يشبه قيس سعيد لويس بونابرت، من حيث أنه أيضاً قد انتخب رئيساً للجمهورية بغالبية شعبية كبيرة بعد ثورة تقاتلت قواها الثورية وتفرّقت. وكلاهما نازعا الأحزاب والبرلمان السلطة والاختصاص. وكلاهما حاولا اللعب على النزعة الشعبوية ضد الأحزاب، ثم قاما بانقلاب من موقعهما كرئيس للجمهورية قاد إلى حل البرلمان وتولّي الرئيس للسلطات كافة التنفيذية والتشريعية والقضائية، مع قمع الحرّيات، وقد حصل ذلك بعد ثلاث سنوات فرنسية وسنتين تونسية. وكلاهما قاما باستخدام سلاح الاقتراع الشعبي عبر الاستفتاء لتمرير ما يريدان. لويس بونابرت، بعد سنة بالضبط من انقلابه، قام بتنصيب نفسه إمبراطوراً على فرنسا باسم نابليون الثالث في يوم 2 كانون الأوّل 1852 وأعلن الإمبراطورية الثانية.خصص كارل ماركس كتاباً كاملاً لانقلاب لويس بونابرت تحت عنوان: «الثامن عشر من برومير لويس بونابرت». ومن خلال هذا الكتاب تم اشتقاق مصطلح جديد في علم الاجتماع السياسي هو: «الظاهرة البونابرتية»، التي يستطيع فيها فرد واحد، في لحظة انسداد سياسي توازني في صراع معسكرين سياسيين متجابهين، أن يظهر بمظهر «المنقذ»، وأن يتولى السلطة بمفرده حاصراً كل السلطات بيده، وسط تأييد شعبي مرموق القوة. ثم يصبح هذا الفرد مثل الصاروخ المنطلق للأعلى في حالة تخفف من حمولاته أو من حامليه الذين ساندوه لحظة الانطلاق، حتى يبقى بالنهاية وحيداً في سلطته أو بما يسمّيه بعضهم بعزلة السلطة المطلقة في أعلى الشجرة. في تجربة نابليون بونابرت مع انقلاب الثامن عشر من برومير، الذي يعادل بالتقويم الميلادي التاسع من تشرين الثاني 1799، على حكومة المديرين (الديركتوار) التي حكمت منذ عام 1795، والتي تميّز عهدها بالصراعات والتفكك الاجتماعي والأزمة الاقتصادية، رغم حروبها الناجحة على المسرح الأوروبي، ظهر بونابرت بمظهر المنقذ العسكري الفرد لكثير من الفرنسيين. وكان هو الحل الثالث؛ بين عودة النظام القديم لما قبل ثورة 1789، أو عودة حكم الإرهاب اليعقوبي بزعامة روبسبيير الذي حكم فرنسا بمجرى عام 1794. وقد كان نابليون يتمتع بتأييد البورجوازية والفلاحين وعامة الشعب الفقير. وهو عملياً كان المؤسس للإدارة الفرنسية الحديثة. ولكنه في النهاية حارب كل القوى الأوروبية الكبرى حتى هزم في معركة واترلو عام 1815 حيث بعدها أخذ أسيراً ومات كمداً في أقاصي جنوب المحيط الأطلسي بجزيرة سانت هيلينا تحت إشراف سجانيه البريطانيين. في «الثامن عشر من برومير لويس بونابرت»، الذي يقول عنه ماركس بأنه تكرار تاريخي له شكلُ المسخرة لتجربة عمّه التي كانت على شكل مأساة، انتهى أيضاً لويس بونابرت أسيراً بيد الألمان في معركة سيدان عام 1870 ثم مات كمداً في بريطانيا بعد ثلاث سنوات. هزمت فرنسا في عهد العم ثم تكرّر هذا في عهد ابن أخيه.
السيسي وقيس سعيد هما إعلانان عن فشل الثورتين المصرية والتونسية رغم أن التوانسة قد أظهروا مناعة ضد الدكتاتورية


يمكن هنا أن نضع الجنرال المصري عبد الفتاح السيسي في انقلاب 3 يوليو 2013 كظاهرة ثالثة للحالة البونابرتية. في هذه الحالة المصرية، تمتع السيسي بتأييد شعبي كبير، ظهر أوّلاً حجمه في تظاهرة 30 يونيو ضد حكم الإسلاميين. وعندما انقض على السلطة بعد ثلاثة أيام كان الجدار الاستنادي له، إضافة إلى المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية والجهاز الإداري، ممتداً إلى تيارات سياسية أو رموز لها وزنها الشعبي، مثل الناصري حمدين صباحي الذي نال خمس أصوات المقترعين بالجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية المصرية عام 2012 وحل ثالثاً بعد محمد مرسي وأحمد شفيق. إضافة لتأييد الكاتب محمد حسنين هيكل، ونقيب المحامين السابق الناصري أيضاً سامح عاشور. كما نال السيسي دعم الليبرالي محمد البرادعي والليبراليين في حزب الوفد. وأخذ دعم ماركسيين وشيوعيين مثل الدكتور سمير أمين ورفعت سعيد. وانضاف لهؤلاء الناشط أحمد ماهر من «حركة 6 أبريل»، الذي سجنه مبارك ثم مرسي، قبل أن يقوم السيسي الذي أيّده ماهر في انقلاب 3 يوليو بسجنه أيضاً في نهاية عام 2013، ويقوم كذلك بنفي البرادعي للخارج. كان «البعبع الإسلامي» هو الذي أعمى كل هؤلاء عن رؤية ما يمكن أن يفعله السيسي بمصر والمصريين. والكثير من مؤيدي السيسي في يوم 3 يوليو 2013 قد أكلهم الندم بالسنوات اللاحقة، وأحمد ماهر والبرادعي وحمدين صباحي أمثلة صارخة على ذلك، وهو على ما يبدو يشمل ملايين المصريين أيضاً.
في تونس، هناك حالة جديدة بوجه الدكتاتور الناشئ. استند قيس سعيد في انقلاب 25 تموز 2021 للمادة 80 من دستور عام 2014 التونسي التي تقول بإمكانية إصدار رئيس الجمهورية تدابير استثنائية بالتشاور مع رئيسي الحكومة والبرلمان (لم يفعل ذلك) لمدة ثلاثين يوماً مع بقاء البرلمان منعقداً (قام بتجميد عمله يومها)، ويحق للمحكمة الدستورية البت بانتهاء الحالة الاستثنائية بعد ثلاثين يوماً أو العكس (قام قيس سعيد بتعليق العمل بالمادة الخاصة بالمحكمة الدستورية لاحقاً). لاقى الرئيس التونسي تأييداً شعبياً ملحوظاً في يوم انقلابه، بعد ملل التونسيين وتذمرهم من حكم ما يقارب عشر سنوات بعد ثورة 2011 ضد حكم بن علي مارسه الإسلاميون، منفردين أو بالتشارك مع آخرين. وكان هناك تذمر اجتماعي من شلل المؤسسات الذي ترافق مع أزمة اقتصادية ومع أداء حكومي ضعيف أمام جائحة «كورونا». من الأحزاب السياسية أيّده «الحزب الدستوري الحر»، وله 17مقعداً من مجموع مقاعد البرلمان البالغة 217، وهو وريث حزب بن علي، و«حركة الشعب» (15مقعداً) وهي ذات توجه ناصري، وكان يتزعمها محمد البراهمي الذي اغتيل عام 2013، و«آفاق تونس» (مقعدان) وهي حركة ذات توجه ليبرالي علماني، و«حزب التيار الديموقراطي» (22 مقعداً) وهو ذو توجه اشتراكي ديموقراطي يساري. عارض سعيد الإسلاميون في «حركة النهضة» (52 مقعداً) وإسلاميّو «ائتلاف الكرامة» (21 مقعداً) وليبراليّو «حركة قلب تونس» (38 مقعداً) والماركسيون في «حزب العمّال» ولهم مقعد واحد في البرلمان. كان هناك متردّدون مثل «حركة تحيا تونس» (14مقعداً) وهم ذوو اتجاه بورقيبي. كان لافتاً تأييد «الاتحاد العام التونسي للشغل» لإجراءات قيس سعيد. ولكن في 22 أيلول 2021، عندما أسفر الرئيس التونسي عن وجهه الكامل وقام بتولي رئاسة السلطة التنفيذية وجمّد العمل بالمادة الخاصة بالمحكمة الدستورية وتولى رئاسة السلطة القضائية، ثم قام ببحر عام 2022 بحل المجلس الأعلى للقضاء وقام بتعديل القانون الأساسي للهيئة العليا المستقلة للانتخابات وقام بحل البرلمان، فإن قاعدة قيس سعيد الحزبية قد تقلّصت، بدءاً من خريف 2021. حيث انفض عنه، تباعاً، «الحزب الدستوري الحر»، و«التيار الديموقراطي»، ثم كانت في نهاية العام عملية بدء معارضة «الاتحاد العام التونسي للشغل» الذي اتهم الرئيس بـ«الانفراد بالسلطة والذهاب نحو المجهول». وهو، أخيراً، مع الأحزاب الرئيسية كلها، ما عدا ناصريو «حركة الشعب»، قد رفضوا مجتمعين دعوة الرئيس إلى «مؤتمر الحوار الوطني»، وأعلنوا جميعاً مقاطعة استفتاء 25 تموز 2022 على تعديلات مقترحة من قيس سعيد ولجنة معينة من قبله على دستور 2014. ما زال قيس سعيد حتى الآن يلاقي تأييداً شعبياً بين رجال الأعمال ومن علمانيين في مجتمع متجذرة فيه التقاليد العلمانية منذ أيام بورقيبة، ولكن من الواضح أن الأكثرية الاجتماعية للتونسيين ضده، وبالذات ضد أن يصبح دكتاتوراً في مجتمع قوي التجذر فيه العملُ الحزبي وأفراده يرضعون السياسة منذ عشرات السنين.
كتكثيف: يلاحظ كارل ماركس في كتاب «الثامن عشر من برومير» بأن الحالة البونابرتية تحصل في الثورات المتراجعة أو الفاشلة أو التي وصلت لحائط مسدود. نابليون بونابرت مثالاً بعد مأزق حكومة الديركتوار التي جعلت الثورة الفرنسية لعام 1789 تضرب بالحائط المسدود. ولويس بونابرت بعد ثورة شباط 1848 التي يصفها ماركس بأنها كانت مجرد «هزة على السطح»، وبأن انقلاب لويس بونابرت هو حصيلتها ولم يكن «صاعقة انقضت من السماء الصافية». السيسي وقيس سعيد هما إعلانان عن فشل الثورتين المصرية والتونسية، رغم أن التوانسة قد أظهروا مناعة ضد الدكتاتورية لم تكن موجودة عند المصريين. قبل كل ذلك،كان قيام أوليفر كرومويل بإغلاق «البرلمان الطويل» (1640-1653)وطرد أعضائه الذين حملوه للسلطة إعلاناً عن فشل الثورة الإنكليزية بين عامي 1642و1649 والتي قادها البرلمان ضد الحكم الملكي المطلق لتشارلز الأوّل، وقادت لحرب أهلية انتهت بانتصار قوات البرلمان وإعدام الملك. لم تدم دكتاتورية كرومويل أكثر من خمسة أعوام وانتهت بموته، ولكن إنكلترا دخلت في اضطراب عامين انتهى بعودة ابن الملك المعدوم من منفاه الباريسي وتوليه الحكم عام 1660، قبل أن يقود حكم أولاد تشارلز الأول، تشارلز الثاني وجيمس الثاني «الذين لم ينسوا شيئاً، ولم يغفروا شيئاً، ولم يتعلموا شيئاً»، إلى ثورة 1688-1689 التي جعلت «الملك يملك ولا يحكم».

* كاتب سوري