«يضحكني الذين يسمّون بالناس "العمليّين" وحكمتهم. إذا أراد المرء أن يعيش مثل الوحش، يمكنه بطبيعة الحال أن يدير ظهره لمعاناة البشريّة ويهتمّ بفروته فحسب»
(كارل ماركس)

تبدّل، في السنوات الأخيرة، مفهوم «المجتمع المدني» في لبنان، ليصبح سياسياً أكثر منه اجتماعياً، وتعبيراً يُستخدم للدلالة على كلّ المجموعات والأطراف التي تُعدّ نفسها «معارضة»، أو «من خارج المنظومة»، على حدّ زعمها، قبل أن تتنصّل بنفسها من هذه التسمية في الآونة الأخيرة.
في البداية، وفي زمن ليس ببعيد، كان مصطلح «مجتمع مدني» لا يعني أكثر من بضع جمعيّات أهليّة متخصّصة في مختلف المسائل الاجتماعيّة. لكن سرعان ما انضمّت إلى تلك الكتلة مجموعة من المطبّلين السياسيّين مبشّرةً اللبنانيّين بأنّ التغيير الحقيقيّ هلّ. أطلِق على هؤلاء تسمية «المجتمع المدني»، ربّما لاعتبار أنّ «المدنيّة» هي عكس «الطائفيّة» التي ينبذونها، أو لتمييزهم عن الآخرين التابعين للمجتمع السياسيّ، حسب تعريف غرامشي الذي قسّم بنیة ماركس الفوقیّة إلى: «مجتمع سياسيّ» و«مجتمع مدنيّ». أيّاً كان السبب، فالثابت هو «كما أنّ كلّ طفل لا يختار اسمه وظروف ولادته، وجد الناشطون أنفسهم تحت ذاك الاسم»، كما يقول عبدالله مروان العيّاش، في ورقة بحثيّة أعدّها عن «الممارسات السياسيّة للمعارضة». يكمل العياش أنّهم اعتنقوا الاسم «واستخدموا قوّته الاجتماعية (...) حتّى تيقّنوا بعد حين ضرورة الانشقاق عنه بسبب سلبيّة مفاعيله التي تموضعُهم في منزلة مجتمع "غير سياسيّ"». لكنّ هذا الانشقاق لم يُقابل بحفاوة كما توقّع هؤلاء، إذ تبيّن أنّ سلبيّة مفاعيله فاقت تلك التابعة للمصطلح القديم. المصطلح الجديد هذا، لم يكن سوى «مؤسّسات غير حكوميّة»، أو NGOs.
يجب أن نعطي خطاب المجموعات أهمّيّة، مهما بلغت سخافته. بل إنّ السخافة تستوجب هذا الاهتمام. لماذا؟ ببساطة، لأنّها تسرح وتمرح على المنصّة الأكثر تأثيراً بوعي الأجيال الشابّة، ألا وهي السوشل ميديا. على صورة عالمنا الحاليّ، الذي لا يتكلّم سوى لغة المال، هي صورة مواقع التواصل هذه؛ من يملك المال يملك القدرة الأكبر على التأثير. لذا، من الطبيعيّ أن تنشط هنا الجمعيّات والمؤسّسات غير الحكوميّة (NGOs). وهذه المنظّمات والمنصّات أدرى بكثير من غيرها في لعبة الميديا «القذرة»؛ هي تبرع في علْم الاجتماع الإعلاميّ وسيكولوجيّة الصورة وسيميائيّاتها، وتالياً استمالة الجمهور عن طريق الشعارات البرّاقة والألوان الجذّابة والصور والرسوم والغرافيكس الخلّاقة، وتستهدف الفئات الشابّة وحتى المراهقة (استهداف المراهقين بمثابة تهيئة وتنشئة وتحضير للمستقبل، مثلما تفعل الأندية الرياضيّة عند استثمارها فيهم). المشكلة في أنّهم يدّعون «الاستقلاليّة» على منصّاتهم الواسعة على مواقع التواصل الاجتماعيّ، فيما هم تربّوا على أيدي الأنظمة الغربيّة الإمبرياليّة. هذه المنصّات، ذات أعداد المتابعين الهائلة، تعطيهم نوعاً من القدرة على التحكّم بالرأي العام، وخصوصاً الشابّ منه، وإعادة تعريف المصطلحات وتزوير التاريخ والحقائق خدمة لأجنداتهم.
يقول تشي غيفارا إنّه لا يمكن للديموقراطيّة أن تتكوّن فقط من انتخابات وهميّة يديرها السياسيّون والإقطاعيّون الأغنياء. وها نحن نقول اليوم إنّه لا يمكن للديموقراطيّة أن تتكوّن فقط من انتخابات وهميّة تديرها البنیة الفوقیّة بشقّيها «السياسيّ» و«المدنيّ». فعليّاً، كيف لانتخابات، أيّ انتخابات، أن تكون ديموقراطيّة و«نزيهة» و«حرّة» في ظلّ وجود مجموعة تمتلك مالاً تنفق منه ما تشاء على تضليل المجتمعات و«تسطيحها» (بدلاً من تثقيفها)؟
أتت الانتخابات الوهميّة الأخيرة في لبنان بكتلة نيابيّة منبثقة من تلك المجموعات، تستخدم خطاباً تقوقعيّاً من صنف «نحن» و«هم» (وقد كتب عنها الصحافيّ جمال غصن، كما وأشار إليها حساب «المتجهّم» على «تويتر»). أي أنّ هناك «لبنان يشبهنا» ولبنان آخر «يشبههم» (قد يكون جبران خليل جبران ألهمهم). لكن ما عساها أن تفعل؟ السلطات الماليّة والأمنيّة والقضائيّة، وحتى السياسيّة، واقعة أصلاً بيد واشنطن (ربيبة الـNGOs) وأدواتها في الداخل، وبات معروفاً أنّ شيئاً لن يتغيّر في الوضع القائم. ماذا سيقولون للناس بعد 4 سنوات؟ «الاحتلال الإيراني دخل الكونغرس»؟ لا، سيعملون على بطولات وإنجازات وهميّة. أي أنّهم، على سبيل المثال، يُقرّون قانوناً يشرّع الزواج المدنيّ، ثمّ يطبّلون ويزمّرون في الإعلام، لا لأهمّيّته (وهو مهمّ) بل لاستغلاله شعبويّاً. في المقابل، لن يحصل الفقراء ومَن فقدوا ودائعهم ومداخيلهم على شيء، ولكن سيكون معظمهم مقتنعين بأنّ المجموعات «فعلت شيئاً». هذه الطريقة الدعائيّة الشعبويّة في العمل السياسيّ مأخوذة من الأحزاب الليبراليّة الغربيّة، وتحديداً الحزب الديموقراطيّ الأميركيّ؛ إلهاء الناس لتشتيت انتباههم.
«والحبل على الجرّار»؛ سوف يظهر أكثر، مع الوقت، كيف أنّ الخطاب الرماديّ الذي اعتمدته المجموعات بدايةً لم يكن سوى استغلال للناس من أجل استقطابهم. طوّرته تدريجاً عبر السنوات وستطوّره حتّى يبيت لا يختلف عن خطاب الولايات المتّحدة وإسرائيل، لا بل باتت تجاهر من اليوم بكونها أدوات لهما. لكنّ المهمّ ألّا ينجرّ الناس وراء هذا الخطاب الشعبويّ الذي يخدم أعداء بلدهم (في الداخل والخارج)، بل وراء الخطط والمشاريع التي تضع المجتمع في صلب أولويّاتها.

* باحث لبناني