نظّم الكونغرس الأميركي، لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، جلسة استماع حول الوضع في سوريا، بتاريخ 8/6/2022، تحت عنوان «الطريق إلى الأمام في السياسة الأميركية-السورية: الاستراتيجية والمساءلة»، شارك فيها كل من مساعدة وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى في وزارة الخارجية الأميركية باربرا ليف، مساعدة وزير الدفاع لسياسة الشرق الأوسط دانا ستراول، أستاذة القانون البروفيسور ميلينا ستريو، والملقب بـ«حفار القبور» الشاهد المعتمد حاليّاً ضد النظام السوري. تفيد الشخصيات المشاركة، بما تمثّله على المستوى السياسي والعسكري والقانوني وشمولية المواضيع، أهمية الجلسة، بما يرجح معها احتمال أن تكون ركيزة الحركة الأميركية تجاه سوريا في المرحلة المقبلة، لا سيما وأن مضمون الجلسات لا يخرج عن استراتيجية إدارة بايدن بأولوياتها المحددة في تشرين الثاني 2021، لكن، بشكل أكثر تفصيلاً ووضوحاً. كما يشير عنوان الجلسة إلى اتجاه الإدارة الأميركية في مقاربة الوضع السوري. وإذا كان قصف العقول، الذي ينظّر له فيليب تايلور، هو استراتيجية تدمير قدرة العدو على القتال من دون استخدام السلاح التقليدي، باستخدام الكلمة والصورة، فإن جلسة الكونغرس تمثّل منصة نموذجية لقصف عقول الشعوب، بتشويه الحقائق وتزييف الوقائع وتوجيه الطرف الآخر إلى غاية العدو المرجوة. فهي تحفل بالمغالطات والافتراءات والأخبار المضللة. إن الصورة، التي تحاول البيانات رسمها، أشبه بعملية سلخ للفرد عن الجوهر، فهي تسعى إلى اقتلاع الوعي لديه بعيداً من واقع معاش، علماً أن التاريخ لم يطوِ مجريات الحدث بعد، بحيث يصبح في طي النسيان بما يساعد البعض على إثارة بعض الغبار من هنا وهناك، فتنجح عملية التضليل والقصف، وتطمس الحقائق. المسار الذي يكشف أن قصف العقول لا يتخذ من التاريخ معياراً، بل وكأن تسارع الزمن والأحداث وقولبة المفاهيم في عالم العولمة باتت هي نفسها عوامل مساعِدة في تطوّر مفهوم القصف وتحريره من المزيد من المُثل والقيم. وبالعودة إلى الجلسة، فإنها تعتمد قصف العقول في وقت ما زال الصراع السوري فيه حيّاً، والحصار الأميركي للإرادة السورية يمعن في التجربة والتكرار لعله يحدث بعض الاختراق الفعال، والاعتداءات الإسرائيلية تصرّ على المغامرة في استنزاف الصبر الاستراتيجي لدى كل من سوريا ومحور المقاومة.
تسعى كل من ليف وستراول إلى تعزيز تحميل الرئيس الأسد وحلفائه مسؤولية المعاناة السورية؛ وكأن الحرب الكونية التي شنّتها الولايات المتحدة على سوريا كانت نتيجة الوجود الإيراني وجماعاته أو لتأمين استقرار سوريا وأمنها. إن التاريخ شاهد يؤرّخ الوقائع والحقائق، لكنه سجل للأخبار الكاذبة والمعلومات الزائفة أيضاً. في الملف السوري، لا حاجة للاستعانة بالذاكرة، ولو قليلاً، للتحقق من صحة الأخبار وعدمها؛ فالتجربة ما زالت حية وماثلة وستبقى وصمة على جبين الإدارات الأميركية أمام شعوب العالم التحررية. إن العودة إلى عام 2011، وتحديداً إلى المرحلة الفاصلة ما بعد اندلاع الحرب التي خططت لها واشنطن وقامت بتمويلها وعملت في إدارتها على تدريب الخلايا الإرهابية وإنشاء الغرف الاستخباراتية، «الموم» و«الموك»، ومرحلة ما قبلها -حين كانت سوريا مثالاً في الاكتفاء الذاتي بين دول المنطقة- خير دليل على المسؤول عن صراع عقد من الزمن وتداعياته على سوريا وشعبها والمنطقة. كما إن أحداث الحرب خير شاهد على دور الحلفاء المساهم والفعال في صمود سوريا في مواجهة المخطط الأميركي لاستلاب حقها في الممانعة وسيادة القرار. لقد أكدت الجلسة الالتزام الأميركي في حفظ أمن الحليف الإسرائيلي وكبح التهديدات عليه، لكن المستجد هو وضع الأردن في خانة الكيان المؤقت أثناء عملية الترويج لحركتها خوفاً على حلفائها وشركائها. الأمر الذي يكشف عودة التنسيق العميق الأميركي الإسرائيلي الأردني حول سوريا، مع الأخذ في الاعتبار التحركات المشبوهة والمريبة، في الفترة الأخيرة، على الحدود مع سوريا.
تدّعي مساعدة وزير الخارجية، باربرا ليف، أن مساعي وزارة الخارجية الأميركية تهدف إلى تحسين ظروف السوريين، وأن توسيع وصول المساعدات الإنسانية إلى جميع أنحاء سوريا أمر محوري للاستراتيجية الأميركية. الخطاب الذي يتناقض كليّاً مع الحركة الأميركية التي تمعن في حصار سوريا وعرقلة التعافي الاقتصادي والخروج من العزلة السياسية واستمرار سرقة النفط السوري وانتهاك سيادتها بالعدوان الإسرائيلي المتكرر ودعم الجماعات المعارضة الخارجة عن سلطة الدولة مما ينعكس سلباً على وضع الشعب السوري وظروف معيشته، ناهيك عمّا قامت به أخيراً من استثناءات في قانون قيصر لمناطق المعارضة حصراً بما يدحض الكلام الناعم عن وصول المساعدات إلى كل سوريا. أمّا حول مساعدة جيران سوريا، فإن لبنان الجار اللصيق الذي يعاني بسبب الحصار الأميركي ما زال يتعرّض لكل أنواع الضغوطات. أمّا الادّعاء باستمرار الالتزام مع لبنان بتخفيف آثار قضية اللاجئين، فإن واشنطن تستغل الأزمة في إحداث المزيد من الضغط على لبنان وسوريا، فهي تحول دون تخلّص لبنان من العبء الاقتصادي الإضافي الناجم عن وجود اللاجئين وتعرقل عودتهم دوليّاً، بحيث تمنع الاتحاد الأوروبي من استمرار تمويل هؤلاء في حال عودتهم إلى سوريا منعاً من انتعاش البلاد. من هنا، لعل باربرا ليف قصدت الجار الأردني، ولكن من المؤكد أن الدافع ليس حسن العلاقات الأميركية الأردنية وإنما المقايضات التي يدفعها الأردني لحماية الكيان المؤقت، أو قد يضطر إليها، وأغلاها ثمناً ما كان في القضية الفلسطينية.
إن المنطق يصطدم بالتناقضات حين تتبنّى واشنطن في خطابها الرسمي في جلسة الكونغرس الحديث عن «إبقاء العنف في سوريا منخفضاً» في وقت تطلق فيه أو تغض النظر عن الاعتداءات الإسرائيلية المتفاقمة، أو تقوم بتسهيل تحركات «داعش» وتأمين التغطية لها، أو تحرك خلاياها النائمة. لا تزال قوات الاحتلال الأميركية تنتهك حرية السكان في مناطق الشمال الشرقي السوري، وتثير فيهم الرعب والخوف، كحال إنزالاتها الجوية المتكررة والمجهولة الأهداف، على الأقل علنيّاً، وهو ما لا ينسجم البتة مع هدفها المزعوم «لتحقيق الهزيمة الدائمة لداعش»، إذ لم يسجّل للقوات الأميركية أو التحالف الدولي أي عملية عسكرية في مواجهة «داعش». وما تقوم به غرفة العمليات المشتركة والوكيل الكردي تجاه «داعش» أشبه بعمليات استعراضية تفتقد الجدية والجدوى في المواجهة. وهذا المستوى من العمليات لا يمكن الاعتماد عليه في حديث دانا سترول حول تأخير روسيا وإيران والعملية التركية المحتملة لمسار التقدم في الحملة على «داعش». وعلى عادة الأميركي في التخطيط من دون أن يتكلّف، بحيث يدفع بالآخرين للتمويل أو الوقوف في الخطوط الأمامية، فإن باربرا ليف تؤكد ضرورة تدخل المجتمع الدولي اقتصاديّاً في مناطق الاحتلال الأميركي تحت غطاء تقويض «الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي سهلت صعود داعش». ولعل الرسالة الأقوى التي يجب أن تفسر مفاتيحها جيداً من قوات سوريا الديموقراطية فهو حيز الاهتمام الأكبر بـ«داعش»، في مقابل الحديث عن «قسد» في مورد الأداة التي تستخدم في مواجهة «داعش». ولم تصدر أي إشارة إلى موقف واضح وجلي من مصير مناطق الإدارة الذاتية، بل يمكن القول إنه لا ثقل لـ«قسد» في موازين القوى الأميركية، لا سيما عندما حددت سترول تداعيات الهجوم التركي في حال حدوثها بالخوف على أمن القوات الأميركية وحملة «التحالف ضد داعش» وتعرضهما للخطر، من دون أن تشير إلى «قسد» و«مسد» والإدارة الذاتية.
لقد سعت مساعدة وزير الدفاع، دانا سترول، في الجلسة إلى تلميع صورة المهام الأميركية في محاولات تمكين «قوات سوريا الديموقراطية» من توفير احتجاز إنساني وآمن للمقاتلين المحتجزين لديها، في وقت تتناول التقارير الإخبارية والتحليلية الغربية الأحداث المروعة التي تحصل داخل المخيم، من قطع رؤوس، وإشعال نار، وعمليات إعدام، وجمع تمويل لـ«داعش»، ومحاولات الانقلاب. أمّا الترويج لقدرة «قسد» على التعامل مع السجناء والتصدي لـ«داعش» عبر الاستدلال بحادثة سجن غويران، والزعم بأن «قسد» تمكنت من إحباط جهود تنظيم «الدولة الإسلامية» بسبب ردها السريع على الهجوم، فإن المدة الزمنية التي استهلكتها «قسد» لمعالجة الوضع والخسائر التي منيت بها والثغرات الأمنية التي انكشفت فهي دلائل النجاح المزعوم. والأمر اللافت في الحديث عن الضغط الأميركي على «بلدان المنشأ لإعادة مواطنين من شمال شرقي سوريا، بمن فيهم مقاتلون إرهابيون أجانب»، أنه ضغط ظاهر ونشِط على الجبهة العراقية فقط، الأمر الذي يفسّره خصوصية المحاذاة الحدودية بين العراق وسوريا، بما يخدم الأجندة الأميركية في خروج أكبر عدد ممكن من الإرهابيين تحت ذريعة إعادة التأهيل للاستثمار مجدداً باتجاه «دعم المبادرات الحاسمة ضد النفوذ الخبيث، سواء كانت إيران أو وكلائها»، على حد تعبير ليف.
وليس بعيداً من مسار استثمار المعاناة الإنسانية بعد التسبّب بها، تهدف المداخلة القانونية في الجلسة إلى تحشيد الدعم الأكبر الممكن باتجاه رفع مستوى عرقلة تعافي النظام ومعاودة بناء قدراته. منذ مدة، وفي محاولة للاستمرار بحصار النظام بعناوين مختلفة واستحداث عراقيل متفرقة، حرّكت المنظمات الحقوقية وغير الحكومية بذريعة الانتصار للشعب السوري، وفي طليعتها جمعية «ميموريال» الروسية المعارضة، و«الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان»، و«المركز السوري للإعلام وحرية التعبير». وبالفعل، تشهد المحاكم الأوروبية أخيراً الاندفاع باتجاه القيام بمحاكمات فرعية لعدد من السوريين بتهم القيام بجرائم حرب، كما طاولت الحملة رفع قضية ضد القوات الروسية الخاصة، «فاغنر». إن القانون سيد المواقف، والعدالة مطلب إنساني فردي وجمعي، لعل الأمل بتحقيق العدالة للشعب السوري يقتصّ بالدرجة الأولى ممن يحتل الأراضي السورية ويتواجد فيها من دون شرعية على خلاف بقية الحلفاء المتواجدين بإذن وبطلب من الحكومة السورية، وعسى أن تقاضي هذه المنظمات الحقوقية ازدواجية المعايير القانونية؛ فتدين جرائم الحرب الأميركية، وآخرها فضيحة جريمة مدينة الرقة في العام 2017، التي تغافلها المجتمع الدولي رغم تقارير الإدانة الموثقة أميركيّاً. ويبقى سؤال معروف الإجابة لكن فقط لدى أهل الحرية الحقيقية والأصيلة؛ هل كانت الولايات المتحدة لتتحرك باسم الدفاع عن حق الشعب السوري أو حتى لتفتح ملفاً بهذا الموضوع لو أنّ الرئيس الأسد استجاب للشروط الأميركية في مصادرة قرار سوريا وسيادتها، وتخلّى عن التمسّك بحق سوريا في الممانعة؟!

*باحثة لبنانية