لم أرَ نبيه برّي وهو (شبه) فاقد السيطرة على قاعة المجلس من قبل. بدا مرتبكاً، للمرّة الأولى منذ اعتلائه المنصّة قبل ثلاثة عقود. كانت سلطته مطلقة في داخل القاعة. نبيه برّي أقوى رئيس مجلس نيابي في تاريخ لبنان، وقوّته تنبع من غياب منافسين له. في الستينيّات والسبعينيّات كانت المنافسة محتدمة دائماً بين صبري حمادة وصهره كامل الأسعد. الشهابيّة دعمت صبري حمادة فيما «الوسط» و«الحلف» دعما كامل الأسعد الذي أدار المجلس بغير طريقة حمادة. كان الأخير ألطف وأقرب إلى النوّاب وإلى الناس. لم يكن حمادة يحمل شهادات لكنّ ذكاءه كان فطريّاً. وقبلهما، تنافس أحمد الأسعد مع عادل عسيران. الأخير كان جديّاً متخصّصاً في الإدارة وعلم السياسة (حاملاً لشهادة ماجستير في العلوم السياسيّة من الجامعة الأميركيّة) وأراد تطوير مجلس النوّاب وجعل التوظيف على أساس الكفاءة لا الواسطة. أدخل نظام الامتحانات لاختيار موظّفي المجلس للمرّة الأولى (على حد علمي، لكن يجب التحقّق من ذلك) في تاريخ إدارات الدولة في الخمسينيّات. تلك كانت تجربة استثنائيّة في إدارة مجلس النوّاب (لم يكن عسيران يسمح لحاملي السُّبحة أو مُتشدّقي العلكة بالدخول إلى مجالسه). لم يكن نبيه برّي (الذي بالرغم من سنّه لا يزال يتمتّع بالتوقّد الذهني وسرعة البديهة) في الجلسة الأخيرة متمكّناً من النظام الداخلي في عقد الجلسات. طريقة التعاطي معه داخل المجلس أخرجته عن نمطه الواثق المعتاد. تواضعَ برّي من دون إرادته في إدارة تلك الجلسة. هذا، طبعاً، حسنٌ في التعاطي مع زعماء الفساد في لبنان. تمرّسوا في السلطة وتنعّموا بخيراتها إلى أجل طويل جداً وحان وقت تنحّيهم الطوعي طالما التنحّي القسري غير متوفّر—وفي زمن الثورات؟ حالة نبيه برّي في ولايته السابعة تفرض تغييراً جذريّاً في متن الدستور من ضمن جملة تغييرات إصلاحيّة ضروريّة. من المعروف أنه كان للزعامات الإسلاميّة، قبل وأثناء الحرب، جملة من المطالب «التغييريّة»: رفعوا شعار «المشاركة» في السلطة لكن بدلاً من المشاركة (الطائفيّة) تمّ تعطيل صلاحيّات رئيس الجمهوريّة بالكامل (ربما بسبب عناد الزعامات المارونيّة التي لم تكن تعترف لا بهزيمتها في الحرب ولا بالتغيير الديموغرافي الهائل في الجسم اللبناني). أصبح رئيس الحكومة هو الأقوى فيما أصرّ الشيعة على جعل مدة ولاية رئاسة المجلس متطابقة مع سنوات ولاية المجلس النيابي نفسه. الفكرة كان مفادها أن اضطرار رئيس المجلس إلى طلب إعادة انتخابه تضعف من موقعه ومن صلاحيّاته. لكن رئيس المجلس منعدم الصلاحيات، دستوريّاً. هو الحلقة الأضعف بين الرؤساء. لكن إذا كان الدستور غير المكتوب هو أقوى من الدستور المكتوب في تاريخ الجمهوريّة، فيمكن التعقيب بأن صلاحيات أي رئيس بين الرؤساء الثلاثة لا تنحصر فقط في ما يورده الدستور، بل ترتبط أيضاً بشخصه ودوره وبطبيعة الدعم الخارجي له. ميشال سليمان، مثلاً، لا يصلح في منصب حارس ليلي في بلدية مقفرة في أوائل القرن العشرين. لكن دوره تعزّز عندما تلقّى دعماً (لا مالاً) من النظام السعودي ما جعله ينقلب من خندق إلى عكسه. لكنّ الشخصية ضعيفة وبقيت ضعيفة في الحالتيْن (يمكن أن تغفر لغازي كنعان جرائمه وهي كثيرة—ولا يجب غفران جرائمه—لكن تنصيب ميشال سليمان قائداً للجيش كان جريمة كبرى). رفيق الحريري كان رئيساً للحكومة قويّاً (خلافاً لكل أساطير سرديات 14 آذار وإعلام الفساد) بسبب ماله والدعم السوري والسعودي والأميركي والأوربي له وقدرته على خلق قاعدة شعبيّة بحكم مهارته في التأجيج الطائفي. الدعم السوري المباشر (ساهمت سيطرته المالية على مسؤولين سوريّين في زيادته) كان أساسيّاً لرفيق الحريري وخارج الصلاحية الدستوريّة. الحريري طلب صلاحيات استثنائيّة من راعيه حافظ الأسد. إميل لحود كان أقوى كرئيس من ميشال سليمان، حتى بعد خروج الجيش السوري في لبنان. ميشال عون رئيس ضعيف بسبب سوء تعامله مع المنصب وتناقضات تيّاره. نبيه برّي، بسبب الولايات السبع، بات أقوى بكثير من موقع رئاسة المجلس. هذه ميزة لصالح الرئاسة الأضعف. مهما كان رئيس الجمهورية قويّاً فإن تحديد ولايته يُضعف من قدراته. ورئيس الحكومة يعلم أن ولايته محدودة بحكم عدم استقرار الحكومات في لبنان. آجال الحكومات في لبنان باتت تشبه آجالها في إيطاليا بعد الحرب العالميّة الثانيّة.
المهرجان في محطة آل المرّ كان تصريحاً بعلاقات «سفاح القربى» بين قوى المجتمع المدني وقطاعات الفساد في الإعلام والمصارف و«المنظومة»


يجب تحديد ولاية رئيس المجلس بولاية واحدة أو ولايتيْن في حد أقصى لأن عدم تحديد الولايات يجعل منه أقوى وأرسخ من الرؤساء الآخرين في الجمهوريّة وهذه ميزة طائفيّة ذات حظوة. حتى من دون صلاحيات، فإن توالي الشخص (الشيعي في هذه الحالة) يعطيه أفضليّة على رؤساء آخرين محكومين بولاية محدّدة. وتحديد ولاية الرئيس يمكن أن يعيد النقاش في صلاحيات الرؤساء. طبعاً، الحل الأفضل يكمن في نزع الصفة الطائفيّة عن كل المناصب من دون استثناء لأن ذلك ينصف الجميع من خلال التداور. ولو أن نزع الصفة الطائفيّة يمكن أن يعزّز التمثيل الإسلامي فهذا لا مفرّ منه لأن كوتا المناصفة الطائفيّة—كما رأينا في انتخابات الأشرفيّة—مضادة للديموقراطيّة وتعطي لطوائف تمثيلاً أكبر من تمثيل طوائف أخرى—وهذا يتناقض مع وعد المساواة في الدستور. الكوتا النسائيّة عادلة لكنّ الكوتا الطائفيّة ظالمة لأنها لا تساوي في الحقوق السياسيّة فيما النساء يمثّلن نصف المجتمع والكوتا لهنّ تعكس ذلك.
لكنّ محاولة التغييريّين إعادة النظر في طوائف الرؤساء لم تكن محاولة علمانيّة، لأنهم ركّزوا فقط على رئاسة المجلس لأن الثنائي نجح في الفوز في كل المقاعد الشيعيّة في المجلس. التغييريّون بدأوا العمل بالتنسيق والتحالف مع القوّات والحزب الجنبلاطي (من المهين للتقدميّة والاشتراكيّة استعمال اسم الحزب—الذي هجره مؤسّسوه في زمن كمال جنبلاط بعد انفضاح طائفيّته، أتحدّث هنا عن أسماء مثل كلوفيس مقصود وعبدالله العلايلي وغيرهما). إن التركيز على طائفة واحدة أو المطالبة بنزع الصفة الطائفيّة عن أي منصب دون غيره يوحي بالانحياز الطائفي، خصوصاً إذا أتت المطالبة من جهة لها مواقف طائفيّة. أحزاب التغيير لم ترَ من ضرورة لنزع الصلاحية الطائفيّة إلا عن رئاسة مجلس النواب وليس عن رئاسة الجمهوريّة مثلاً. الحلّ طبعاً يكمن في نزع كل المتطلّبات الطائفيّة للمناصب والوظائف، بل في تحريم الصفات الطائفيّة كما فعلوا في رواندا بالنسبة إلى الاثنيّة التي زرعها المُستعمر هناك وأدّت إلى حروب ونزاعات أهليّة عنيفة. المجموعات التغييريّة اندرجت في سياق الحرب الطائفيّة—التي انطلقت من السعودية والإمارات وتل أبيب—لنفي صفة الوطنيّة عن كل الشيعة—باستثناء دزّينة منهم تتوافق معهم في الرؤية التي يختلف معها الأكثرية العظمى من الجمهور. بهذا المعنى، إن تسمية نوّاب القوات لرجل متوفّى (لقمان سليم) هي إمعان في العقليّة الطائفيّة لأن ذلك يوحي بأنهم لم يجدوا شيعيّاً حيّاً يتوافق معهم في الرؤية الانعزاليّة المتآلفة مع حق الاحتلال الإسرائيلي في الأمان والسلام والهناء، بعيداً عن حق العرب في الأمان والسلام والدفاع عن النفس. التعاطي التغييري مع الشيعة مفاده: الشيعة جهلة ومتخلّفون ولهذا فإن اختيارهم لنوّابهم هو باطل لأننا نحن—من غير الشيعة—يمكن لنا اختيار نوّابهم بالنيابة عنهم (ودليلهم أن واصف حركة يوافقهم الرأي). هذا تماماً ما كان بيار الجميّل (الجدّ) يقوله إبّان الحرب: إن المسلمين غير راشدين وإن حريّة قرارهم واعتقادهم مسلوبة لأن منظمة التحرير صادرتها. لم يكن الجميّل الأب، وهو العنصري، يقبل في أن خيار المسلمين (أو معظمهم آنذاك) توافق بملء إرادتهم مع خط منظمة التحرير، لأنهم استعانوا بها للدفاع عن أنفسهم بوجه الدولة الطائفية الظالمة وميليشيات إسرائيل في لبنان—ولتعزيز الموقع الطائفي (في الوطن؟) في الواقع الحالي مع حزب الله، استطاع التغييريّون وكل أتباع السعوديّة والإمارات استعارة حجّة بيار الجميّل ضد منظمة التحرير لكن الحجّة تطلّبت نفي صفة الوطنية اللبنانيّة عن الحزب وذلك لرفض حقّه في الوجود، خصوصاً أنه يزعج إسرائيل. وإسرائيل هي حليفة راعي هؤلاء في الخليج—أفصح ديفيد أغناطيوس قبل أيّام عن أخطر نظريّة مؤامرة (حقيقيّة ومثبتة لأن أغناطيوس يعتمد في مصادره على وكالات المخابرات الأميركيّة والشرق أوسطيّة) عندما قال: «نحن نعلم أن أخطر المؤامرات في الشرق الأوسط، وعلى مدى عقود، كانت تُحاك في هذه الاتصالات (السعوديّة-الإسرائيليّة السريّة)».
كانت إطلالة التغييريّين في غير صالحهم. هم دشّنوا عهدهم السياسي بمهرجان قبيح في برنامج أفسدِ إعلاميٍّ على واحدة من أفسد المحطات التي يديرها شخص، لنقلْ بأنه نقيض النسويّة. المهرجان الذي أعدّه لهم مارسيل غانم فضح ضحالة شعار «كلهم يعني كلهم». منذ البداية توجّس الكثير منا من الشعار واعتبروه تضليلاً مقصوداً ومحاولة لإقحام الحزب، أوّلاً وأخيراً (طبعاً، هذا لا يعني أن الحزب بقصوره السياسي منذ الانتفاضة لم يُقحم هو نفسه بنفسه وجعل نفسه مادّة خصبة للاستهداف من أعدائه—جماعة السعودية والإمارات وحتى الجالية الإسرائيليّة في لبنان. إن نفوذ الجالية الإسرائيليّة في لبنان يفوق أكثر بكثير ما يُسمّى بـ«الجالية الإيرانيّة» في لبنان، والمصطلح هو طائفي يهدف إلى نفي وطنيّة طائفة بحالها). المهرجان في محطة آل المرّ كان تصريحاً بعلاقات «سفاح القربى» بين قوى المجتمع المدني وقطاعات الفساد في الإعلام والمصارف و«المنظومة» الفاسدة. الكل مرتبط بالكل، وشعار «كلّهم يعني كلّهم» يجب أن يرتدّ ضد الذين رفعوه لأن الكثير منهم مرتبطون بخيوط وعلاقات وتمويل لا تنفصل عن المصالح الاقتصادية والأجندات السياسيّة لمعظم عناصر ما اصطُلِح على تسميته بالمنظومة.
إن التغييريّين ليسوا طبقياً إلا صعوداً اجتماعياً جديداً لطبقة تريد موقعاً مميّزاً لها في السلطة نفسها، وليس في سلطة بديلة. لا يطرح أيّ من التغيريّين (باستثناء «ممفد») تصوّراً للسلطة يناقض أو يختلف عن سمات السلطة القائمة. هؤلاء يريدون حصّة ومقاعد وليس ثورة. إن تسخيف شعار ومضمون «الثورة» القيّم ليس إلا عملاً مقصوداً يهدف إلى إسباغ شرعيّة على أعمال استعراضيّة لا جذريّة فيها. إن خلاصة نقد ميشال فوكو لمعارضة الدولة هي في ضرورة معارضتها ومجابهتها ليس فقط في مركزها (في ساحة النجمة) وإنما في أطرافها في كل شبكاتها، بما فيها الإعلام والمجتمع ونقابات المهنيّين وأجهزة الأمن وحتى البلديّات. فكرة أن ملحم خلف هو مضاد للدولة لا يصدّقها ملحم خلف نفسه. هناك كتابات لجون وبرابرة إيرنرايخ منذ أواخر السبعينيّات عن صعود طبقة الإداريّين الحرفيّين في أميركا: وهي طبقة المديرين (والمديرات بنسب أقلّ) وهي طبقة كانت منذ صعودها في تضادّ مع الطبقة العاملة ومع الطبقة المتوسطة التقليديّة من أصحاب الأعمال الصغار. وصعدت بناءً على إيمان أفرادها العميق بأهمية الشهادات النخبويّة والاختصاصات غير المتاحة لخرّيجي المدارس الرسميّة. والهوّة بين هذه الطبقة وبين الطبقة المتوسّطة والفئات الاجتماعيّة الدنيا في لبنان تزداد لأن أفرادها لا يزالون—بحكم التعليم في جامعات أجنبيّة أو في وظائف في المجتمع المدني—يتلقّون مرتّباتهم بالدولار، خلافاً لعامّة الشعب. الطبقة هذه تريد إصلاح النظام الرأسمالي لا قلبه: تستطيع أن تقرأ في برامج كل مجموعات التغيير اعتناق فكر الاقتصاد الحرّ (الحرّية هنا تعني حصراً حرّية رأس المال في التراكم والاستغلال). هم إصلاحيّون وتغييريّون بقدر ما يسمح النظام الرأسمالي بالإصلاح. هم ثورة بالمعنى الذي رفع فيه صائب سلام شعار «الثورة من فوق لمنع الثورة من تحت» في السبعينيّات. تقرأ جون وبرابرة إيرنرايخ وتتبيّن السير الذاتيّة لمرشحي التغيير: طبقة الإداريّين الحرفيّين هي المديرون الإداريّون وأساتذة الجامعات (الخاصّة الغربيّة) والإعلاميّون والإعلاميّات والمحامون والأطبّاء والمهندسون والنقباء (لماذا لم يُطرح اسم عوني الكعكي مرشحاً تغييريّاً؟ ما فارق أجندته عن أجندة «الخط الأحمر»).

إن التغييريّين ليسوا طبقياً إلا صعوداً اجتماعياً جديداً لطبقة تريد موقعاً مميّزاً لها في السلطة نفسها، وليس في سلطة بديلة


توماس فرانك في كتاباته (خصوصاً «إسمع، يا ليبرالي») يلوم هذه الطبقة بالذات لأنها خانت ليس الطبقة العاملة التي لم تنتمِ إليها قطعاً بل الطبقة المتوسّطة التقليديّة من خلال اعتناق برامج تخلّ بالعدالة الاجتماعيّة (النظرة إلى حلّ مسألة المصارف و«الصندوق السيادي» وكبار المودعين، والضمان الاجتماعي والنقل العام والتعليم الرسمي...). وضرب العدالة الاجتماعيّة في دول الغرب جرى على أيدي هؤلاء الذين نجحوا في الاستيلاء على الأحزاب التي كانت مرتبطة بنقابات عمّالية لم يعد لها وجود أو هي خسرت (بفضل حروب طويلة عليها) نفوذها السياسي وحجمها التمثيلي. عبادة الاختصاص الناتج عن شهادات من جامعات غربيّة هو بنظر هؤلاء العدالة بعينها لأن مشكلة الرأسمالية هي تقنيّة فقط وتطبيقيّة عندهم.
إن الأداء المسرحي للتغييريّين في الأيّام القليلة التي تلت الانتخابات لا يجب أن يكون مفاجئاً لأحد. الإعلام الغربي يضجّ بالتهليل لما يسمّيه اليوم «المعارضة» بصرف النظر عن الخلفيّة السياسيّة لهؤلاء. المعارضة هي في الحريريّين أم في الارتباط بالأجندة الجنبلاطيّة، إذ إن جنبلاط بات يصدر أوامره لهؤلاء في تغريدات. ومارك ضو لا يخفي تحالفه مع جنبلاط ومع «القوّات» مثله مثل باقي أعضاء شلّة التغيير. والاقتراع للمرشح الجنبلاطي في نيابة رئاسة المجلس هو تسديد حسابات لأن جنبلاط والقوات لم يكونا يوماً هدفاً لحملات التغيير. يعتبر حزب «تقدّم» (الذي له نائبان، أي أكثر من الحزب الشيوعي والحزب القومي) في برنامجه الانتخابي أن «الهيمنة الإيرانية وطموح النظام السوري بالعودة يشكلان اليوم سبباً أساسيّاً في انهيار الجمهورية وضياع الهوية الوطنيّة». هاكم التفسير الطبقي للانهيار الذريع في لبنان. هذا التحليل يبرّئ المنظومة التي يكثر الحديث عنها. هذا هو تفسير الإدارة الأميركيّة للانهيار في لبنان. النظام الرأسمالي والمصارف وزعماء الفساد لا علاقة لهم بالانهيار. رفيق الحريري لا يرد اسمه عند أحد من التغييريّين (حتى لم يعد اسمه يرد في الخطاب الممفدي في السنتيْن الماضيتيْن إلا بتحفّظ شديد). الحرس الثوري الإيراني هو الذي سيطر على المصارف وأدارَ رياض سلامة في المصرف المركزي. والنظام السوري يريد العودة إلى لبنان المنهار لسببٍ ما. هذه تحليلات لا تقرأها حتى في الصحافة الإسرائيليّة التي يُفترض أن تكون ساحة خصبة لهذه النظريّات.
التغييريّون هم نتاج لمسار لحركة «طلعت ريحتكم»: هؤلاء الذين أرادوا زرع فكرة أن الصراع ليس صراع الطبقات بل صراع بين أصحاب الكفاءة، المتعلّمين في مدارس خاصّة وبين هؤلاء الذين لا يستحقّون السلطة. إن التعامل مع جنبلاط وجعجع هو غير التعامل مع وزراء الحزب، مثلاً. يشارك أقطاب الفساد نظرة التغييريّين أن هناك متعلّمين أقلّ كفاءة من غيرهم لأنهم من خلفيّات أفقر ويحملون شهادات أقلّ وجاهةً ولأنهم يختلفون في النظرة إلى المجتمع (لا إلى الدولة، وهذا معنى العبارة المتكرّرة أنهم «لا يشبهوننا»). من مسار «طلعت ريحتكم» تبيّن مدى الانسجام بين هؤلاء وبين أقطاب السلطة في 14 آذار. لم يعد أحد يتذكّر نهاد المشنوق أو محمد المشنوق. كل ذلك اندثر لأن ما يُجمع عليه كل التغييريّين من دون استثناء هو الإيمان بالاقتصاد الحرّ وبأن سلاح الحزب يجب نزعه كي يتسنّى لجوزيف عون وصحبه ردع إسرائيل وإذلالها على أرض المعركة بالطوّافات التي رمت الورود على تمثال حريصا هذا الأسبوع.
الظهور الأوّل للتغييريّين كان مهزلة، لنا ولهم. مارك ضوّ حمل صور شهداء انفجار المرفأ في حركة فاقعة في الاستغلال السياسي المبتذل. مَن يقرّر أنه هو—لا غيره—يحقّ له النطق باسم الأموات؟ أي استغلال لمشاعر الناس هو هذا؟ الصحافة السعوديّة تزخر بتغطية إيجابيّة مُتعاطفة مع التغييريّين. لكن متى كانت السعوديّة محتضنة للثورات؟ الأداء يبشّر بتكرار لتجربة سامي الجميّل وبولا يعقوبيان: استعراض مقرون بسياسات محافظة ورجعيّة لا تحيد عن خط المؤامرة الكبرى في لبنان. والمجموعة تضمّ خليطاً متنافراً متفقاً فقط على نزع السلاح: منهم من يعارض المثليّة ومنهم من لا يعارضها. منهم من لا يمانع الزواج المدني (أو يقبله اختيارياً) ومنهم لا يقبل به حرصاً على مصالح رجال الدين في الطائفة والمرجع الديني الأوّل الطائفة الذي «لا مزح معه» في هذه الأمور. هناك نائبة تغييريّة على قائمة بولا يعقوبيان جاهرت بالدعوة لإبادة شعب بكامله. لو أن سينتيا زرازير كانت قد دعت لإبادة الشعب اليهودي—مثلاً—لكانت قد سقطت ولكان الشباب اللبناني «الكول» قد أجمع على ضرورة استبعادها من الحلبة السياسيّة. لم تكن سفارات الغرب لتسمح بمرشّحة (قريبة من خطهم) وهي تحمل دعوة إبادية عنصريّة. لا يمكن لبولا يعقوبيان أن تقبل أن تحمل على قائمتها مرشحاً كان قد دعا إلى إبادة اليهود. دعوات الإبادة ضد أي شعب من الشعوب يجب أن تكون سبباً في استبعاد أي مرشح. هذه ليست خطأ سياسياً أو زلّة لسان. هذه دعوة تُقارن بالدعوات النازيّة. تغييري تحمل صفحته على «تويتر» أصداء لكلام وليد جنبلاط وآخر تحمل صفحته أصداء لكلام سعد الحريري، وبولا يعقوبيان وصفت سعد الحريري بـ«أكبر إصلاحي». إذا كان التاريخ لا يعيد نفسه فإن تجربة الأمانة العامّة لـ 14 آذار تتكرّر لكن بقدر أكبر من الاستعراض والتهريج والفقاعة.

* كاتب عربي ــــ حسابه على تويتر
asadabukhalil@