«أيّها المحارب ايرّا، لقد قتلت الخيّر وقتلت الظّالم،
قتلت من أذنب في حقّك ومن لم يُذنب،
...
قتلت العجوز على شرفة منزله، وقتلت الصبيّة في المخدع
ومع ذلك أنت لم تستكن أبداً،
ما زلت تقول لنفسك: هم ينظرون إليّ باحتقار
سوف أصرع القويّ فيهم وأرهب الضّعيف»


من قصيدة «ايرّا وايشوم»

في الأسطورة البابليّة الشهيرة، يبدأ عصر الجنون والفوضى حين ينهض ايرّا - إله الحرب والطاعون والعالم السفلي - من سباته ويعتلي عرش الآلهة. قرّر ايرا أنّ أهل الأرض الحضريّين لا يستحقّون الرحمة، وأنّ المدنيّة وحياة الدّعة هي مفسدة قد وصلت مفاتنها إليه، وهو لا يريد أن يشيخ في قصره ويستحيل كائناً ضعيفاً لا يخشاه أحد؛ بل هو سيثبت أنّه يفضّل حياة الحرب على معيش الاستقرار، وأنّ الآلهة ستستحيل جبانة ضعيفة أمامه. ينجح ايرّا في إبعاد مردوخ، ملك الآلهة، عن عاصمته ويجلس مكانه على العرش. هنا، تدخل الأرض في دورةٍ جهنّميّة من العنف والحرب والخراب. والحرب هذه ليست من النّوع الذي يحفظ الأنظمة ويبني ممالك (مردوخ، من بين أدواره الكثيرة، كان يركب عربة الحرب ويسير للقتال حين يلوح خطر فوضى أو شرٍّ أو تهديدٍ للطبيعة)، بل هي حروبٌ بلا هدف، تحوّل المدن ركاماً والطّرق يباباً والمواسم قحطاً (بحسب توصيف القصيدة البابلية). الأسطورة، بإجماع المؤرّخين، هي توريةٌ لمرحلة التفكّك والغزوات والانهيار الذي تعرّضت له بابل، ومعها أغلب أقاليم الشرق القديم، بالترافق مع نهاية العصر البرونزي. وحين يعود ايرّا أخيراً إلى رشده، وينسحب Yلى موطنه تاركاً أمر تدبير الأرض لآلهة الطبيعة والحرث والعمل، يقول معتذراً - في تبرير عنفه - أنه مقاتلٌ يعرف كيفيّة هدم المدن وليس بنائها، وأنّه كالانسان الذي لم يزرع يوماً شجراً ويرويه، فهو يستسهل قطعه.
(ديفيد ماك ووينستون سميث)

«الفوضى» هي سمة المراحل الانتقاليّة بين عهدٍ وعهد ومنظومةٍ وأخرى. على مثال تابو «الفتنة» في التاريخ الإسلامي، فإنّ الصينيّين يعتبرون أنّ أسوأ المراحل طرّاً في تاريخهم، وأكثرها عنفاً ومأسوية، هي فترات الانتقال بين سلالةٍ إمبراطورية وأخرى. هنا، قد ندخل قرناً أو أكثر من «عصر الجنون»: حروب أهليّة، أمراء حرب، دويلات، خرابٌ وأمراض وتفكّك. فمن يحكم في تلك الأيّام يرى الأرض بعين الغازي الذي يريد أن يقتطع منها غنيمة، لا بعين من يبني القنوات ويراكم الانتاج ولديه كيانٌ جامع يهمّه الحفاظ عليه. على الأقلّ كانت هناك منظومة، لا يهمّ إن كانت سيئة أو شريرة، أو إن كان سقوطها محتماً؛ كانت نظاماً ما، مهيمناً، يفرض قواعد وقوانين وسوقاً وعملةً - ومن الصعب أن يحصل الانتقال بينه وبين غيره من غير عنفٍ أو سقوط. كمثالٍ بسيط عن ظواهر هذه الأزمان، في آخر محنةٍ من هذه «المراحل الانتقالية» في الصين، في النصف الأوّل من القرن العشرين، وبينما كانت الأحداث الجسام تدور: الاحتلال الياباني والحرب الأهليّة والقتال الطويل بين الشيوعيّين والوطنيين. وسط هذا كلّه كان جنرالٌ اسمه يان شيشان يقوم بالاستقلال بمقاطعة شانشي (وهي مقاطعة مهمّة في وسط الصين)، ويجعلها دولةً له ويعلن حيادها ويحكمها لردحٍ طويلٍ من الزّمن - بين 1911 تقريباً وحتى نهاية الحرب الوطنية عام 1949. من يتكلّم عن أزماننا الحاليّة دوماً ضمن مقولة «القديم قد مات والجديد لم يولد بعد» يصوّر الانتقال وكأنّه مرحلة انتظارٍ نزقة؛ هي نظرة «بنيويٍّ قديم» ينتظر مراحل التاريخ لكي تعبر أمام عينيه، فلا يفهم مقدار العنف والرهانات التي تكتنفها هذه «الانتظارات»، وهو على الأرجح لن يكون مستعدّاً لها.
قد لا نعرف بالضبط متى أمسك ايرّا بقياد عالمنا؛ هل كانت حرب أوكرانيا، أم حرب العراق؟ أم هي لحظة 1991 نفسها، حين لم يعد للإمبراطوريّة خصوم وحدود؟ ولكن، إن نظرنا اليوم إلى ما يحصل حولنا: حربٌ في أوروبا لا سقف واضح لها، «الناتو» يتوسّع، الصّين تبحث عن مخابىء لاحتياطاتها النقديّة، الكلام عن «عكس العولمة»، الكلام عن الحرب النووية… هذه كلّها نذر تنبئنا بأنّنا قد نكون دخلنا فعلاً عصر الفوضى، وإله الحرب ونوّابه يجوبون الأرض حولنا.

الحشد الإمبراطوري
في الميدان الأوكراني، الحرب استقرّت في مسارٍ كئيبٍ وبسيط: القوات الروسيّة تتقدّم ببطءٍ في الشّرق، والحرب حرب قوّةٍ ناريّة واستنزافٍ وقضم. الأوكرانيّون فهموا أنّ المناورات والهجمات الكبيرة في الأماكن المكشوفة ليست في صالحهم، ويميلون إلى التحصّن والدّفاع في المدن. جنوب وشرق أوكرانيا هي منطقة حضريّة صناعيّة، وفيها العديد من المدن الكثيفة التي يمكن أن تستحيل «حصوناً» عسكريّة (وهذه كانت الخطّة السوفياتية القديمة في الدفاع عن أوكرانيا «المنبسطة» في حالة هجومٍ غربيّ). كما شرحنا سابقاً، حرب المناورات الكبيرة والاختراق بآلاف المدرّعات ليست متاحةً هنا، فهي تستلزم جيوشاً بالملايين - كجيوش الحرب العالمية الثانية أو الجيش السوفياتي - وليس بمئات الآلاف، كالجيش الروسي؛ أو هي تصلح لقوّةٍ على الطريقة الأميركية، تمتلك قدرةً ناريّةً غير محدودةٍ في السماء تفتح الطريق للقوات البريّة وترصد وتدمّر كلّ ما حولها. الحرب في أوكرانيا «بطيئة» ومكلفة، وهدف الحرب - من جهة المهاجم - هو أن يوصل الاستنزاف والخسائر للجيش الأوكراني إلى حالة من التدهور والانهيار المتسارعين، فيما الأوكرانيون وحلفائهم، بالمقابل، يراهنون على إضعاف عزيمة روسيا عبر «الدّفاع النشط» وتكبيدها الخسائر قبل أن ينكسر الجيش الأوكراني. كما علّق ميرشهايمر عن الوضع: لا بوتين وروسيا يمكنهما أن «يخسرا» الحرب، ولا أميركا تريد للحرب أن تتوقّف بانتصار روسيّا، وأوكرانيا نفسها لا تملك السيادة للتفاوض أو إيقاف الحرب أو الانسحاب من دورها كجزءٍ من منظومةٍ غربية موجّهة ضدّ روسيا.
غير أنّ العامل الأهمّ هنا يتجاوز الحرب نفسها، إلى الصراعات الكامنة التي حرّرتها - أو حسمتها - في كلّ مكانٍ في العالم. أهمّ ما جرى، بالطّبع، كان «عسكرة أوروبا». فيما السّويد وفنلندا تتأهّب للانضمام إلى «ناتو» (بالمعنى العسكري والسياسي، هذه الدول كانت - على أيّ حال - مندجمة مع منظومة «الناتو» بمختلف المعاني منذ التسعينيات، والحياد لم يعد سوى إرث رمزي من ماضي الحرب الباردة)، جرت منذ حرب أوكرانيا ما يشبه «ثورةً ملوّنة» على مستوى القارّة قلبت عاليها سافلها. نستخدم مفهوم «ثورة ملوّنة» هنا بمعنى العمليّة السياسيّة الخاطفة التي تستغلّ حدثاً، حقيقياً أو مختلقاً، لتبني حوله حملةً منظّمة تبدّل المزاج الشعبي بشكلٍ فوريّ، والبناء على ذلك لفرض وقائع مستدامة على الأرض (تغيير وجوهٍ حاكمة، قلب نظامٍ بأكمله، تحوّل في السياسة الخارجيّة، إلخ). والحماسة الشعبيّة التي تمّ ضخّها في أوروبا إثر الحرب تمّ تأبيدها عبر إعادة إحياء «الناتو» وتوسيعه وإنهاء النقاش حول دوره في أوروبا.
«الناتو» ليس مجرّد حلفٍ عسكريّ أو معاهدة دفاعٍ، بل هو منظومةٌ متكاملة تحوّل القوى الأعضاء فيه إلى ما يشبه الجيش الواحد


الفارق بين حرب 2003 وحرب أوكرانيا هو أنّه، أثناء حرب العراق، كان وضع الهيمنة يحتمل «رأياً آخراً» ضمن المركز الغربيّ. كانت هناك حركة شعبيّة واسعة «ضدّ الحرب» يلتفّ حولها اليساريّون، وكان هناك انشقاقُ في الموقف الاوروبي الرسمي (فرنسا والمانيا) يعارض التورّط في غزو العراق. هذه المساحة ليست موجودةً اليوم، بل الوضع أشبه بالحرب العالميّة الأولى، حين اصطفّ كلّ شعبٍ أوروبي خلف مؤسسته ومعركته ينشدون سويّاً الأغاني الحربيّة، المؤسسة هنا هي «الناتو». «اليسار» اليوم، في أوروبا وأميركا، يزايد في العسكرة والتصعيد على اليمين. بعيد الحرب، نشر موقع «روزا لوكسمبورغ» (وهو مركز الأبحاث التابع للحزب اليساري الألماني) افتتاحيّةً تعبّر عن حال اليسار الأوروبي اليوم. بعد أن يلوم الكاتب مختلف تيارات اليسار ويقرّعها لأنّها لم تفهم خطر روسيا بشكلٍ كافٍ في الماضي، ينتهي إلى خلاصةٍ بأن «الناتو» اليوم قد أصبح بمثابة «تحالفٍ دفاعيّ معادٍ للإمبرياليّة» (حين كتب لينين عن «اليسار الانتهازي» خلال الحرب العالمية الأولى، ذكر مثال كاتبٍ يساريّ حاجج يومها في الصحف الألمانيّة بأنّه، رغم أنّ أحزاب اليسار قد اصطفّت مع المؤسسة الحاكمة والنظام الرأسمالي القائم، إلا أنّ عليها أن تبقي على «مظهر» الحزب العمّالي وإلّا فإنّ حركةً جذريّة عن حقّ قد تصعد وتتبنّى هذه الشعارات).
يجب أن نعود خطوةً إلى الخلف حتّى نفهم معنى توسّع «الناتو»، من بداياته كحلفٍ يزعم الدّفاع عن غرب أوروبي من غزوٍ سوفياتي محتمل إلى الإمبراطورية العسكرية التي أصبح عليها اليوم بعد انتفاء غرضه الأصلي منذ أكثر من ثلاثة عقود. «الناتو» ليس مجرّد حلفٍ عسكريّ أو معاهدة دفاعٍ، بل هو منظومةٌ متكاملة تحوّل القوى الأعضاء فيه إلى ما يشبه الجيش الواحد، الجيوش والمعدّات والتدريب كلّها موجّهة بحسب معايير «الناتو»، وهي تتحضّر دوماً للقتال ككلٍّ تحت قيادة الولايات المتّحدة. حتى دول «الناتو» التي لا تملك سلاحاً نووياً، ألمانيا على سبيل المثال، لديها منذ السبعينيات طيارين متخصّصين في القصف النووي (باستخدام رؤوسٍ أميركية مخزّنة في ألمانيا). الطيارون الفرنسيّون، حتى حين يمارسون تدريباتهم الاعتيادية داخل بلدهم، يستخدمون الإنكليزية بين بعضهم في مختلف مراحل المهمّة والتحضير لها وجلسات التقييم التي تتلوها، فالهدف هو أن يعتادوا على الحرب المشتركة مع حلفائهم.
منذ عام 2014، يتساءل العديد من المراقبين عن دافع الأميركيين في نصب العداء لروسيا بهذا الشّكل، والإصرار على توسيع «الناتو» وحرق الجسور مع موسكو، فيما أميركا تدخل في منافسةٍ أخطر ضدّ الصّين، وهي تحتاج روسيا إلى جانبها في هذه «اللعبة الكبرى»، بدلاً من دفعها إلى الالتصاق بالصّين. بعد ما جرى في أوروبا في الأشهر الماضية، يعتبر الاقتصادي الألماني وولفغانغ ستريك أنّ الإجابة هي هنا تحديداً: تكريس الهيمنة الأميركية في أوروبا، إنهاء الاعتراض الألماني والأحلام الفرنسية بـ«سياسة أوروبية مستقلّة»، رفع الميزانيات العسكرية وتحويل أوروبا إلى حصنٍ من جديد. أميركا تقبل عن رضى بأن «تخسر روسيا»، يقول ستريك، مقابل أن تكسب ألمانيا وفرنسا وباقي أوروبا، منتظمةً من غير اعتراض في جيشٍ تحت القيادة الأميركية.

الانقسام الكبير
حين تنظر إلى بنية «الناتو» الحاليّة، في شكله الجديد، لا يسعك إلّا التساؤل عن دوره ومعناه في العالم اليوم. التشبيه الأقرب إلى الحقيقة هو أنّ «الناتو» قد أصبح بمثابة «القوّة البيضاء»: تنظيمٌ عسكريّ يجمع كلّ الإمبراطوريات «البيضاء» التاريخية، في أوروبا وعبر الأطلسي، ويصنع منها جيشاً موحّداً. يعلّق أحد الأصدقاء بأنّه، إن وضعنا الخطاب الايديولوجي جانباً، فإن هذا «الناتو» هو أقرب ما يكون إلى الحلم النازي الأصلي، أن تجمع القوى «الآريّة» تحت حكمٍ موحّدٍ قويّ، يتصدّى للـ«برابرة» والأقوام «الدنيا»، ويمنع تسلل أفكارها وثقافتها إلى أوروبا (الفارق الأساسي هنا هو أنّ أميركا، بدلاً من ألمانيا، هي مركز الـ«رايخ»). على الهامش: نحن نعرف بروباغاندا الغربيين عن جدار برلين، مثلاً، باعتباره عازلاً كان يهدف لحجز المواطنين الشرقيين، ومنعهم من العبور إلى الغرب حيث الحريّة والرخاء، إلخ… غير أن السوفيات كانت لهم أيضاً بروباغاندا حول «الستار الحديدي»، وكانوا يسمّون حائط برلين «الجدار ضدّ الفاشيّة»، وهي ليست حجّة واهية بالمناسبة. حين بني جدار برلين، كانت حكومة ألمانيا الغربيّة تضمّ عدداً هائلاً من الكوادر النازيّة التي كانت - فعلياً - تدير ألمانيا «الجديدة»، حليفة الغرب. كما يشرح العديد من المؤرخين (لدى نورمان فنكلستين مطالعة وافية في هذا الموضوع) لم يحصل «اجتثاث نازية» حقيقي في ألمانيا الغربية بعد الحرب، على عكس ما جرى في الشرق على يد الشيوعيّين. تمّ تطهير الرؤوس والوجوه السياسية من الحكم ولكن، في البيروقراطية والنقابات والشركات الكبرى، ظلّت الأمور في يد الأشخاص نفسهم الذين كانوا يديرون الاقتصاد النازي. بمعنى آخر، كانت أميركا مستعدّة لاستخدام نازيّين سابقين في سبيل مواجهة السوفيات، كما يحصل اليوم مع روسيا تماماً.
الصّين ليست ساكنة، بالتوازي مع «إدارة الموقف» بينها وبين روسيا، فهي أطلقت «مبادرة أمنية مشتركة» انضمّت لها دولٌ مثل اندونيسيا وباكستان، وعدة دولٍ في أفريقيا وأميركا الجنوبية. الطرح الصيني لا يقارن، من حيث الشكل أو الطموح، بحلفٍ مثل «الناتو»، ولكنّه دليلٌ على سلوكٍ جديدٍ للصين تبادر فيه إلى أحلافٍ عسكرية وأمنيّة بدلاً من الاقتصار على التعاون «المدني»، وعلى خريطةٍ جديدة بدأت ترتسم للعالم. لديك، من جهة، منظومة «الناتو» وحلفائها القريبين: اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان وإسرائيل ودول الخليج النفطيّة؛ أي ما يقارب المليار بشري، يمثّلون دول «المركز» في المنظومة العالميّة، وهم أكثر من يستفيد منها. أيّ نظريةٍ، هنا، عن أن السعودية والإمارات قد تقف في «المنتصف» أو تميل نحو الصين هي محض أوهام. الحكومتان تستخدمان الأزمة، ببساطة، للحصول على اتفاقية دفاعية رسمية مع واشنطن والتزامات أمنية. والفارق بين تغطية الإعلام القطري لحرب أوكرانيا، من جهة، وتغطية الإعلام السعودي/الإماراتي له معنى سياسي: السعودية تقول أنّها تريد «مقابلاً» لدعم واشنطن في حربٍ ليست حربها، فيما قطر توضح سلفاً أنها تصطفّ بوضوحٍ وطاعة في المعسكر الغربي. هذه الكتلة بأكملها، أي «الناتو» وشركائه، تمثّل أقلّ من مليار بشري.
على المقلب الآخر لديك الصين وروسيا، ودولٌ كثيرة السكّان في آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبيّة، لا تستفيد من هذا النظام أو هو لا يريدها فيه، أو تجد في الصّين اليوم بديلاً أفضل يمدّها بالدعم والاستثمارات. وفي المنتصف هناك العديد من البلاد «التابعة»، مثل مصر والأردن ولبنان والعراق، هي ضمن نطاق «السيطرة» إلى حين - فالسياسات المفروضة عليها تمنعها من إقامة مشاريع تنمية سيادية، وأكثرها يقع في فخّ الدّين والاختراق، وستخضع لدورات نموٍّ وأزمات لا تملك أن تتحكّم بها، تحيجها على الدوام إلى «الإنقاذ» من دول المركز.
لن نعود إلى أيّام الحرب الباردة، ولكن الكثير من مظاهرها و«قوانينها» سترجع. على سبيل المثال، أيام حرب العراق، لم يكن من الممكن أن تتهم ناقداً غربياً للسياسة الأميركية بأنّه «عميل عراقي»، ولكنّ أي صوت اعتراضٍ في الغرب اليوم قد يتمّ عزوه إلى دعاية موسكو وبيجينغ و«شبكاتها» في أميركا وأوروبا. لم تخرج أميركا يوماً من أميركا الجنوبية ولكن، مع تصاعد المنافسة الصينيّة وفي الجوّ العسكري القائم، ستصبح أي حكومة لا تتبع اليمين الليبرالي في القارة امتداداً لـ«الخطر الصيني»، وقد نعود إلى زمن الحروب القذرة في أميركا اللاتينية بعد عهدٍ من التدخّل عبر النفوذ والانقلابات «الناعمة». الصّراعات الجانبية ستزداد عنفاً، وأوكرانيا ليست إلّا الضحيّة الأولى لها. الصراع سيمتدّ حكماً إلى الاقتصاد؛ يكفي، مثلاً، أن تخفض روسيا انتاجها النفطي بمليونين أو ثلاثة ملايين برميل (أو لأنها لا تتمكن من بيعهم بسبب العقوبات) وسترون تأثير ذلك على الأسعار هذا الصيف. من جهةٍ أخرى، واهمٌ من يعتقد أنّ «العولمة» قد تنتهي أو يتمّ «تفكيكها» ونرجع إلى «القرن العشرين». الشكل الحالي للعولمة قد ينتهي، ولكن الأدوات التي شكّلت أساسها (تكنولوجيا التواصل، النقل الرخيص، توزيع عملية الانتاج) ستظلّ موجودة حتى في حالة الفوضى وانقسام الأرض إلى أحلاف. السؤال هنا هو إن كنت ستقدر على استخدامها، وبناء صلات وصلٍ تخدمك، وتأمين الغذاء والطاقة وما تحتاجه من العالم الخارجي، فـ«الطريق الإمبراطوري» قد لا يعود مفتوحاً، وقد لا يعود الوحيد.

«ما بعد الحداثة»
مراحل الانتقال والفوضى لا تغيّر في موازين القوى بالمعنى «المجرّد»، بل هي تغيّر معها الكثير من المسلّمات، الأساس المادّي الذي يقوم عليه العالم السياسي. من قال أنّ نظام الدولة/الأمّة، وعمره أقلّ من قرنٍ ونصف القرن، سيستمرّ معنا إلى الأبد ويظلّ هو الوحدة السياسيّة «البديهيّة» في المجال الدّولي؟ «الناتو»، على الجانب الغربي، قد نظّم مجموعة من «الدول» على شكل كونفدرالية عسكريّة أو كيان إمبراطوري، ونحن لا زلنا نحتفظ بمفاهيم من القرن التاسع عشر عن «الوطن» و«السيادة».
نشرت «لندن ريفيو أوف بوكس» أخيراً مقالاً مثيراً للسوسيولوجي ويليام دايفيس، يراجع فيه عدداً من الكتب. يخلص دايفيس إلى أنّنا، لو نظرنا إلى مسار الأحداث عبر «التاريخ الطويل»، فإنّ الانسان الأوروبي يمثّل صورة «الانسان الحديث» لفترةٍ قصيرةٍ نسبياً، قرنٌ واحدُ يمتدّ بين 1860-1870 تقريباً وأواخر القرن العشرين. في هذه المرحلة، كانت الحداثة بالفعل منتجاً أوروبياً بالكامل: الخبرة التقنية، العلوم الطبيعية، الرأسمالية الصناعية، الديموقراطية الليبرالية؛ حتّى نموذج الهوية والسياسة «الويستفالية» - أي الدولة/الأمة الأوروبية - تمّ تعميمه وعولمته باعتباره النتاج الأخير والنهائي للتاريخ الحديث. الاعتقاد الراسخ كان أنّ هذه الحداثة سوف تؤمّن التقدّم التقني والوفرة في الانتاج، يكتب دايفيس، والنضال من أجل العدالة والحقوق سيمر حصراً عبر بناء الدّولة-الرّاعية، وسيتمّ تنظيم العالم بأكمله عبر وحداتٍ متشابهة من «الدول/الأمم».
هذه الثقة الفائقة بمسار التاريخ وحتميّته قد صنعت عالم القرن العشرين. بهذا المعنى، لم يكن مسار الحداثة مجرّد «استيعاب» (أي أن توسّع من فهمك للعالم والطبيعة ومعنى التاريخ والسياسة الجماعية)، بل شكّل أيضاً «محرقة» كبيرة، ترمي فيها كلّ ما يخالفه، فهي إمّا شوائب، أو هي تنتمي إلى العالم القديم. في سبيل «المستقبل»، يكتب دايفيس، كان من المتاح التضحية بكلّ شيء: التراث، العادات، الاحتمالات البديلة. هي عمليّة «تدميرٍ خلّاقٍ» محمودة طالما أننا نعرف بثقة أن التاريخ يتّجه باستمرارٍ صوب هذه النقطة. يقتبس دايفيس باحثاً اسمه مايكل سافاج، يشكّك بحتميّة هذه العمليّة من الأساس. النظام الدّولي الويستفالي هذا، أصلاً، لم يدم سوى «برهة» من الزّمن، استعارها من عهودٍ «إمبراطورية» طويلة تتالت على التاريخ حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. نظامنا العالمي هذا، أصلاً، ليس سوى «حطام» هذه الإمبراطوريات التي انهارت إثر الحروب الكبرى؛ فربّما أن تشكيلة الدّول الحالية لم تكن، حقيقةً، سوى «استثناء» في التاريخ دام لفترة قرن، يحاجج سافاج، نستأنف بعده النمط الإمبراطوري السابق، أو نذهب إلى شيء آخر جديد.

* كاتب من أسرة «الأخبار»