دأب العرب، وكثير من شعوب العالم، على تدوين تواريخهم بالأحداث المميزة التي تطبع ذلك التاريخ. وعليه، نسمع عن عام الفيل، وعام الجراد، وعام الطاعون، وعام الكوليرا، وعام السفربرلك، وعام الثلجة الكبرى، وإلى ما هنالك من مسمّيات تزخر بها كتب التاريخ، وذاكرة الناس الجماعية. ويُمكن القول إن هذا النهج ظل مستمراً إلى اليوم، ولو بأشكال مختلفة. ولعل من أشهر المسمّيات الحديثة في القرن العشرين، أي القرن الماضي، ما بات يسمّى بعام النكبة، وعام النكسة، وأعوام أخرى كثيرة مشبعة بالمرارات والأحزان التي لا يمكن نسيانها. ولا بد من القول، أيضاً، أن عام النكبة ما زال حياً وماثلاً في الأذهان نظراً إلى ما يحمله من معانٍ وما خلّفه من ذكريات وآثار من الصعوبة بمكان نسيانها أو تجاهلها. وما حدث في عام 1948 أسفر عن اقتلاع معظم الفلسطينيين من أراضيهم وتحويلهم إلى لاجئين في أصقاع الأرض، واستلاب أرضهم وتحويلها إلى كيان جديد. وبالرغم من مضيّ السنين وتراكم المآسي والنكبات، إلا أن هذا الكيان الغاصب المستجد لم يستقر، وأن هذا الشعب المكلوم لم يستسلم.من ناحية اللغة، يدلّ معنى النكبة على «مصيبة مؤلمة توجع الإنسان بما يعزُّ عليه من مالٍ أو حميم».
«مسيرة العودة الكبرى» (ستيف سابيلا)

وقال الشاعر ابن الرومي «ومن نكبة لاقيتها بعد نكبة – رهبتُ اعتساف الأرض ذات المناكب». وورد في «لسان العرب» أن النكبة (وجمعها نكوب) هي المصيبة من مصائب الدهر، وإحدى نكباته نعوذ بالله منها. ونكبه الدهر أي بلغ منه وأصابه بنكبة، ويقال نكَبَته حوادث الدهر، وأصابته نكبة، ونكبات ونكوب كثيرة، فهو منكوب. وأضيف إلى القاموس «نكبة فلسطين» من ضمن التعريفات الجديدة، التي لم تخطر ببال ابن منظور ولا غيره. وربما يكون قسطنطين زريق أوّل من استخدم مصطلح النكبة، وقد وصف ما حدث في عام 1948، موضحاً، «ليست هزيمة العرب في فلسطين بالنكسة بالبسيطة، أو بالشرّ الهيّن العابر، وإنما هي نكبة بكل ما في هذه الكلمة من معنى، ومحنة من أشدّ ما ابتلي به العرب في تاريخهم الطويل، على ما فيه من محن ومآسٍ». وعلى هذا الأساس، أمكن القول أن الشعب الفلسطيني شعب منكوب، ونكوبه كثيرة ونكباته متعددة، لم تقف في عام 1948 عند احتلال أجزاء من فلسطين التاريخية، بل امتدت حتى يومنا هذا. وما زالت النكبات تتوالى، وتتسع وتشمل دولاً عربية جديدة وشعوباً شقيقة. وهذا ما دفع المُفكر القومي قسطنطين زريق إلى إصدار كتاب آخر سنة 1967 سمّاه «معنى النكبة مجدداً» ، وكان الشرح القديم لم يستوف حقه. وكتب شارحاً، «في ربيع عام 1948 نشبت المعركة الأولى بين جيوش الدول العربية والقوى الإسرائيلية، فحدثت الكارثة التي أدّت إلى الهدنة وإلى قبول إسرائيل في الأمم المتحدة. واليوم، بعد تسعة عشر عاماً، نشبت المعركة الثانية، فلم تكن الكارثة الجديدة أخفّ هولاً من الأولى، ولن تكون نتائجها المرتقبة أقلّ وطأة على الشعوب العربية، بل إنها ونتائجها تبدو أضخم وأوخم» .
على كل حال، ظلت السنون تتراكم، وكذلك النكبات والمآسي، لقد مر حتى الآن 74 عاماً على حدوث النكبة بأبشع صورها عام 1948. قامت العصابات الصهيونية، في ذلك الوقت، بحرب إبادة ضد السكان الأصليين، ومارست التطهير العرقي بحذافيره. لقد تم مسح قرى بأكملها عن وجه الأرض، وتدمير وجرف منازلها، ومعالمها، وتهجير أهلها إلى الدول المجاورة. كانت العصابات الصهيونية مجهزة بإيديولوجيا نازية وعنصرية، ومدججة بأحدث الأسلحة آنذاك، بما في ذلك الطائرات الحربية والمدرعات والمدافع الحديثة، بالإضافة إلى الكتائب العسكرية المدربة على مستوى عال من أجل إقامة كيان يهودي عنصري. أمّا الفلسطينيون الذين واجهوا هذا المشروع الصهيوني منذ بدايته، فلم يكونوا منظّمين ولا مدرّبين، ولا مستعدين لمثل هذه المواجهات العسكرية، باستثناء بعض المجموعات القليلة والمتفرقة. لكنهم كانوا مستعدين للمواجهة بصدورهم العارية، وما تيسّر من بنادق قليلة لا تكفي. روى لنا الوالد كيف كان يشترك مع أبناء عمّه الخمسة على استخدام بارودة واحدة. وكذلك روى لنا جدي، وجارنا، والجيران الآخرون، كيف كانت العائلات تتشارك على استخدام بندقية واحدة لصد العصابات الصهيونية آنذاك، وعندما تنتهي الفشكات القليلة تصبح البارودة كالعصا لا تنفع، إلا إذا حدثت المواجهات المباشرة بالسلاح الأبيض. بكل بساطة، لم تتكافأ القوى ولا المخططات في ذلك الحين، وما زالت إلى اليوم. غير أن التفكير والتأمل في مجريات الأحداث التاريخية لتفاصيل النكبة، وما جرى، يُثير الدهشة، كما أنه يقبض القلب، فما جرى من أحداث كثيرة لا يوحي بأن الفلسطينيين كانوا عاجزين عن المواجهة والدفاع عن حقوقهم. لكن، أيضاً، كان «العدو قوي الشكيمة، غزير الموارد، قضى السنين وهو يتأهب لهذا الصراع» .
لقد اعتمد أهلنا في ذلك الوقت على قوة الجيوش العربية التي دخلت إلى فلسطين لتقاوم العصابات الصهيونية وتحمي السكان وتحافظ على وحدة الأرض. يصف قسطنطين زريق الموقف: «سبع دول عربية تعلن الحرب على الصهيونية في فلسطين، فتقف أمامها عاجزة ثم تنكص على أعقابها. خطب نارية يلقيها ممثلو العرب في أعلى الهيئات الدولية منذرة بما ستفعله الدول والشعوب العربية إن صدر هذا القرار أو ذاك. وتصريحات تقذف كالقنابل من أفواه الرجال الرسميين لدى اجتماعات الجامعة العربية. ثم يجد الجد فإذا النار خافتة باهتة...، وإذا القنابل جوفاء فارغة لا تحدث أذى ولا تصيب مقتلاً». هذا الكلام الذي كتب عام 1948 كأنه كتب بالأمس، يصف الوضع الراهن للدول العربية وكأن شيئاً لم يتغير. الجيوش لم تكن منظمة ولا مجهزة في ذلك الوقت، فانهزمت. وأصبح المواطنون الفلسطينيون لاجئين في الدول العربية منذ ذلك التاريخ. واليوم يضيق الخناق عليهم من أبناء جلدتهم الذين كانوا يعلنون الحرب، ويرفضون التسويات ويرفعون اللاءات. حتى الخطب الرنانة التي كانت موجهة ضد الكيان الغاصب، تحوّلت إلى نيران حامية تجاه اللاجئين، وأسوار عازلة. أمّا بالنسبة إلى الكيان الصهيوني المستجد فقد فرض نفسه، وبنى قوته، وصار يتضخّم حتى تحول إلى جائحة تقضم الأرض وتطرد السكان. وها نحن الآن، بعد 74 عاماً أمام الحقيقة المرّة، الكيان الغاصب ذاته، وذات الدول العربية متفرقة كأيادي سبأ. الأرض تضيع، وأشلاء الضحية تتبعثر. والشعب المنكوب تزداد أمامه النكوب والكوارث. وأكثر من ذلك، صار الكيان المستجد دولة صديقة وشقيقة ترتبط بمعاهدات سلام وصداقة وأمن واستثمارات. لكن أسوأ ما في الأمر ليس تراجع العرب واندفاع بعضهم لتوقيع اتفاقيات إبراهيمية ومعاهدات أمنية مع الكيان، بل الانقسام الفلسطيني العميق والتنسيق الأمني مع الكيان العنصري، هذا التنسيق القاتل الذي يعود بنتائج وخيمة على نضال الشعب الفلسطيني ومقاومته للاحتلال.
الأوضاع لم تتغيّر كثيراً منذ تلك الأيام، بالرغم من انتشار التعليم والمعرفة ووسائل التواصل وكل ما نريد. لم يتغيّر شيء بالرغم من وضوح القضية وضحاياها، وبالرغم من وضوح القاتل


لماذا ما زالت النكبة مستمرة، وما زالت تتوالد، وتتكاثر؟ لم نعد نسأل لماذا لم ننتصر حتى الآن؟ ولماذا لم نتمكن حتى الآن من دحر المشروع الصهيوني وهزيمته؟ أسئلة كثيرة وجوهرية تتزاحم في الذهن، وتتداعى من دون أن يكون هنالك جواب واضح وحاسم. لكن، ينبغي القول إن الأوضاع لم تتغيّر كثيراً منذ تلك الأيام، بالرغم من انتشار التعليم والمعرفة ووسائل التواصل وكل ما نريد. لم يتغيّر شيء بالرغم من وضوح القضية وضحاياها، وبالرغم من وضوح القاتل الغاصب وداعميه. بالرغم من كل ذلك، ما زالت النكبة مستمرة حتى اليوم. ولم نستطع أن نحمي المشروع الوطني الفلسطيني، ولا المؤسسات الوطنية التي ترعرعت بدماء الشهداء، من مآسي النكبة المستمرة. إن من تسلّموا دفة القيادة ليسوا جديرين بها. لقد تخلّوا عن الميثاق الوطني من أجل أوهام جرت فبركتها في أوسلو، وسلطة وهمية غير موجودة، وأنشأوا أجهزة أمنية بإدارة دايتون لتحمي العدو، وتشي بالمناضلين. ربما يصعب تفسير ما يحدث أو فهمه، لكننا نرى أن الشعب في واد والقيادات في واد آخر، بينما الدول الشقيقة على كوكب مختلف. كتب نبيل عمرو، السياسي الفلسطيني المقرّب من رئيس السلطة الفلسطينية، حديثاً في جريدة «الشرق الأوسط»، أن أبو مازن، مهندس أوسلو، لم يكن واثقاً من أن نتائج المفاوضات ستقود حتماً إلى نهاية سعيدة، وقال أمام المجلس المركزي الفلسطيني جملة يجدر تذكّرها الآن: إن ما توصلنا إليه مع الإسرائيليين إمّا أن يؤدي إلى دولة مستقلة أو إلى تكريس الاحتلال، وكلا الأمرين يتوقف على حسن أو سوء أدائنا. ويضيف عمرو في مقالته: فكل ما يدمر رهانات الفلسطينيين على «المشروع التاريخي» يحدث الآن دفعة واحدة، انقسام فلسطيني لا خلاص منه وابتعاد إقليمي ودولي عن مبدأ حل الدولتين. ربما يكون محقاً، فالفريق الذي قاد المفاوضات السرية للاتفاق المشؤوم، هدم بيديه وسوء أدائه الإنجازات التاريخية لنضالات الشعب الفلسطيني. بالمقابل، قام الكيان الغاصب بالاستيلاء على مزيد من الأراضي، وتهجير مزيد من السكان وفق المخططات الصهيونية. ظلت الحركة الصهيونية العالمية تخطط للمستقبل ولسنوات طويلة، وتسعى بالسبل كافة لتحقيق مخططاتها. لقد كتب ثيودور هرتزل في مذكراته، في أعقاب المؤتمر الصهيوني الأوّل المنعقد بمدينة بازل السويسرية (27 آب 1897): «في بازل أسست الدولة الصهيونية. ولو أعلنت اليوم ذلك لقابلني العالم بالسخرية والتهكم. ولكن بعد خمس سنوات على وجه الاحتمال، وبعد خمسين سنة على وجه التأكيد سيرى هذه الدولة جميع الناس».
وهكذا، بعد 74 عاماً، ما زلنا نرى أن النكبة بكل ما تحمله الكلمة من معنى ما زالت مستمرة إلى يومنا هذا. وما زالت الأحداث تعيد إنتاج نفسها. دولة الكيان أصبحت من الدول الكبرى، على الأقل بسبب وجود المؤسسات والمخططات. والدول العربية تراجعت القهقرى، وعلى الأرجح بسبب غياب المؤسسات والتخطيط للمستقبل. كتب قسطنطين زريق، بأن فريقاً كبيراً من المثقفين العرب ما زالوا بعيدين من الإحساس الكافي بالخطر الأعظم الذي تمثله الصهيونية على كل بلد من بلدان العالم العربي. وقد يفسر هذا بعض الدوافع نحو بناء علاقات صداقة وقرابة مع كيان العدو. وبالرغم من كل ما قيل ويقال، ما زالت كلمات قسطنطين زريق صالحة المفعول كأنها كتبت بالأمس، ويجدر بكل شخص منا أن يعيد قراءتها. بيد أن هذا ليس كل شيء. والطريق ليس مسدوداً كما قد يتبادر إلى الأذهان، الشعب الأصلي يزداد صلابة وتجذراً في أرضه، وما زال يقاوم بكل ما أوتي من قوة مستعملاً الحجر والسكين والعصيّ وكل ما يتيسّر لضرب العدو الاستيطاني وطرده. لكن، حتى يتحقق النصر، لا بد من وقف التنسيق الأمني بأشكاله كافة مع العدو، وإعادة الاعتبار للمشروع الوطني الفلسطيني والميثاق الوطني الذي جمع الفلسطينيين طوال العقود الماضية، وينبغي تنظيم الاختلافات السياسية بحيث لا تصبح انقسامات وخلافات أعمق من الخلاف مع العدو الغاصب، وهكذا تكون العودة نقيض النكبة، طالما أن حلم العودة لم يخبُ بعد.

* كاتب فلسطيني