منذ عقود ثلاثة وأكثر وقضية سلاح المقاومة قضية جدليّة لا أفق لتخليصها من منطق السّجال الداخلي. وحتى لو اكتشف المعترضون على وجود السلاح أنّ هناك نسقاً من الأسباب الوطنية والواقعية في أصل تكوينه، وهم قد اكتشفوا ذلك، فإنّ الدوافع التي حملتهم على منابذته لا ترتبط بقواعد العلم ولا بالظروف الموضوعية التي تولّدت منها المقاومة، بل إلى جذور تاريخية وثقافية ونفسية متنوعة.تنامي العبثية عند فريق من اللبنانيين حيلة مألوفة لمن تراوده مشاعر مزدوجة تأتي بها موازين القوى والوصايات والتحالفات الداخلية أحياناً. عندما تكون سوريا قوية يكون مع سلاح المقاومة. عندما تضعف تقوى المطالبة بحلّه. عندما تبدأ الحملات الدولية وتكبر التدخلات الخارجية يرتفع الصوت عالياً في الداخل ضده. قبيل الانتخابات يرغب البعض في إضافة عنوان نزع السلاح إلى كوكتيل الشعارات الطائفية، وهكذا هناك ما شاء الله من الدوافع التي تحثّ هؤلاء على التعبير عن مواقفهم سلباً وإيجاباً لتكون مقبولة في عباءة السياسة البائسة. على أنّ أقصر الطرق للإجابة عن سؤال: كيف يمكن أن نتعامل مع سلاح المقاومة؟ هو في الرد سريعاً بتسليمه إلى الدولة. هذا الفريق توصّل إلى هذا الحل الفريد الذي لا ينتمي إلا إلى خانة تبسيط القضايا ولا يُقدّم للبنانيين أي معيار يساعد في الحكم على صحته لردع العدو. لكن هذا لا يعني، في الواقع، إلا أنّ الذي يُراد منه أن يُشكّل حلاً والأسماع مرهفة لسماع ترنيماته، ليس إلا إضافة «ساخرة» على التراجيديا اللبنانية. ليس لأنّ الدولة هجين غريب الأطوار والدوافع والكيان الأكثر مأساوية في الاجتماع اللبناني، بل لأنّ مَن يدعو إلى هذه الدعوة باعتبارها حلاً عظيماً، وجد مصلحته فعلاً في الخضوع والقيام بالأشياء اللامعقولة والخرقاء والليونة النزقية التي تبدد الكثير من الحقوق.
النفور من السلاح لصالح حميّة طائفية أو حزبية طائشة يدفعنا إلى البحث في العلاقة بين الصحة النفسية والسياسة. إذ كيف ستكون مصالح الشعب إذا كانت خاضعة لسياسيين عليلين؟ كيف ستكون السياسة وقد انقادت لضغط المرض؟ إنّ التنكر للحاجات الوطنية والبشرية عبر الأصوات الإعلامية أو الخارجية الترجيحية لا تطهرنا كلبنانيين من مشاعر الرعب ولا تخلصنا من أقدار العدوان. القول إنّ السلاح لا بد أن يكون حصراً بيد الدولة هو تلاعب بالتصوّرات. تماماً كالإنسان الذي يرغي ويزبد فيما لا يمتلكه وما يتمناه. فأين هي الدولة التي تتوجه إليها المسؤولية في مواجهة العدو والدفاع عن الشعب، وما التحضيرات والاستعدادات والموارد التي وفرتها لهذا الغرض؟ إنّ هذه الفكرة التي تسود كل المعترضين على سلاح المقاومة تصوّره لنا باعتبارها فكرة أخلاقية. ونحن علينا أن نختار أن نكون مع الأخلاق في تبني هذه الفكرة أو ضد الأخلاق لو رفضناها. لا أنّ هناك مشكلة قائمة وهي تتعلق بالسؤال عن طبيعة الدولة ووظيفتها وما تركته الدولة فينا من تأثير سلبي على المستقبل والمصير. عندما يتكلم البعض عندنا عن الدولة لا يريد من كلامه إلا أن تنزع الدولة سلاح المقاومة بشريطة أن لا نلحّ على مطالبتها بالدفاع فهذا ما لا تقدر عليه. هل هذا نوع من التذاكي أو المرح أو الهذيان الصبياني؟ إذا كان المطلوب أن تنزع سلاح المقاومة فما هو الشيء الآخر غيره الذي يجعل منها حقاً دولة؟ هل مرّ اللبنانيون بكل هذه التجارب القاسية في ظل الاحتلال ليؤمنوا بهذا؟! يركّز المعترضون على جانب الحصرية ولا يركّزون على جانب القوة الذي يطلب منها أن تكون على تماس أوثق مع فريضة الدفاع عن مصالح شعبها. حصرية السلاح تحت وطأة الافتتان الأجوف بفكرة يتم التوقّف عند ظاهرها، وتمجيدها بهذه الطريقة الموهمة العدمية، في وقت تنغمس فيه الدولة بحوض الضعف والعجز وعدم المبالاة، تحمل في طياتها حركة مضادة للمبدأ الأخلاقي وللوظيفة السياسية التي تحتم عليها الحفاظ على قيم الشعب ومُثُله العليا. لو قبلنا بهذه الفكرة التي يشجع عليها الغرب وكثير من العرب، لتجريد لبنان من قوته، سيخرج من يقول متهكماً؛ كم كان اللبنانيون سطحيين بعمق! عشّاق حصرية السلاح ينزعون إلى السهو عن مكر العدو ونكران شروط الصراع التي تتطلب تنويع الأساليب وإظهار قضية الدفاع عن الوطن بأجلى وأنقى وأوضح صورة، لا باستبدالها بأصالة زائفة.
مع التهديدات المتنامية للعدو الإسرائيلي ليس أمام المعترضين سوى أمرين، إمّا دعم الفئة التي تقاتل عدو الوطن، أو الاستناد إلى الدولة التي يعرف القاصي والداني أنّها غير معنيّة بالدفاع أو أنها قاصرة في الدفاع عن شعبها. وإنْ أصرّت هذه الفئة على التمسك بالحالة الأخيرة مع بقاء العدو على عداونه فسيكون ذلك منافٍ للعقل. فإسرائيل لن ترتدع في ظل وسيلة معطلة يتم امتداحها صبح مساء فقط لأنّ المذاق القانوني والدستوري يأبى غيرها. كم تبدو المتعة الدستورية والعرفية أحياناً ساذجة أو بريئة وأكثر رهافة من المطلوب أو منفّرة أمام المخاطر الجسيمة التي يختبرها أي شعب احتُلت أرضه وتنتهك سيادته وتسرق ثرواته كل يوم!
مَن يجد نفسه مجبولاً على تلبية شرط حصرية السلاح بيد الدولة ولو كانت الدولة على نحو الحالة اللبنانية وفي ظل قوى تعتقد أن أعمال التوحش والهيمنة جزء من حقها ومصالحها ودينها، عليه أن يعرف أنّ وجوده غير قابل للاستمرار. المقاومة ليست وسيلة ضرورية يخترعها العقل البشري الفطن فحسب. المقاومة بداهة استمرار وبقاء. لا أحد يستحي من أمر غريب أو غير مألوف إنْ كان هذا الأمر هو طريقته لحفظ النوع والعِرض والأرض. احتقار البعض للمقاومة لأنها لا تلائم صورة دستورية في ذهنه أو نمطاً في حياته لا يخفي كونها هي الضرورة الأشد عمقاً والتصرّف الأكثر حكمة والفضيلة الأصدق نبلاً والمصلحة الأظهر نفعاً. عندما تتعرض البلاد لاحتلال، الشيء الغريب هو أن تقف معدوماً من أدوات الرد مبتوراً من معايير العقل مجرداً من اليقين في وقت توسوس النفس بأسئلة جديرة بالاحتقار.
إنّ فكرة النفع والفائدة إذا كانت لا تغرب عن مؤيدي فكرة «حصرية السلاح» فيجب أن لا يتحول الإيمان بها إلى تملّص من المسؤولية ونفاق وتجنب المواجهة مع عدو لا يفهم إلا لغة القوة. الجواب عن السؤال حول البديل عن المقاومة ليس الدولة الحالية حتماً. قوة المفهوم مهما كانت طبيعته التاريخية والراهنة لا يجوز أن يسقطنا في الوهم. في وضعنا اليومي لا يمكن تسليم السلاح للدولة لأنها ستفسده ولا يمكن إيكال المهمة لها لأننا سنعيش في ظلها حالة من الوهم بقدرتها على حماية الحقوق والموارد وردع العدو. إنّ المرء يفرح عندما تقوم الدولة بواجباتها تجاه شعبها. عندما تقدم تبريراً أخلاقياً وعملانياً عن دورها. عندما تتصرف كأمّ تخاطر لحماية صغارها. ولكنّها ستكون عبثية لا محدودة عندما توضع المصائر فيمن لا يوثق بأمانته ووعده وحكمته، وحين تتحول الدولة إلى فاعل أرعن وساذج تعرّض عافيتها ومجدها وحقوق شعبها للخطر كما تفعل اليوم دول عربية تنخرط في تحالفات مع إسرائيل غريبة الأطوار معدومة الهدف إلا من خسارة كبيرة في الكرامة.
المؤيدون للمقاومة وسلاحها عندما يعتبرون أن لا محيد لهم عن اللجوء إليها لمواجهة العدو الإسرائيلي هم لا يجحدون الدولة ولا ينكرون دورها. لكنهم وجدوا المقاومة تتكيف مع قوانين ومعادلات أخرى عكس الدولة التي تختفي وتتستر خلف الخوف والرتابة وحسابات الطوائف وضغوط الخارج. عايشوا المقاومة التي لم تغرق في ظروف الضعف والبؤس والتباؤس. تبيّنوا طرق تفكيرها وأساليب تقديرها للقيم. مفهومها للحقوق والعقوبات. كل ما اعتبره الناس «شروط وجودهم». والذي رجح في النهاية هو ما اختبروه بأنفسهم بأنها القادرة وحدها على ضمان أمنهم في وجه هذا العدو. أداؤها على مرّ السنين لم يجعلها وسيلة محتملة عندهم بل ثابتة ويقينية وهذا راجع إلى شفافيتها ووضوحها وصدقيتها مهما بلغت زوايا النظر المحلية والخارجية إليها متطرفة وغريبة.
المقاومة هي العقل والمنطق والسياق الفطري والتاريخي والوطني الأصيل وهي التي تتوافق مع المعرفة التي لم يكن فيها وحولها لدى كل المجتمعات أدنى ريبة بما تنتجه من حماية وعزة وإن توارت حقائقها من أمام عينيّ ملاحظ نبيه بسبب وثاق الشعور أو السياسة أو الذوق وأشياء أخرى!
* أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الدولية