يتصف المسار الأمني الراهن في لبنان بحيوية لافتة. وهي حيوية تقوم على تفعيل نشاط الاجهزة الامنية المتعددة، منفردة ومجتمعة، في عملية تنسيق فعالة ونادرة. يشمل ذلك الحدود السورية ـ اللبنانية ومناطق التوتر السابقة في الشمال والبقاع، ومتابعة ومطاردة شبكات وخلايا التخريب والاجرام والتكفير... (ليس المفروض أن يعني ذلك عدم حصول اختراقات أو انتكاسات).
لا شك في ان تشكيل الحكومة الراهنة بتوافق خارجي (ولو محدود حتى الان)، قد لعب الدور الاساسي في اطلاق صافرة تشكيل الحكومة وتحديد اولويتها الامنية. لا شك أيضاً ان استيعاب عدد من «الصقور» في داخلها (امتداداً ايضاً إلى توزيع الوزارات)، قد ساهم، هو الاخر، في تسهيل عملية تنفيذ الأولوية الامنية المذكورة.
وبالمقابل، فإن تصاعد التوتر وتوسعه، وشعور طرفي الصراع والاستقطاب الداخليين بالخطر والعجز مجتمعين، هو ما اسهم ايضاً في دفع فريقي الانقسام اللبناني الى تلقف التسهيل الخارجي وتفعيل نتائجه على النحو اللافت الذي تتوالى حلقاته من منطقة الى منطقة، ومن حقل الى حقل، ومن فندق الى فندق!
يشير هذا الامر الى سقوط نظرية الانقسامات الدائمة بسبب «طبيعة لبنان واللبنانيين»، وبسبب الزعم بأن اللبناني طائفي بالفطرة وبأن «هذا الشيء في دمه»: كان كذلك في الماضي، وسيكون على هذا النحو في المستقبل!
لقد استخدمت هذه النظرية في كل المناسبات لتبرير ولتعزيز استخدام الطائفية، ومن ثمَّ المذهبية، أداة لتشويه طبيعة الصراعات السياسية والاجتماعية ولجعل اللبنانيين رهينة طاقم ونظام سياسيين يطاردان مصائرنا في الدنيا وفي الآخرة!
كذلك استخدمت هذه النظرية، ولا تزال تُستخدم، لتبرير الاستقواء بالخارج دعماً لنفوذ وسيطرة أو سعياً لتغيير الاحجام والتوازنات...
نجمت عن ذلك مخاطر وأضرار وخسائر لا تعد ولا تحصى. بين أكثرها سوءاً ادعاء سمات تكوينية جينية عجائبية للبناني، تستعصي على عاديات الزمن وتحولات التاريخ والجغرافيا! الادهى أيضاً، أنه، ورغم العجز عن بناء دولة مستقرة ووحدة وطنية راسخة ومؤسسات تكرس التقدم السياسي والاقتصادي والامني، ورغم الصراعات والتوترات والحروب الأهلية المستمرة والمدمرة... ورغم الفساد والنهب والفشل والعجز والتبعية والارتهان، فقد تمادى المستفيدون الكبار والصغار، في الداخل وفي الخارج، في التغني بـ»المعجزة اللبنانية»: الوصفة أو» الصيغة» العجائبية للتعاون والعيش المشترك والتسامح. ما استدعى تسويقها في الخارج، كما حصل في البلد المنكوب العراق، حيث اختار المحتلون الاميركيون وشركاؤهم المحليُون والإقليميون «الصيغة اللبنانية» مثالاً لإقامة نظام محاصصة وتقاسم، مذهبي وعرقي، في العراق، بذريعة معالجة «المظلومية» ولإدارة البلاد وفق شراكة عادلة مزعومة يكرسها العرف أو الدستور أو الاثنان معاً: على حساب المساواة والعدالة بين المواطنين.
يمكن وفقاً لنظرية «الطبيعة الأولى» المزعومة هذه، التوصل يوماً لم يعد بعيداً، الى وصف بعض البيئات والشعوب بأنها تنتج أيضاً إرهابيين، أو حتى انتحاريين بالفطرة أو بقدر لا يُردّ (لا معنى، بعد ذلك، لمحاكمة أو عقاب على جريمة أو مجزرة أو فظائع... على غرار ما نشهد في غير بلد وساحة ومنطقة)!
نعم في مجرى جدلية الصراع الدائر في لبنان، شهدنا في المرحلة الراهنة خصوصاً، تقدم عوامل ذات طبيعة مختلفة عما يشاع ويكرس عن لبنان وعن اللبنانيين: حركة مطلبية هائلة توحدت فيها شرائح واسعة تمثل، تقريباً، وبشكل مباشر، أكثر من نصف الشعب اللبناني. حصل هذا التوحد، ضد توحد من نوع آخر (رغم بعض المناورات والمناورين): الضعفاء من كل الاتجاهات، ضد الأقوياء من كل الاتجاهات. أصحاب الحقوق، من كل الاتجاهات، ضد أصحاب الهيمنة والنفوذ والمال والسلطة، من كل الاتجاهات أيضاً (لا يجوز التراجع في هذه المعركة ذات الابعاد الوطنية والاجتماعية والمطلبية، رغم شراسة السلطة، كما لا يجوز تشجيع بعض الاندفاعات الفردية بديلاً من التحرك الجماعي الكبير الذي ينبغي ان يستأنف بأشكال مناسبة وبنفس طويل للمساهة في معالجة خلل طال أمده في العمل النقابي، وايضا في العمل الوطني، بشكل عام).
وبالعودة الى المستوى الامني، لا يمكن إلا ملاحظة كيف انه يمكن للأجهزة الرسمية أن تعمل بشكل فعال ومنسق، بعد أن كانت تتنافر وتتنافس وتكاد تقع في التصادم، في بعض المناسبات. لم يحصل هذا الامر بمعزل عن استشعار الخطر، وعن تراجع الضخ المذهبي والطائفي (باستثناء استمرار فحيح «الاسيريين» و»الداعشيين» الذين تتراجع فرص تأثيرهم يوماً بعد يوم).
اهمية هذين المثالين هي في البرهنة على امكانية توليد مشتركات وطنية تستند الى حاجات ومصالح اكثرية اللبنانيين، هذا ما يفتقر اليه لبنان بسبب الفئويات المتنوعة، وبسبب سطوة وتأثير الخارج من خلال شبكة العلاقات التي يكرسها النظام السياسي اللبناني. يقود ذلك إلى نوع من البحث هو في صلب شروط بناء الوحدة الوطنية اللبنانية، اي في صلب بناء وطن موحد ومتماسك يعزز ويبرر وجوده بتضامن ابنائه حول الاساسيات، وبترك الامور الخلافية الى صراع سلمي وتنافس ديمقراطي تنظمه آليات ومؤسسات، وتحرسه ضوابط ومحدات في مقدمها الولاء للوطن على قاعدة المساواة الحقيقية بين ابنائه من دون تمييز أو امتيازات غير مستحقين.
ينبغي القول من دون تردد، أن ابقاء البلاد في دوامة العجز والفشل والتفكك والفساد والتعطيل والارتهان، انما هو اشبه بالخيانة الوطنية على الأقل. يجب بناء وتكريس ذهنية وآليات الفصل بين العام والخاص، وبين الفئوي والوطني، وبين ما هو ممكن ما هو غير مسموح به البتة. وفي امتداد ذلك، يجب تكريس ثقافة المحافظة على السيادة والاستقلال والوحدة الوطنية واحترام الدستور والقانون وتقديس الحريات والعدالة والحقوق والواجبات...
قدمت أسماء وفئات وطلائع من الشعب اللبناني، وعلى مراحل تاريخية مختلفة، تجارب ريادية مدهشة ولا تزال. من ابرزها، بالتأكيد، المقاومة والتصدي للعدو الصهيوني المعتدي والغازي وطرده ذليلاً من دون قيد او شرط. التعلق بالحرية والديمقراطية والانفتاح والمغامرة والنجاح... وتحقيق إنجازات باهرة في هذه الحقول جميعها بالكفاح والمثابرة والتضحيات والإبداع. تقديم مساهمات ذات طابع ريادي في مجال الدفاع عن الحقوق والقيم السياسية والاجتماعية، وتحقيق انجازات فكرية وأدبية وابداعات فنية تتردد اصداؤها في ارجاء العالم.
ان كل ذلك، يصطدم، كل يوم، بمصالح صغيرة لفئات اثبتت انها لا تتقن سوى الخداع والمناورة والنهب والفساد وكل انواع الموبقات والارتكابات... ثمَ محاولة تصوير ذلك على انه ثمرة «طبيعة» خاصة باللبنانين، لا يجوز التخلي عنها على الاطلاق باعتبارها «منحة» ربانيَة و»معجزة» وماركة مسجَلة باسم ابناء بلد الأرز من دون سواهم!
* كاتب وسياسي لبناني