بعد نتائج الانتخابات، النقاش، من وجهة نظر ما، لم يعد في حصول التغيّر بل في مقاربات التغيير والمنهج التدخّلي الذي يمكن أن تقوم به الإرادة العامة اللبنانية حال انوجادها وتبلورها، بما يضفي قيمة إيجابية على التغيّر القائم باتجاه حرّية مصونة وسيادة واستقلال فعليين وعدالة حقة وتحديث ضروري ومفيد. إنّ التحدّي يكمن في إدارة هذه المرحلة الانتقالية، أو التعاطي مع بذور فصل جديد من تاريخ لبنان السياسي بكل ما تعنيه الكلمة. لبنان يدخل هذه المرة طوراً أو رايخاً سياسياً جديداً في ظل انشغال دولي وتهاوٍ للنظامين الإقليمي والدولي على السواء، أي في ظل مرحلة انتقالية يعيشها النظام الإقليمي والعالمي اليوم.
للولوج في إطار أو براديغم التغيير، نحتاج إلى البحث في عدة أسئلة مترابطة ومنسلة، وهي أشبه بالإشكالات والتحديات:
هل من الضروري استعراض تصوّر مسبق يحدّد الوجهة التي يُفترض التحول إليها أو الهيئة التي ينبغي أن يكون عليها لبنان؟ وهل الإجابة عن هذا السؤال هي شرط لازم وسابق على خوض عملية التغيير بتعقيداتها الكبيرة؟ وهل يمكننا بلوغ تلك الغاية وذاك التصوّر من دون استجرار الفوضى في ظلّ ما يعانيه لبنان من انكشاف واستهداف معلن، فلا نتحول إلى الأسوأ؟ ومن هي تلك الطاقة/ات المجتمعية الأكثر لياقة وكفاءة لمواكبة هذا التحوّل ورعايته؟ وهل هي متوافرة ومصاغة في هذه اللحظة، أم تحتاج إلى مسار تتبلور فيه أكثر بحيث تعطف البناء والتنمية الشاملة على السيادة والتحرير الفعليين، وكيف؟
لا شّك أنّ الإجابة عن هذه الأسئلة والتنقّل بينها أمر بالغ التعقيد لشدّة تشابكها وتداخلها، من جهة، ولكونها ليست جهداً نظرياً فحسب، بل مساراً عملياً ونظرياً بالتوازي، ومستداماً، وخصوصاً في بلد لم يعرف الدولة بمعناها الحقيقي ولم تصغ له هوية موحَّدة وموحِّدة، ولم يُلتمس منذ نشوئه محاولة جادّة لبناء وطن. بل نذهب للقول إنّه لطالما أمعِن في تكريس ضعفه وتفريغ بعض قيم مجتمعه المميِزة بالممارسة وبادعاء التنظير على حد سواء. واليوم، يعيش لبنان الكيان مفارقات غير مسبوقة في أي من دول العالم، مفارقة زوجية «الدولة/ الأمن القومي» رغم تلازمهما، وهو يكاد أن يكون على مفترق من حياته السياسية.
كل تلك الأسباب والتعقيدات، وغيرها، تؤكد أنّ أي مسعى لمواكبة التحوّل الجاري يتطلّب أمانة وعلمية وترفّعاً وشجاعة ونظرة شاملة تُوازن بين أمور عدّة؛ بين الفرد والجماعات المكونة والمجتمع الكلّي، وبين الجزء والكل والداخلي والخارجي، وبين الملحّ والضروري، وتستشرف في البيئتين الخارجية والداخلية، وبذهنية تحويل التهديد الماثل إلى فرصة، وتبحث في الفرص الكامنة فيهما، وكل ذلك بروح التلاقي والبناء والثقة بالشعب والنفس قبل أن نُصبح أمام خطر نسلّم فيه الأجيال وطناً كان اسمه لبنان. كما وتتطلّب خريطة طريق تبحث في عدّة مسارات بالتوازي، وتسعى إلى اعتماد التمرحل، بحيث نوفّق بين البعيد والمتوسّط وبين العاجل والآجل.
أمّا الانتخابات النيابية ونتائجها، فأتمنى أن لا نحمّلها أكثر ممّا تحتمل؛ إنّما تكمن أهميتها في ما يمكن أن تحرّكه من اتجاهات تعيدنا إلى قراءة الواقع وفهم تشكّله بطريقة جديدة وما يستتبع ذلك من مقاربات في بلد قد تغيّر.

وحيث إنّ البحث في هذه الأسئلة/ الإشكالات يحتاج إلى مدخل معرفيّ ضامن، فلا بأس أن نجعل من هذه الورقة إرشادية لجهة التأكيد على مجموعة مبادئ تحكم تفكيرنا، بغضّ النظر عن خلافاتنا الكثيرة في رؤيتنا للبنان ودوره أو كيفية بلوغ التغيير والقوّة الاجتماعية المؤهلة لذلك:

- الإعتراف بعمق المشكلة وعدم تسطيحها. فهل جميعنا مقتنع بأن لبنان بلد قلق وتحكمه هواجس؟ وهل يصحّ أن نصرّ على أنّ المشكلة أحادية البعد فنفسّرها بالعامل الواحد أو أنّها مركّبة ولكل عامل تثقيلاته ووزنه وتأثيره؟ وهل نحن أمام مشكلة مختلقة، أم أنّنا أمام مشكلة خطيرة ومتجذّرة تحتاج إلى التعمّق أكثر في طبقات الاجتماع والتجربة اللبنانية؟
- الاتفاق على أهمية تشخيص المشكلة بعلمية وعقلانية بعقلية القضايا لا العقد، فلبنان بلد مليء بالتراويس وأشبه بالأرخبيل، تغيب الانسيابية في بنائه العام وليس فقط في مؤسساته الرسمية. هو بلد مفكّك المجالات غير متجانس الأبعاد. البنية السياسية فيه غير متلائمة مع الاقتصادية، إن لم نقل مناقضة لها، ويتعمّق التناقض بين السياسي والأمني والثقافي والقيمي فيه، فضلاً عن التناقض والتهافت داخل كل مجال على حدة. ويعاني من مفارقات بين مجتمعه وقيم المجتمع وبين بنائه السياسي. فالدستور ينصّ على أنه يكفل المبادرة الحرّة، بينما تُقنّن الوكالات الحصرية والاحتكارات، فنصبح أمام زعم حرية. ويلاحظ غياب كل أشكال المساواة وتعادل الفرص. والنظام التربوي يتيح تنوّعاً مطلوباً، بينما تغيب الرؤية الموحّدة التي تجمع على هوية جامعة ومصالح وطنية عليا. والمجال الأمني غير واضح الماهية والهدف، هل هو أداة بيد السلطة – أيّ سلطة؟ هل قراره بيد الدولة أم موزّع بين الداخل والخارج؟ هل مناط به حماية الشعب من التهديدات الخارجية أم القيام بأدوار سياسية داخلية؟ وكيف به أن يفعّل بغياب تعريف واضح لأمنه القومي؟ أمّا مجال الثقافة، فيعاني هو الآخر من تحديد معنى ومضمون القيم المرجو تجذيرها وتعميقها وإضفاؤها في هذا البلد. فالحرّية أصبحت تباعاً خاصية ومتلازمة للتملّص من الالتزامات السيادية والمسؤولية وتحديد المعاني والنسبية المفرطة وإدغام فعل الخارج بالداخل. والتقليد والاندماج يصبحان إحلالاً واستلاباً بما لا يتيح فرصة الحديث عن هوية ونموذج خاص نشبه فيه ذواتنا. باختصار، لا اقتصاده ولا ثقافته ولا مؤسساته الأمنية ولا بناؤه السياسي القائم في انسجام أو تكامل، بل أشبه بأرخبيل مجالاتي وموضوعاتي وأكثر.
- تحديد النسب للمشكلة والمثاقيل: ما هي النسبة للخارج في المشكلة اللبنانية، وما هي النسبة التي يمكن أن نحمّلها للداخل؟ وما هو التعريف الدقيق للمجالين الداخلي والخارجي في زماننا اليوم وفي بلدنا كحالة خاصة؟
- هل المقاربة وفق المدرسة الواقعية هي الأمثل لإعادة تكوين سلطته أم المقاربة المثالية، أم نحتاج لنبتدع شيئاً آخر؟ هل نطلب السلم كوسيلة للنظام أو نطلب النظام كمقدّمة للسلم كما تنحو عادة المدرسة المثالية في السياسة؟ أم هل نسير بنظرية الخطوة خطوة فنصبح أمام عامل الوقت الذي هو يتكفّل بجمعنا من خلال التعايش مع غياب خيارات أخرى، فيكون البناء قسرياً، أي بناء واقع الحال كما نحن اليوم؟ هل نعتمد مبدأ التوازن في عملية البناء الاجتماعي أم نغلّب منطق القيم وتفاعلاتها على التوازن الذي يمكن أن يتغيّر أو يختلّ بين فينة وأخرى؟ وهل نجمع بين كل ذلك؟ وهل نغلّب الاهتمام بالمجتمع وبثّ القيم فيه على البناء الفوقي؟ فالمجتمع القوي هو مدخلية سلطة ودولة قوية. ما الذي يفيد لبنان؟
- الديموقراطية التوافقية شرط ضروري الآن في عملية الانتقال. البعض يتصوّر أنّ الديموقراطية التوافقية بدعة ويصوّب عليها، والتجارب تقول إنّ الديموقراطية التوافقية نظرية سياسية اعتمدتها وتعتمدها دول عديدة في العالم ولها منظّروها الكبار (آرنت ليبهارت وغيره). ولا نقول بأنّنا يجب أن نسقطها كما هي، لكن الديموقراطية التوافقية التي تعتمد على أركان أربعة توجّهها رغبة مكنونة وإرادة عامة وقيادة سياسية تطلب الوحدة وتنشدها وتنحو إليها. فجوهرها الروح الإيجابية والسعي إلى البناء الوطني المشترك وتعزيزه، ومنهجها التفاعلية التكاملية، أمّا القيّمون عليها فهم قيادات وهامات وطنية تدفع نحو الوحدة وتقوية الدولة من دون الإضرار بالخصوصيات. بهذا المعنى هي تعبير عن مسار إرادوي يأخذ بالخصوصيات ويحافظ عليها، لكن يتقدّم بها لمزيد من الانسجام الوطني واللحمة، فيجمع الخصوصية الجمعية للمكونات دون إذابتها، وبالآن نفسه يسعى إلى عدم تجاوز الفرد وحقوقه وعدم طغيان إحداها على الأخرى. ويمكن أن يفسّرها البعض بكونها محطة على طريق تحقيق الديموقراطية العددية.
- عدم التعجّل في المعالجة، إنّما المطلوب الإسراع: كأن يطالب البعض بإلغاء الطائفية السياسية وفقاً للطائف، كيف بنا أن نعالج مشكلة بإلغائها؟! المنطق يقول إنّ علينا التدرّج في الحل، وإذا كان متعذّراً أن نتوافق على كل الأشياء، ولا سيّما منها السياسية الآن، فلا بأس أن نضعها على مسار الحوار والتوافق لنصل فيها إلى نتيجة نهائية نظير معنى أمن لبنان القومي وموقعه ودوره وهويته السياسية وسيادته الناجزة واستقلاله الحقيقي.
- تجزئة المشكلة وتفكيكها، بحيث لا نحمّل الظرف الهشّ كظرفنا اليوم ووضع لبنان المهدّد قضايا أكبر ممّا يحتمله مناقشته أو حسمه؛ قضايا ذات أبعاد إقليمية ودولية وتداعيات كبرى يتعذّر التوافق عليها آناً. بل نشرع في إيلاء أولوية للقضايا الجزئية، التي تبدأ بالكهرباء والنفايات ولا تنتهي بمواجهة الفساد والأمن الغذائي والصحي، وغيرها من القضايا المتّصلة بطبيعة موضوعية يحكم فيها العلم التجريبي والأرقام ويستفيد منها الجميع على السواء. وهذا حاجة كبرى كونه يرمّم الثقة بين المواطن ودولته ولو ثقة الحدّ الأدنى. أمّا أن نربط الأمرين أحدهما بالآخر، كما يتراءى للبعض، فإنّ ذلك رهان ودوران في حلقة مفرغة لن تفضي إلى شيء إلّا إلى مزيد من التعقيد وتحلّل الدولة وخسارة الجميع.
- الاعتراف بأنّ نمط التفكير والمقاربة التي يتبنّاها البعض لبناء الدولة على غرار الاقتصاد والشركات لم تنجح. هي تنجح في القطاع الخاص وعالم البزنس، لكن لا تنجح في أي حال في عالم السياسة وبناء الأوطان. وشتّان بين السياسة والتجارة. في البزنس، يسهل تبديل السلع وجني العوائد مباشرة وسريعاً، ولا يتطلّب مسؤولية أخلاقية ونظرة إلى عدالة جيلية وليس فقط أفقية. في البزنس، هناك مكسب مادي ولا تعريف للسيادة التي هي عامل معنوي وقيمة جمع ووحدة. في البزنس، هناك تنافس في حلبة مفتوحة، وفي السياسة هناك وحدة داخلية مطلوبة باطّراد.
- أهمية اقتناع اللبنانيين بأنّ هذا البلد لا يشبه إلّا ذاته، فلا يمكنه أن يقلّد أو يُسقط نماذج سياسية ووصفات من الخارج كائناً من كان هذا الخارج، لا في مؤسساته ولا معالجاته ولا ثقافته ولا قيمه، إلخ.
- لطالما تقسّم المجتمعات بين مستوردة ومورّدة. أمّا وأنّا في عالم تضجّ فيه الأفكار، ويتقدّم صراع النماذج، ولم يعد الخارجي فناً مستقلاً بقدر ما بات امتداداً للداخل وتحدّياته، فهل يصّح أن يستورد لبنان المعاني والمضامين بدل أن يصنعها ويضخّها؟ وهل من تجربة أفضل من لبنان لتحدّد معنى العروبة الحضارية وخصائصها والحاجة إلى إعادة اصطناعها؟ فهل يصح أن يبقى البعض في وضعية من يتأبّى أو يتردّد إزاء عرض المعايير والتعاريف لأي مسألة، من العروبة إلى سؤال الحداثة بحسبنا إلى سؤال المصلحة القومية للبنان إلى السيادة والاستقلال إلى مفهوم الشرعية، ويصرّ على أن يكون حيادياً في كل شيء بل أن لا يكون على شيء، أو مقلداً، فيرغب دوماً في أن يأتيه التعريف والتصنيف وتحديد المعاني بدل صناعتها. وهل يستقيم ذلك في بلد كلبنان، أم ما يحتاج إليه وما يجب أن يوسم هويته هو الإنتاج. نعم إنتاج النموذج والتجربة والمعرفة وبثّها في الإقليم.
- المصارحة والعلمية والتخطيط. فالدولة هي تطور نوعي في مسار وصيرورة الاجتماع الإنساني، وإذا كان قوام تحقّق الوطن الشعور والحب والوجدان، فإنّ قوام تحقق الدولة هو الإدراك والعقلانية والوعي وبلوغ العقل الجمعي مرتبة السياسة. فلغة العلم والمنطق تحدّ من التحيزات وتقلص هامش التكاذب القائم في كل شيء عندنا تقريباً. لكنّه لا يبني بلداً ولا سيما بمصالحة عنوة بل لا بد من المصارحة. وإذا كانت المؤسسات هي الجانب القانوني من فكرة الدولة، فهل يمكن أن تبنى مؤسسات من دون استمرارية وتخطيط مستدام وبعيد المدى.
- الحرص على حماية السلم الأهلي والكينونة السياسية للبنان، بينما نجري عملية التغيير ونواكب التغيّر الواقع. فالأرضية تبدّلت والأعمدة التي حملت هذا السقف لزمن باتت مهترئة وتتلاشى. فعلينا أن نحفظ البناء بزيادة الدعائم وتحضير البدائل للتسنيد التدريجي منعاً لوقوع السقف على الجميع.
- أوَليس من الأجدى السير بخطّين متوازيين وبمقاربتين تكامليّتين بدل أن نكون توقيفيين، بحيث لا نربط ربطاً تلازمياً بين القضايا الكبرى والمرتبطة بتطوير النظام السياسي وتلك المرتبطة بتطوير المجالات والسلع العامة. فالمقاربة الأولى تحتاج إلى وقت وإلى ظروف أكثر طمأنة داخلياً وأكثر استقراراً خارجياً ودولياً، بينما يمكننا أن نبدأ بالثانية حيث لغة الأرقام والعلم التجريبي الموضوعي والفائدة للجميع، وقد تفيدنا في ترميم الثقة وأخذ الأنفاس لبرهة، وتساعدنا أيضاً على التعاطي مع الداء بعيداً عن الانفعال (كما قيل «صواب الرأي بالدول») وتبدأ هذه المقاربة العملية بالسلع العامة من الكهرباء والطاقة وليس انتهاءً بالزراعة والصناعة والبيئة والاقتصاد المنتج. فإنّ البدء بالمجالات المجتمعية لتطويرها والنهوض بها تبدو أكثر عملانية وأقرب إلى الواقع.
- توسعة أرضية المشاركة للنهوض بالوطن والدولة وعدم قصر ذلك على الطبقة السياسية، فلا يصح أن تبقى الصروح الجامعية جزءاً من المشكلة بدل أن تكون جزءاً من الحل. المصالحة المستعجلة بين الصروح الجامعية والأكاديمية، المجتمع الكلي لا الجزئي، فالجامعات يجب أن تنتج علماً، والعلم يقرأ في الكل والكلّي حتّى عندما يقارب الجزء.
- بينما العالم يزداد تداخلاً وربطاً للنزاع بين قضاياه ومجالاته، ويصعب، إن لم نقل يستحيل، تجنيب أفعاله التسييس، هل نريد أن نكون دولة حيّة فاعلة تتحرّك وتؤثّر أم فقط كياناً يعيش الهروب من الذات، فنحيّد أنفسنا عن كل شيء، فلا نحضر في أيّ محفل يتطلب موقفاً، وقد نصل لنحيّد أنفسنا عن أنفسنا فلا نعترف بالتغييرات التي تطال مجتمعنا ونستمر في تجاهلها فنراكم المشكلات. فسلسلة الأسباب للسياسات في الإقليم تفضي في زاوية واسعة منها إلى أصل المشكلة وتحديد خطوط الفصل الواضحة بين لبنان وعدوّه الفعلي، وهو ما أفترض أنّه نقطة ارتكاز حاسمة.

* باحث لبناني