عندما اجتاح العدو الإسرائيلي لبنان عام 1982، بدأ الشباب الثوري الملتزم بنهج الإمام الخميني الراحل في بيروت والجنوب والبقاع ومناطق أخرى، يفتش عن إطارٍ مقاومٍ لا يخطئ طريقه عن فلسطين، ولا يكون طُعماً لموت عبثي في دروب يسلكها تجار الحروب والأحقاد، ويكون تعبيراً عن رغبة حارّة في التعرّف إلى كل ما يتصل بالإسلام ومبادئه، وعلى كل ما يدور في النفس النضالية من مشاعر الوطنية والحب للوطن. نسائم الثورة الإسلامية الإيرانية التي هبت شتاء 1979 بدأت تنضّج صورة أوّلية عن هذا الإطار ازدادت وضوحاً مع الإعلان عن الوثيقة التأسيسية التي تلاها رئيس المجلس السياسي الحالي السيد إبراهيم أمين السيد عام 1985. الإطار عكس انفعالات الناس في الأرض التي احتلها العدو، واهتز له وجدان الذين عاشوا خارج تلك الأرض حين بدأوا يسمعون عن جهاد المنتسبين إليه وتضحياتهم ونشاطهم وعملياتهم البطولية في وجه الاحتلال.لقد تحولت قضية تحرير الأرض قضية حزب الله الأولى، بعد أعوام طويلة من القحط الوجداني الرسمي عانى فيها الجنوبيون على وجه التحديد ظروفاً نفسية ومادية قاسية، ولم تكن حتى الصورة الإنسانية البسيطة ترقى إلى مستوى التعاطف الجدّي من قبل الدولة التي حرمتهم من جميع الفرص الطبيعية التي كان من الممكن أن تمنحهم قوة جماعية وقدرة على الدفاع عن أنفسهم في وجه الاحتلال. لم تؤهل الدولة الجنوبيين إلى أي دور، ولم تتح لهم أي فرصة لتأهيل أنفسهم تحت رعايتها ونظرها ومساندتها المعنوية، ويكفي أن نعرف مستوى الأميّة التي كانت تزيد في الستينيات على 80 في المئة لنعرف المعاملة السيئة التي تعرّض لها سكان الجنوب في تلك الفترة المظلمة. لقد كانت الدولة محايدة تماماً ولم تشعر بعطف إزاء واقع يضج بالصعوبات والمشكلات والآلام اليومية العنيفة، ثم كان ما كان من الاحتلال الذي حارب الجنوبيين في أرزاقهم وثقافتهم وتعليمهم وعقائدهم الدينية.
الثورة الإسلامية في إيران كانت القطرة التي أفاضت الكأس، واجتياح العام 1982 فتح الباب على أولى التدابير. فيما البلاد كلها كانت معلّقة على شعار «المقاومة هي الرد... وقوافل الشهداء تصنع النصر». كأنّ المؤسّسين الأوائل كانوا يريدون أن يروا الشمس التي انتظروها بشغف طويلاً. زادت حرارة العمل. مهرجانات واعتصامات ولقاءات وأسفار إلى طهران، وحماسة الجهاد التي تملأ الناس أملاً وتفاؤلاً بلحظة قد أزفت، وبكون الخطوات تمضي موحّدة إلى المكان نفسه.
لم يظهر حزب الله فجأة، ولم يظهر نموذجه بلا مقدمات، بل كان يرتبط أشدّ الارتباط بجذور حركة الإمام موسى الصدر والسيد عبد الحسين شرف الدين، من الجهة اللبنانية، وبالسيد محمد باقر الصدر وحزب الدعوة، من الجهة العراقية، وبالإمام الخميني وولاية الفقيه، من الجهة الإيرانية. هذا التلازم الضروري في الخطوط والمنابع امتاز به وحده في تشكيل كينونة لا تضيق بالروافد ولا تتمسك بحصرية المشاعل. إذ سيكون القفز عنها بتراً للذاكرات والجهود والأجيال التي يجب أن يمرّ الجهاد ضد الظلم والظالمين من خلال استحضار تجربتها والإفادة من خبراتها. لكن هناك نقطة تجبر الجميع أن يتصرفوا بطريقة مختلفة. ما عاشه البعض في صفوف أحزاب دينية أو ثورية من انقسامات وانشقاقات لا يفتح أمام الأمّة أي مستقبل. معضلة تحاشي الخيبات واليأس والتعثرات يجب حلها بقوة مشتركة وبإرادة المتعاقدين على نهج مختلف.
لم يسمع أحد ما أنّ صراعات داخلية حادّة وعميقة تعصف بالحزب أو أنّ أخطاراً تتهدّد عمره ومسيرته وإنجازاته سوى من الإعلام الأميركي الخليجي وجرائده الصفراء


بسبب ظروف بعض الحركات الإسلامية «الشيعية»، خارج وداخل لبنان، والمشاحنات السلطانية ذات النزعة الانفصالية أو الارتدادية، سواء كانت تحت ظل «المرجعية الدينية» أو لم تكن، كان خطر البقاء والاستمرار هاجساً يومياً لديها. معضلة المؤسِس والجماعة والقيادة معضلة حزبية مقيمة أينما وجد حزب ووجد مؤسس وقائد وقيادة، والحركات الإسلامية، بشقّيها السني والشيعي، لم تشذ عن قاعدة الانشقاقات والتقلّبات، وظلت عرضة لاهتزازات خطيرة عندما كان يداهمها استحقاق مصيري أو حين تتعرض لمخاطر كبرى. هذا الأمر لم يتوافر له مناخ مريح ومشروع داخل الحزب، لا لأنّ الحزب أقوى من الأشخاص ولا لأنّ إيران تمنع ذلك، بل لأنّ مشروعية كل فرد من الحزب، في أي موقع كان، تعتمد بدرجة أساسيّة على كثافة جهاده ضد العدو الإسرائيلي وإخلاصه في هذا السبيل لا بكونه محترف فكر وثقافة ودهاء سياسي كما لو أنّ الانتماء إلى فئة الانتليجنسيا يمنح له امتياز أن ينفصل وينشق ليؤسس فرعه الجديد إن لم يُعمل برأيه أو لم يجرِ تبني طروحاته. الأمر الآخر الذي حمى الحزب من خطر النزعات الانفصالية هو شخص الأمين العام السيد حسن نصر الله نفسه. سيجادل أحدهم بدعم «المرشد» له، أو بالإمكانات التي وُضعت بين يديه ولم توضع لغيره، أو أنّ توافقاً براغماتياً بين النخبة القيادية كان يمنحه الاستمرار فينسب لها، ولو بنسبة معيّنة، فضل الوحدة وفضل بقائه في سدة الأمانة العامة محميّاً من أي منغصات من هذه الجهة. بالتأكيد قد تكون، هذه وغيرها من المؤيدات على سلامة الحزب من شائبة التقسيم كل مدد ولايته، ولكنها ليست العوامل الحاسمة التي تردع أي شخص من استعمال حقه في الاعتراض والانفصال. قد يقول قائل إنّ القيادة بمستوياتها المختلفة كانت ملتزمة العقلانية والمهنية ومحصنة بالوعي الديني في اختيارها «السيّد» وتمسّكها بالوحدة الداخلية، وهذا صحيح، لكن الحق يقال: إنّ «السيّد» نفسه، بزهده وورعه وتفانيه وجهاده واستقامته ومؤهلاته ومواهبه القياديّة الاستثنائية، هو الذي فرض على كل العوامل أن تخضع له والحشود العاطفية أن تتوجّه إليه. استمراره في منصب القيادة كان عملاً طوعياً لا تسامحياً، وقناعات لا يعتمل داخلها التنازل أو الاستنساب المؤقّت، وتوجّهاً يأخذ في الاعتبار المعيار الصحيح دينياً واللائق سياسياً. لكن قد يقول قائل أيضاً: إنّ من شأن بقائه طويلاً في سدة الأمانة أن يجذّر أركان نفوذه أو يصبح له مناصرون ومؤيدون، وبهما يستطيع الحفاظ على موقعه من دون أن يقترب منه أي أحد بخطوات مزعجة. لكن لا هذه ولا تلك منعت أن يتطور أي اعتراض إلى حالة انشقاقية. السلام والوئام الداخلي الذي أساله في أروقة وقنوات الحزب الداخلية، ودقة التوازنات التي عمل على بناء قواعدها، ومشروعية ما يقوم به في مواجهة العدو الإسرائيلي وتجاه قضايا متنوعة، لا سيما القضية الفلسطينية، بلغت مبلغاً أصبحت معه الفرص نادرة لإطلاق «انتفاضة غضب» كما يحصل عادة لدى حركات وأحزاب مختلفة بفعل تجاذبات القانون أو التنازع على الصلاحيات أو الاختلاف حول قضايا مصيرية. حتى عندما كانت هناك آراء متباينة من قبل «اليسار الإلهي» الذي مثّله المرحوم الشيخ حسين كوراني في شأن قضية المشاركة في الانتخابات النيابية الأولى بعد توقيع اتفاق الطائف، أو من قبل «اليسار الاجتماعي» الذي مثّله الشيخ صبحي الطفيلي في شأن قضية «ثورة الجياع»، مع الفارق الكبير بين القضيتين، فلم تكن الأمور تسير كما لو أنّ تصدّعاً في الطريق. كيف يكون ذلك و«السيّد» هو أفضل من يمثّل خط «اليسار الإلهي»، بإيمانه وعرفانه، وأفضل من يمثّل «اليسار الاجتماعي»، بدفاعه المستميت عن الفقراء والمحرومين والمستضعفين.
قد يجد أي مراقب من فسيفساء الأقليات التي وفدت إلى الحزب في بدايات تأسيسه وحملت معها أنفاساً لبنانية وعراقية وإيرانية مادة للتشظي، أو أنها تجرّ بنفسها قليلاً أو كثيراً من الارتباك. لكن ذلك لم يحصل ولم يظهر ما يدل حتى على رؤى متنافرة وقراءات متناقضة للأحداث، بل لم يسمع أحد ما أنّ صراعات داخلية حادّة وعميقة تعصف بالحزب أو أنّ أخطاراً تتهدّد عمره ومسيرته وإنجازاته سوى من الإعلام الأميركي الخليجي وجرائده الصفراء. نجح السيد نصر الله، لا عبر تقنية الراعي فحسب الذي يقود الجماعة إلى حوض في صحراء، بل أيضاً عبر تقنية الحائك الذي يشابك ببراعة ومهارة السلسلة واللُحمة في النسيج ليصنع من المؤسسين والوافدين جيلاً بعد جيل قماشاً واحداً يسرّ الناظرين.
عندما سألتُ أحد القياديين السابقين عن أهم إنجاز للأمين العام، هل هو تحرير جنوب لبنان أو انتصار عام 2006 أو دحره التكفيريين، أجاب: أهم أعجوبة للسيد، وليس إنجازاً يُسجّل له فحسب، هو تمكنّه من الحفاظ على وحدة الحزب وإبقائه شعلة المسيرة متقدة كما لو أن الحزب بدأ مشواره الأمس. ولد البطل (حزب الله) بين حدثين، الثورة الإيرانية واجتياح العدو الإسرائيلي للبنان عام 1982. وولادته لم تكن من دون ذلك. ولكن بعد أربعين عاماً سيكون هو الخيط الموصل لاكتشاف أسرار المجد والعظمة، وسيكون المئة ألف مقاتل أو يزيد فيضاً لحياة جديدة وعمر أطول.
مع إطلاق حملة «الأربعون ربيعاً» جادل صحافيون مسؤولَ العلاقات الإعلامية الحاج محمد عفيف، خلال مؤتمره الصحافي، بمسألة شيخوخة الحزب. أجاب: «والله أنا والأخوة بالحزب منشوف حالنا شباب». وجّه آخرون عبر وسائل إعلامية مختلفة كل ذكائهم للتنبيه على أنّ الحزب كسائر الأحزاب دخل في سن الشيخوخة. لا يريدون أن يمنحوه درجة نجاح طالما أحزاب أخرى لم تستطع أن تُكمل عقودها الأولى إلا وهي ممتلئة بالإحباط والتشرذم.
صحيح أنّ الحزب يكبر كثيراً، ولكن محيطه الذي من حوله هو الذي شاخ وتوقّف عند أوّل خطر داهم. الأحزاب عندنا لا تعمر طويلاً، تنتحر بالصفقات والمساومات والأنانيات أو تسحبها سكتة قلبية بسرعة بفعل «دهنيات ومشكلات صحية أخرى». أمّا حزب الله، فيشعر شيوخه أنهم شباب بالحوافز الإيمانية التي لا تنقطع ولا تبلى بالأيّام، وبصوت «سيّد» يحمل مصباح الأمل والفرج من بيت إلى بيت!

* أستاذ العلوم السياسية
في الجامعة اللبنانية الدولية