الأبنية تشتعل. الحطام يقطّع الأحياء والشوارع، والكلاب تنهش جثث الشهود وتُطارد الخارجين. المحاصرون في بقايا البيوت، يراقبون آخر قطرات ماء وكسر خبز، وأثداء ناضبة، على إيقاع الأنين وطائرات الـ F16.9 حزيران 1982، 10 حزيران، 21 آب، 16 أيلول... البسطة، المزرعة، الكولا، الطريق الجديدة، مار الياس، صبرا، فردان، لا يهمّ. تناسخت يوميّات بيروت، والموت واحد.
دخان الحريق منع العالم من الرؤية. وهتافات المشجّعين العرب والأجانب في مونديال مدريد ذلك العام، طغت على صخب القذائف وصرخات بيروت تُطمر فوق سكّانها. انشغل مجلس الأمن، ومنظّمات «العدالة الدولية»، بالوساطة بين الكويت وفرنسا، بعد خلافٍ على هدف في مباراة.

أمّا جنود الاحتلال الإسرائيلي، فجرّبوا للمرّة الألف سكرة الخمر في بحر الدماء، وهم يرشدون عناصر القوات اللبنانية وميليشا سعد حدّاد إلى صناعة جهنّم، فيما النظام اللبناني يداري عدّاد الضحايا حفاظاً على التوازن الطائفي.
لم يصمد الجنيُّ طويلاً في الفانوس. اخترق خالد علوان غبار القنابل والأجساد، ليردّ عن مدينته الحقد والهمجيّة، مستتراً خلف اسمه الحركي، ميشال، وظاهراً على هيئة انفجار دائم بوجه الاحتلال والظلم.
■ ■ ■

تختزن حياة الشهيد خالد علوان، وسنواته القصيرة الملتهبة، هويّة مرحلة ووعي جيل تشكّل مع الغزو وصدمة احتلال العاصمة. فنبت شبّان وشابات من حجارة الأرصفة، يمارسون المقاومة الشعبيّة اليومية كما يشعلون السجائر، في ردٍّ طبيعي وفوري على الاحتلال وجرائمه.
ومن بين هذه النخبة، كان خالد مميّزاً جداً. وُلد البيروتي «الأُح» عام 1962، في بيت أهله في زاروب الكعكاتي بين قصقص وحرش بيروت. والده عثمان صاحب مطعم مونتانا، من أبرز «قبضايات» الطريق الجديدة، معروفٌ بانتمائه الوطني، وشقيقه مصطفى من قبضايات عين المريسة، حيث تعود أصول العائلة.
ورث خالد عن والده جسماً قويّاً وشجاعة «القبضاي»، وعن والدته خديجة رجب ابنة حلبا العكارية، طيبة الريفيين. فبرز من بين ثمانية إخوة وشقيقتين، متمرّداً عنيداً، يتفوّق في مدرسته ويثابر على الركض اليومي بين قصقص والمطار. وفي ثانوية المقاصد ـ الحرش، تعرّف إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي عبر الطلاب القوميين، فوجد ضالّته منتمياً إلى الحزب في عام 1978.
لم يصمد الجنيُّ طويلاً في الفانوس. اخترق خالد علوان غبار القنابل والأجساد، ليردّ عن مدينته الحقد والهمجيّة


من الدفاع عن زملائه في المدرسة، وعن صاحب بسطة الفول بوجه زعران الخوّات، إلى معسكرات التدريب، سلك خالد علوان طريق المقاومة المسلّحة حيث طالت يداه وأوصلته قدماه.
مع مجموعة تتّسع وتضيق عند الحاجة، أمضى ميشال فترة ما قبل حزيران 1982 وحتى استشهاده عام 1985، حياةً صاخبةً. وكهيئة تحريرٍ في جريدة، كان الشباب يعقدون لقاءهم الصباحي على الصخور قرب المنارة، وينطلقون إلى الحصاد، لتتوالى الضربات بعدها لجيش الاحتلال وعملائه. وكلّما اشتدّ القهر، زاد خالد وأترابه العزم على مواجهة سياسة تدفيع الثمن... بتدفيع الثمن.
ما إن وصل جيش العدوّ إلى بيروت وبدأ الحصار، تولّى خالد مسؤوليات عسكريّة رسمية. فشكّل مع رفقائه قوّة ضاربة شنّت سلسلةً من العمليّات المنفصلة والمشتركة مع مجموعات أخرى من الشيوعيين والناصريين وممّن بقي من الفلسطينيين وخلايا الجيش السوري، على الساحل وفي بيروت والجبل.

■ ■ ■

ظهرت عمليّة الويمبي، كأيقونة إبداعات خالد ومجموعته، بمعناها الزمني والمعنوي والسياسي. في النصف الأول من أيلول، كان الفلسطينيون قد خرجوا من بيروت وتراجع السوريون إلى المديرج، ووقعت المدينة تحت الاحتلال وانتُخب بشير الجميّل رئيساً للجمهورية. استحكم اليأس بالمدينة. لكن لم تدم نشوة آرييل شارون طويلاً. دوى انفجار مبنى حزب الكتائب، وقتل حبيب الشرتوني بشير الجميّل في الأشرفية. وما هي إلّا ساعات، حتى بدأ شارون انتقامه الجاهز، مطلقاً قطعان القتلة على سكّان صبرا وشاتيلا، فغطّت رائحة المذبحة سماء المدينة لأيام متتالية.
في مخبئه السرّي، جفّف خالد دموعه المالحة، بعد أن سالت على وجهه وقلبه غزيرةً ساخنة. ظُهر 24 أيلول، جمّع غضبه في فوّهة مسدّسه، وسار بهدوئه المعتاد في شارع الحمرا الرئيسي، حتى وصل إلى أمام مقهى الويمبي مقترباً من الهدف الذي حدده مع المجموعة إلى أقرب مسافة. أدخل يده من تحت إبط حكمت (نادل شهير في المقهى)، وسدّد رصاصاته الدقيقة السريعة، محيلاً قعدة القهوة لثلاثة جنود وضابط من جيش العدوّ إلى حمام دمّ. لم يجزع. لم يركض. خرج بخطوات باردة من المدخل العلوي للمقهى باتجاه بناء البيكاديلي. وعلى الطريق، رمى المسدّس نحو أحد الأسطح، واختفى، كشبحٍ دخل إلى الإسفلت.
خلال «مثوله» أمام «لجنة تحقيقٍ» من «الجوستابو» الجديد في القناة العربية لإذاعة صوت ألمانيا أو «دويتشه فيله» قبل أشهر، سُئل المدير السابق لمكتب القناة في بيروت باسل العريضي: «ما هو موقفك من عمليّة الويمبي؟». يكفي، أن «المعايير» الغربية مهتمة بالموقف من الويمبي أكثر من مصير شارون أو مناحيم بيغن.
أمّا هنا، على الشاطئ الأحمر، فحبر القرارات الدوليّة كلّها لا يكفي للكتابة عن هذه اللمعة التاريخية. الويمبي 6 آلاف قبلة على أقدام 3 آلاف امرأة وطفل وشيخ ذُبحوا في صبرا وشاتيلا. الويمبي 30 ألف وردة على أضرحة 30 ألف شهيد قتلتهم إسرائيل في 1982. الويمبي كرامة مدينة وشعب. الويمبي تعويضٌ حسّي عن عدالة مفقودة للحولة ودير ياسين والنقب وحيفا ويافا وصيدا وصور وكل جريمة لم تحاسب إسرائيل عليها. الويمبي طقس صلاة وبرعم زيتون ينبت كلّ يومٍ في فلسطين مع كلّ اشتباك وقنبلة وحجر. الويمبي استجابة لنداء الطبيعة. الويمبي تعويضٌ معنويٌّ مسبق عن موت شارون على سرير في مستشفى بدلاً من الموت بخنجرٍ مسمومٍ على قارعة طريق. أمّا خالد علوان، قاضي القضاة، فكتب على رصيف الويمبي فصلاً جديداً من دروس العدالة في بيروت أم الشرائع.

* صحافي