الصهيوني، بعيداً من شروطه وطبيعته. وهذا ما جربته «م.ت.ف» بعد أن قبلت باتفاق أوسلو، وتنازلت عن ثوابتها، وقبلت بحلّ الدولتين، ضمن شروط الكيان الصهيوني، ومن بعد هذا الحل، قبلت بسلطة حكم ذاتي صوري، وبتنسيق أمني، ما كان ليقبل به فلسطيني قط.
أمّا سقوط حلّ الدولتين بعد اتفاق أوسلو، فقد سقط معه، ولَحق به، كل مشروع يتضمن التشارك والتعايش أو العيش المتجاور، ولو من دون «مساواة». وبالمناسبة، حتى تعايش ضمن نظام أبارتايد، لا يقبل به الكيان الصهيوني، إلّا مؤقتاً لبينما يقتلع من تبقى من أهل فلسطين، ويفرض الرحيل عليهم. وهو ما يعنيه قرار الكنيست الأخير الذي سمّي بقرار «الدولة القومية».
باختصار، إن كل من لا يفهم علاقة الكيان الصهيوني بفلسطين وشعب فلسطين على هذه الصورة، ولا يفهم علاقة الكيان الصهيوني بالعرب والمسلمين، دولاً وأفراداً ومجتمعات، على أساس الخضوع والسيطرة والتحكم، بشكل يتعدّى كل حدود، مع مصادرة كل فلسطين وتهويدها، فعليه أن يعود من جديد لتاريخ المشروع الصهيوني، واستراتيجياته وسياساته وممارساته، طوال مئة سنة، أو في الأقل طوال 75 سنة. بكلمة، لا يحق لأحد من الفلسطينيين أولاً، ومن الدول المحيطة بفلسطين، ثانياً، أو بالدول العربية ثم الإسلامية ثالثاً، ورابعاً، أن يتفوّه بكلمة تُسقط العداء المطلق الذي يمثله الكيان الصهيوني، ومثَّلهُ دائماً من قبل. وأن من يفعل ذلك، فهو جاهلٌ بقراءة تاريخ الصراع، وبليد بفهم طبيعة الكيان الصهيوني، وطبيعة أهدافه واستراتيجياته وسياساته وممارساته. طبعاً يمكن أن يُقال فيه أكثر.
تجربة اتفاق أوسلو كشفت الكثير من أوهام إمكان التوافق، أو التعايش، أو التشارك، ولو بأشد الشروط إجحافاً، وها هي ذي تتكرر عربياً في أيامنا الراهنة، مع الذين حاولوا تغيير اتجاه بوصلة العداء الصهيوني، فإذا التقارب معه راح يقدّم لهم «هدية» غالية، وهي المضيّ قدماً في الاعتداء على المسجد الأقصى، والسعي لهدمه، وبناء الهيكل. فيا للمهزلة: حتى مراعاة الحد الأدنى من المشاعر الدينية والوطنية، لم يقدّمها الكيان الصهيوني للذين راحوا يطبّعون معه. فيقول لهم أنتم جئتم خاضعين، وليس لكم أن تطلبوا مقابل ذلك شيئاً.
فتجربة كل من اتفاق أوسلو، والسلطة الفلسطينية، والتنسيق الأمني، وتجربة التطبيع الذي رفع عن الكيان الصهيوني صفة العدو المطلق لفلسطين وشعبها، وللعرب والمسلمين ولأحرار العالم، عمّقا المعرفة العميقة الصحيحة لطبيعة العدو، ولحقيقة أهدافه، ولمدى عداوته. وذلك بإزالة الكثير من الأوهام التي نسجت حوله.
من هنا، إن كل من يحاول بأيّة صورة من الصور، ألّا يعتبر الكيان الصهيوني هو العدو رقم واحد لفلسطين وشعبها، وللعرب والمسلمين وأحرار العالم، إنما يتعامى عن العدو الذي سيطر على فلسطين واستباحها، واقتلع أغلب شعبها منها، وفرض عليهم الشتات، وها هو ذا يمعن في ارتكاب المجازر، والمزيد من مصادرة الأرض وتهويدها (وفي المقدّمة القدس)، وانتهاك المقدسات المسيحية والإسلامية، وخصوصاً المسجد الأقصى، ومن قبله المسجد الإبراهيمي في الخليل. وها هو ذا اليوم، وليس في الماضي، يستعد لشنّ الحرب، واستعادة تفوّقه العسكري ليضع «المنطقة»، «الجميع»، تحت بساطير جنوده. ويفرض تهويد فلسطين، كل فلسطين. ويفرض الإذلال والخضوع على كل من يقترب منه ويريد مصالحته.
وبعد، فبعد كل هذا، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، كيف يحق لأحد ألّا يرى الكيان الصهيوني هو العدو رقم واحد. العدو الذي لا مستقبل لبلادنا وشعوبنا ما لم ننزل الهزيمة به، ونرفع صخرته الرابضة على صدورنا رفعاً نهائياً.
ولهذا، فإن معرفة الكيان الصهيوني، وتحديد الموقف منه، يشكّلان حجر المحك في الحكم على كل سياسة وتحليل وموقف. فنحن هنا لا نتحدّث عن خطر آتٍ، أو محتمل، وإنما عن واقع وحقائق تاريخية، وراهنة، ومستقبلية. فكيف يمكن القفز عليها، أو تجاهلها.
* كاتب وسياسي فلسطيني