عندما وجد السوريّون أنفسهم يوم 16 نيسان 1946 أمام «فرصة»، استولدتها ظروف دولية مساعدة، ثم الكثير من التضحيات، فقادتهم إلى الإمساك بدفّة القارب، لم تكن «عجينتهم» على درجة كافية من التجانس بالقدر الذي يعطي الخبز مواصفات يمكن من خلالها معرفة «الفرن» الصادر عنه من دون أن تكون هناك حاجة إلى من يسمّي ذلك المصدر. ولا كان القيّمون على «غرفة النار» في وضعية مدركة تماماً لقوام تلك العجينة التي هي على وشك الدخول في تلك الغرفة. كان هناك باختصار نسيج اجتماعي ذو إرث حضاري ثرٍ يغوص عميقاً في ذات السوريين الجماعية فيترك فيها أثراً ليس من الصعب تلمسه عند هؤلاء، ولا مكنوناته التي كانت دائماً كما المحار الذي يتطلّب اصطياده مهارة نادرة. وذلك النسيج يشبه إلى حدّ بعيد فسيفساء شديدة التنوّع في زخارفها، وفي ألوانها، فيما جماليّة اللوحة هنا تتوقف على مهارة من يقوم برصف المكعبات، فتجيء مبهرة إذا ما كان القائم بالفعل من «أهل الكار»، أو هي تأتي على صورة نقيضة للسابقة إذا ما كان هذا الأخير «متعدّياً على الصنعة».ولربما يصحّ هذا التوصيف لتبرير مقولة كانت قد راجت في الآونة الأخيرة، مفادها أن حكم دمشق لم «يلق» إلا لاثنين هما: معاوية بن أبي سفيان (661 - 680) وحافظ الأسد (1970 - 2000). ولربما كان في الأمر ما يدعو إليه، لأن كلا الاثنين قاد دولته بمهارة عبر الإمساك بخيوط الاقتصاد والمجتمع كوسيلة لا غنى عنها للإمساك بالبنى الفوقية التي يأتي بنيانها أصلاً، وكذا أفكارها وبرامجها، كانعكاس لحراك تلك الثنائية، مع احتفاظ الاثنين، معاوية والأسد الأب، أثناء قيامهما بالفعل، بـ«الشعرة» التي يجب أن لا تنقطع مع الشرائح التي تنمو خارج تلك السياقات، مع تسجيل استثناء وحيد لهذي الحالة الأخيرة، عندما تتخذ «شرائح خارج السياق» وضعية من يهدد سلطة الحاكم.
وقفت مراكز القوى التي تمركزت داخل المدن السورية، منذ تشكّل جنين الدولة السورية الأولى عام 1920، كما الجدار الاستنادي الذي يقف بمواجهة قوى المجتمع في عبورها الذي تسعى إليه نحو العلمانية وتحديث المجتمع والدولة السوريين. والناظر لعملية العبور السابقة الذكر سيلحظ أن «النخب المدينية»، التي يجمعها ثالوث: ملاكي الأراضي - التجار - رجال الدين، لم تكن تريد أي تغيير على التركيبة التي أنشأتها، فسادت من خلالها الدولة والمجتمع اللذان لم يكونا إلا تعبيراً عن مصالحها وتنفيذاً لرؤاها التي تطول العادات والقيم والأفكار الحافظة بالضرورة لتثبيت التعبير السابق. وعليه، فقد غابت، عبر إمساك تلك النخب بالدفّة، كل الرؤى التي تتبنّى آليات للنهوض من واقع كانت كل تراسيمه تشير إلى أنه واصل، لا محالة، إلى حال من الانسداد ستقود بالضرورة إلى الانفجار. حيث ستشكل أزمة 1979 - 1982 نذيراً، أو هي تدريباً بمعنى أدق، لانفجار أكبر بدأ عام 2011، ومن الصعب، أقلّه حتى اللحظة، التنبّؤ بالعام الذي سيشكل إغلاقاً للثنائية البادئة ربيع هذا العام الأخير. شكّل عقد الخمسينيّات من القرن الماضي تحوّلاً كبيراً على صعيد التركيبة الاجتماعية - الاقتصادية القائمة في البلاد. وفي السياق، سيؤدي التأثر بهبوب رياح الثورة الاشتراكية إلى تنامي الأفكار، التي تغلب عليها نفحة هذي الأخيرة، والفعل، من حيث النتيجة، كان قد قاد سريعاً إلى تهيئة المناخات اللازمة لوضع تلك الأفكار موضع التنفيذ، ولم يكد العقد السابق يبلغ منتصفه حتى كانت بذور التأميم والإصلاح الزراعي تأتي أكلها، حتى إذا جاءت فرصة تلاقحها مع التجربة الناصرية، المهمومة هي الأخرى بالوصول إلى المهمّشين، أضحت الفرصة تحظى بمشروعية أكبر، الأمر الذي راحت تراسيمه تتّضح أكثر فأكثر بدءاً من إعلان الوحدة السورية المصرية 22 شباط 1958. ومن حيث النتيجة، كانت التحولات السابقة قد قادت إلى حدوث انزياحات مجتمعية بطريقة اهتزازية، ومعها لم تستطع الطبقات التي سادت السياسة والاقتصاد ما بعد الاستقلال الصمود لأكثر من ثلاث سنوات أعقبت انقلاب 8 آذار 1963 الذي أنتج خليطاً ريفياً - مدينياً، حيث سيشكل انقلاب 23 شباط 1966 انفراداً للحدّ الأول من ذلك الخليط بالسلطة، وما بعده ستصبح القيادات التي تتربّع على عرش هذي الأخيرة في جلّها قادمة من بيئات ريفية أو من أشباه المدن.
هذا أضاف مجدداً استعصاءً، كان أشدّ وطأة من سابقه، للنهوض السوري، فالنخب الريفية التي راحت تغذّ الخطى في مسارها الرامي إلى تطوير مجتمعها وفق رؤياها التي سجّلت انزياحاً للمهمّشين بين عامَي 1966 - 1970، وانزياحاً للطبقة الوسطى بين عامَي 1970 - 2000، كانت في الآن ذاته تضع بذور صراع مديني - ريفي في أرض باتت خصبة لنموّ تلك البذور. والشاهد هو أن هذي الأخيرة نجحت، حتى الآن، مرّتين، في الوصول إلى مرحلة الإثمار. فمهما قيل في أزمة 1979 - 1982، ثمّ أزمة 2011 - 2022، وفي العوامل العديدة التي قادت إليهما، فإنهما تظلّان واقعتين في إطار صراع مديني ريفي كان لا بدّ له من أن ينفجر لاعتبارات تتعلق باختلاف التكوين والثقافة وكذا الرؤى العائدة لكلّ من حدَّي ذلك الصراع.
كانت التيارات الفكرية التي تصدّت لمهمة تحديث مجتمعاتها، ومحاولة نسف التركيبة السابقة، التي تبدي حالاً من الاستعصاء المزمن المفضي بالضرورة إلى حال من عجز النهوض، تمثّلت في الحزب القومي السوري الوليد في عام 1932، وحزب البعث الذي شهد النور عام 1947 وإن كانت أنغامه قد ضجّت بها الفضاءات السورية قبيل هذا التاريخ بنحو عقد من الزمن، ثم الحزب الشيوعي السوري الذي أعلن عن تأسيسه عام 1924، والذي سرعان ما راحت «عجلاته» تدور وفق الحركة التي يرسمها «محور» موسكو ، قبيل أن يخرج عن ذلك النسيج فصيل راح يعمل على تفكيك المسننات الناقلة للحركة بدءاً من عام 1972 فصاعداً.
ما يؤخذ على حركة أنطون سعادة للنهوض هو أنها كانت علمانية بدرجة مفرطة، ومن الصعب للحوامل الاجتماعية التي أنيط بها حملها النجاح في مهمتها تلك، فقد استند سعادة في منهجه الفكري إلى مقولة أن تراث الإسلام الحضاري لا يشكّل المكوّن الوحيد لشعوب المنطقة التي شهدت موجات حضارية سابقة لموجة الإسلام مثل البابلية والآشورية والكلدانية والآرامية. وعلى الرغم من أن المنهج السابق يمتلك مشروعية تاريخية تجعل من الاستناد عليه أمراً صائباً، إلا أن الخطأ هنا يكمن في عدم لحظ حقيقة أن البصمة التي تركها الإسلام على شعوب المنطقة كانت من النوع الدامغ الذي يصعب تجاوزه أو وضعه على حدّ سواء مع ما سبقه، ناهيك عن أن الإسلام كان قد ارتبط عند الذات الجماعية لشعوب المنطقة بالنهوض، ما زاد في تلاحم الاثنين حدّ الانصهار. ولذا كان من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، الاستناد، في عملية التحديث الآنفة الذكر، إلى «الجزر» الفكرية التحديثية التي بقيت خارج إطار الفكر الإسلامي، مثل المسيحية والسريانية، لأنها ببساطة كانت معزولة ولا دور يذكر لها في حركة تطور المجتمعات التي تعيش فيها.
أمّا أفكار «البعث» التي خرجت بصورتها التي عرفت بها بعيدما استطاع ميشال عفلق تهميش أفكار قسطنطين زريق التي كانت تتمتع بنفحة علمانية تتفوّق على تلك التي طرحها الأوّل، حيث ستمثل الأفكار التي طرحها عفلق، في محاضرته الشهيرة من على مدرج جامعة دمشق 5 نيسان 1943، محاولة لاستعادة المبادرة من بين يدَي «الإخوان المسلمين» الذين استندوا إلى إرث ديني يوقظ في النفس إحساساً بالقدرة على النهوض. وما شاب التجربة، فأضعفها، هو الأخذ بالكثير من الأفكار التي راجت زمن الوقوع تحت الهيمنة بكل ما يعنيه ذلك من مغبة تصبح فيها نقاط الارتكاز قائمة على بنيان «تبعي» متخلّف استولدته ظروف الوقوع الآنف الذكر. وهو بالتأكيد ليس ناجماً عن ضرورات داخلية بالدرجة الأولى، وفي أحسن الأحوال كان ناجماً عن حال من التزاوج ما بين هذي الأخيرة ونظيرتها الخارجية مع تغليب فعل «الخارجي» على فعل الضرورة الداخلي. ولم يكن «الأداء» الشيوعي، بشقّيه: المنهجي والسياسي، بأفضل حال من سابقيه. بل على العكس، فقد كانت العثرات التي وقع فيها هذا الأخير تفوق بكثير تلك التي وقع فيها هؤلاء؛ بدءاً من «العلمانية» التي لا تقيم وزناً للدين الذي قاد نحو «اعوجاجات» في الخط السياسي كانت مفصلية لجهة «جفاف» التربة المحيطة بالبذرة، من نوع تأييد قرار التقسيم في فلسطين 1947، والموقف من الوحدة السورية مع مصر عام 1958، ثم وصولاً إلى «الليبرالية» التي جاءت كنتيجة، ربّما، لتبنّي رواد ذلك الفكر للديموقراطية بمفهومها البورجوازي. حيث سيقود ذلك لاحقاً إلى التبرؤ من «عباءة» ماركس ولبوسه الذي ظهر عند رياض الترك، مؤسس الانشقاق عن شيوعية خالد بكداش عام 1972 بذريعة الارتهان للقرار السوفياتي، لتكون التراجم بتأسيس «حزب الشعب» الذي أضحى ما بعد الأزمة السورية 2011 فصيلاً فاعلاً داخل المعارضة السورية الخارجية، الأمر الذي سيرمز إلى حال من «القطيعة» مع الفكر والتراث من النوع غير الخادم للتجارب. والشاهد هو أن أيّ حزب أو تيار أو ائتلاف سياسي يفقد مشروعيّته الوطنية حال تبنّيه لمفهوم الاستقواء بالخارج لإحداث تغييرات داخلية لم يستطع هو، وحلفاؤه، القيام بها.
لم تستطع «الحالة» السورية، حتى الآن، استيلاد تيار يستطيع خلق انحراف عام في الوعي الجمعي للسوريين. وهو يتبنّى علاقة معاصرة ما بين أفكار القومية العربية والإرث الإسلامي في إطار مقاربات جديدة تفرضها المتغيّرات المتسارعة. والراجح أن فعل عدم الاستطاعة سيظلّ يلقي بظلاله الثقيلة الوطأة على أي محاولة نهضويّة فيقودها إلى الفشل، أو على الأقل لأن تكون «جزيرة» معزولة ذات أثر انقطاعي، بمعنى أنها لن تنجح في نقل «العصا» من عداء لآخر في سباق التتابع الذي نخوض. فالتجارب الكبرى، والناجحة، تتطوّر من داخلها بعيداً عن التجريب، من دون أن يعني ذلك دعوة إلى غلق النوافذ على تجارب المحيطين الأقرب فالأبعد.
* كاتب سوري