في مقال له في «الأخبار» (19/3/2022)، بعنوان «الموت السياسي للعرب: كيف استقلنا من التاريخ؟» قدّم د. أسعد أبو خليل مجموعة من الأفكار والتحاليل الأولية الصادمة بصراحتها للأحداث العربية، فسّر من خلالها مضمون مقالته أن العرب خرجوا من التاريخ، بعدما كانوا قد دخلوا بقوة إلى داخل مجراه العريض بزعامة جمال عبد الناصر، الذي وثقت الشعوب العربية بشخصه وقيادته.
مرحلة الصعود
لا بد إذاً من العودة إلى التجربة الناصرية، للمزيد من التعمّق في «السبب 2» (أنظمة القمع)، بوصفه السبب الرئيسي، إذ إن المرحلة التي تلت المرحلة الناصرية، تمثّل الفترة البينية بين التجربة الناصرية والمرحلة الحاضرة.
كل من عاصر فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وهو في مرحلة الشباب، وقد أصبحوا قلة متلاشية، من بينهم كاتب هذه السطور، يشعر بالاعتزاز والحنين الجارف إلى تلك الفترة المفعمة بالإنجاز والأمل والشعور بالانتماء العربي، عند قراءة ما كتبه أبو خليل عن الدور الذي كانت تقوم به الشعوب العربية في عهد عبد الناصر، حيث التفّت كلها آنذاك حول قيادته، وكانت كلمة منه تحرّك الملايين على امتداد الوطن العربي.

كانت نقطة التحوّل هي خروج بريطانيا مهزومة من قناة السويس ومصر كلها، وإنهاء احتلال دام سبعين عاماً إلى غير رجعة، نتيجة لفشل العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، أو ما سمّي بحرب السويس. وقبل ذلك، بسنوات قليلة، كانت الهند قد حصلت على استقلالها من بريطانيا، عام 1947، ثم انتصرت الثورة الشيوعية في الصين عام 1949، ثم مني الاستعمار الفرنسي في فيتنام بهزيمة مدوية في منتصف عام 1954، عند استسلام الحامية الفرنسية في ديان بيان فو، في فيتنام الشمالية، للثوار الفيتناميين، بعد حصار دام أربعة أشهر، ثم انطلقت الثورة الجزائرية قبل نهاية العام ذاته.
وقد شعرنا كمواطنين عرب آنذاك، وكما بدا للعالم أيضاً، أن الشعوب العربية عرفت طريقها نحو المستقبل، خلف قيادة عبد الناصر، بهدف التحرّر من الاستعمار والوحدة واسترجاع الحقوق الفلسطينية، وإرساء قواعد العدالة الاجتماعية كأساس لبناء المجتمعات العربية الحديثة. إذ لم يمض عقد من الزمن على انطلاق الثورة المصرية عام 1952، حتى حصلت المغرب وتونس على استقلالها من فرنسا، وألغى كل من العراق والأردن معاهدته مع بريطانيا، ثم تحرّرت الجزائر من الاستعمار الاستيطاني الفرنسي، الذي كان قد استمر أكثر من مئة وخمسين عاماً.
وبصورة موازية، امتدت حركات التحرر إلى القارتين الأفريقية والآسيوية، وظهر إلى الوجود، عبر مؤتمر باندونغ، 1955، مجموعة دول الحياد الإيجابي، بزعامة نهرو وعبد الناصر وتيتو، وبمباركة من شو إن لاي، وزير خارجية الصين الشعبية آنذاك، لتشمل معظم الدول التي حصلت على استقلالها، في آسيا وأفريقيا.
يمكن تفسير ما سبق بالقول إن الحرب العالمية الثانية كانت نهاية مرحلة الاستعمار الأوروبي التقليدي لآسيا وأفريقيا، إذ تحولت الدول الأوروبية المستعمرة، مع نهاية الحرب التي أنهكتها وأظهرت محدودية إمكاناتها، إلى قوى من المرتبة الثانية. وفي المقابل، برز عالم جديد ثنائي القطبية، تقوده دولتان فتيتان عظميان، هما الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. وكان حرص كل من القطبين، بحافز الردع النووي المتبادل، على تجنب الدخول في مواجهة نووية مع الآخر، مع التنافس في الوقت ذاته على نشر نظامه السياسي ونفوذه الاقتصادي في العالم، قد بلور قواعد مستقرة متفق عليها، للعبة السياسة الدولية. وهذا وفر بدوره مساحة مفيدة من حرية الحركة، أمام الدول الأفريقية والآسيوية الناشئة. فقد كانت الدولتان الكبيرتان تتنافسان على كسب صداقة هذه الدول، من خلال المساعدات الاقتصادية والعسكرية والتحالفات الإقليمية.
وبالنسبة للمنطقة العربية، كان عبد الناصر، بما يملكه من عزيمة وإخلاص وقيادة كاريزماتية، هو رجل المرحلة المناسب، في الزمن المناسب. أو على حد تعبيره في كتيبه عن «فلسفة الثورة»: «أن هذا الجيل على موعد مع القدر».

التحدّيات
كان للضباط الأحرار الكثير مما يدعم ادعاءهم بأن حركتهم كانت ثورة حقيقية، وليست مجرد انقلاب عسكري. فالذين قادوا الانقلاب كانوا مجموعة متفاهمة، بدأوا في التحاور السري وتطوير وبلورة أفكارهم الإصلاحية بصورة جدية منذ مشاركتهم في حرب 1948. كانت تلك الأفكار تتمحور حول أهداف التحرر الكامل من الوجود البريطاني ومن النظام الإقطاعي المتمثل في طبقة الباشوات، الذي يقف الملك وحاشيته على رأسه، وفي تحقيق النهضة لمصر في الميادين كافة، بعد تحقيق الإصلاح الزراعي الذي يرجع الأرض لأصحابها الفلاحين. وقد قدموا أهدافهم للشعب المصري في «برنامج النقاط الست» الذي تضمنه البيان الإذاعي الأول للثورة، وبدأوا بتنفيذه بمجرد أن استتب لهم الحكم. كما أن دور الحركة في دعم وإنجاح موجة التحرر من الاستعمار، التي عمت المنطقة العربية في السنوات التالية لعام 1952، كما سبق ذكره، شاهد آخر على صدق وفعالية النوايا الثورية لانقلاب الضباط الأحرار.
إلا أنه بالرغم من كل ذلك، فقد كان نظام الحكم، الذي قاده عبد الناصر، في نهاية المطاف، نظاماً مصمماً لخدمة انقلاب عسكري وتأمين بقائه، وإن حاول جاهداً، وبكل إخلاص، أن يتحول إلى ثورة. كان نظاماً مغلقاً من الناحية المؤسسية، يقوم فيه مجلس الثورة بأدوار السلطة التنفيذية (إصدار القرارات السياسية والعسكرية والمدنية) والسلطة التشريعية (إصدار مراسيم القوانين والتشريعات باسم مجلس الثورة) والسلطة القضائية عند اللزوم (من خلال محاكم الثورة). وكان يعتمد بصورة أساسية على الإعلام الموجه، وغياب وجود أحزاب أو صحف معارضة مستقلة. وكان يعتمد أيضاً على المخابرات ذات الصلاحيات القوية والمباشرة، وعلى ضباط الجيش، بصورة أساسية أيضاً، لإشغال المناصب المهمة في القطاع العام، ضماناً لولاء الجيش. ونتيجة لذلك، كان النظام يفتقر إلى الحد الأدنى من الآليات المؤسسية المستقلة، لمحاسبة ومساءلة القيادات السياسية والعسكرية والاقتصادية، بخاصة على المستويات العليا، وعلى تصحيح الأخطاء، في الوقت المناسب، وقبل استفحالها.
لم يمض وقت طويل على حرب السويس، عام 1956، قبل أن تبدأ نتائج هذا الانغلاق المؤسسي تؤثر في الأحداث. وقد تمثل ذلك، بصورة خاصة، في نشوء صراع قوى صامت داخل النظام، كان مركزه المشير عبد الحكيم عامر، الذي وقع في إغراء السلطات الهائلة التي كان يتمتع بها، كقائد للقوات المسلحة ونائب لعبد الناصر. فقد أحاط نفسه، مع الوقت، بشلل من منظمي سهرات الأنس واللهو والمخدرات على المستوى الشخصي، والمنتفعين والمنافقين، من الضباط وأصحاب المصالح، في مجال الحكم، وأصبح المشير وأعوانه بمثابة دولة داخل دولة.
وقد تسبب هذا الاختلال، على أعلى المستويات في منظومة الحكم، والذي بقي بعيداً من صفحات الإعلام الموجه، بين أمور أخرى كثيرة، في عدم استيعاب النظام للدروس العسكرية الخطيرة التي تمخضت عنها تجربة حرب السويس عام 1956، بخاصة بالنسبة لطبيعة الخطط العسكرية الإسرائيلية المقبلة، والدور الموكل لسلاح الطيران في الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية. بل كان هناك في عالم المشير مبالغة غير مفهومة في تقدير القوة العسكرية والصواريخ المصرية، وفي تقليل أهمية القوة العسكرية الإسرائيلية، وهو ما يخالف ألفباء العقائد العسكرية كافة. وقد تسبب هذا الاختلال المؤسسي في منظومة الحكم، في تفكك الوحدة المصرية السورية، ثم في كارثة 1967. وكان للمشير، بحكم منصبه والمسؤوليات العليا التي كانت موكلة إليه، دور مباشر في التسبب في كل من هاتين النكستين التاريخيتين.
إلا أن عبد الناصر استطاع، بعد كارثة 1967، وكما ينوه أبو خليل، أن يستعيد زمام المبادرة ويعيد تنظيم القوات المسلحة ويشن حرب استنزاف طويلة ناجحة ضد القوات الإسرائيلية عبر قناة السويس. بل إن ميزان القوى القتالي بدأ يميل لصالح مصر، مع بداية عام 1970، مما دفع بوزير الخارجية الأميركية آنذاك، وليام روجرز، إلى تفعيل مبادرته الشهيرة، التي دعت إلى تطبيق القرار 242، والذي يقضي بانسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة، وإقامة سلام إقليمي شامل في المنطقة.
وكان ذلك يتناقض كلياً مع ما تريده إسرائيل والقوى الصهيونية الداعمة لها، وعلى رأسها الداهية الصهيوني متعدد الأدوار، هنري كيسنجر (الذي تميّز سجله أثناء توليه وزارة الخارجية الأميركية باضطهاد وسفك دماء الشعوب المكافحة من أجل حريتها)، وهو الإصرار على عقد سلام منفرد، مع كل دولة عربية على حدة، بدلاً من السلام الإقليمي الذي نص عليه القرار الدولي.
وذلك لأن السلام المنفرد يمكّن إسرائيل من فرض شروطها للسلام على كل دولة عربية على حدة، بما يعكس، لصالحها، توازن القوى بينهما على الأرض، وبما يؤمن عزل تلك الدولة عن الدول العربية الأخرى. كما أن السلام المنفرد يعفي إسرائيل من أهم مسؤولياتها أمام المجتمع الدولي، وبموجب القرار، وهي إيقاف الاستيطان والانسحاب من الأراضي المحتلة، أي التخلي عما تعتبره إسرائيل والحركة الصهيونية مبرر وجودهما. وأخيراً، فإن السلام المنفرد يعفي إسرائيل أيضاً من مسؤولية تعريف حدودها النهائية، أسوة بدول العالم الأخرى كافة. فالحركة الصهيونية لم تفصح عن، أو تلتزم في أي وقت، منذ أعلنت مشروعها، على لسان هرتزل في نهاية القرن التاسع عشر، كما لم يلتزم أي مسؤول آخر في الحركة أو الدولة الصهيونية، بأي تعريف لتلك الحدود، داخل فلسطين التاريخية أو خارجها. وهو ما يعكس طبيعة إسرائيل، كمشروع استعماري استيطاني، مستمر ومفتوح على المستقبل: حدودها في أي وقت، هي الخطوط الجغرافية التي وصل إليها زحفها الاستيطاني عند ذلك الوقت، سواء كان ذلك داخل فلسطين التاريخية أو خارجها.
كان السلام الإقليمي هو ما أراده المجتمع الدولي من خلال القرار، وتبناه روجرز، من خلال رؤيته للمصالح الأميركية، وقبل به عبد الناصر. وكان السلام المنفرد هو ما أرادته الحركة الصهيونية، ونادى به ونفذه كيسنجر، من خلال رؤيته للمصالح الصهيونية، وقبل به السادات.
ولذا كان موت عبد الناصر المفاجئ في أواخر 1970، والذي حامت حول توقيته الشكوك، من أكبر النكسات التي أصابت المنطقة العربية. فقد غاب القائد القدير والشجاع فجأة، في أحرج الأوقات، قبل أن ينهي مهمته في إدارة المعركة القائمة، وبقي النظام المغلق الذي يسيطر عليه الجيش.
كان عبد الناصر قد حاول جاهداً أن يطور النظام الانقلابي في اتجاه مزيد من المشاركة والتمثيل الشعبي الواسع، من خلال إجراء انتخابات رئاسية وانتخابات تشريعية، لمجلس الشعب، وتشجيع وجود أصوات مستقلة داخله. إلا أن هياكل الدولة المؤسسية، كانت تتحرك بإشراف الاتحاد القومي، ثم الاتحاد الاشتراكي لاحقاً، الذي هو حزب الدولة المهيمن. أي أن علاقات القوى لم تتغير من الناحية الجوهرية، وبقي الجيش مسيطراً.
بدأ التردي والتراجع والفساد يزداد تباعاً، في عهود الذين خلفوا عبد الناصر، ابتداء بالسادات، مروراً بمبارك، وانتهاء بالسيسي. وليس أدل على ذلك من أن نائب عبد الناصر قام على الفور، بعد أن استتب له الحكم، بإلغاء توجهات عبد الناصر السياسية والاقتصادية والجيوسياسية كافة، فاستبدل الحليف السوفياتي بالسيد الأميركي، وحصر اهتمامه بمصر بمعزل عن العالم العربي، وقبل بالسلام المنفرد بمعزل عن النظام السوري، حليفه في الحرب. وزار القدس، وخطب في الكنيست، ثم عقد الصلح مع إسرائيل. وكان ذلك كله مقابل تحويل سيناء، التي هي جزء من الأرض المصرية، إلى منطقة منزوعة السلاح، ومقابل تمويل الجيش المصري بالمعونات الأميركية المالية السنوية، ليصبح كلياً خارج الصراع، وعالة مترهلة على المعونة السنوية الأميركية، وخاضعاً لمراقبة البنتاغون. وهو ما أطلق يد إسرائيل في الأراضي المحتلة، أي القدس والضفة الغربية والقطاع، من دون قيد أو شرط.
يبدو إذاً أن الدرس الأساسي الذي تمخضت عنه التجربة الناصرية هو عدم إمكان بناء مستقبل متطور وقابل للاستمرار لبلد عربي، أو أي بلد آخر، على أساس حكم الجيش وتولي العسكر شؤون الحكم، حتى إذا توافرت النوايا الطيبة، وتحت أي مسمى من المسميات. وهو ما يعني ضرورة التمييز بين التجربة الناصرية وشخص عبد الناصر، ومكانته الخاصة في التاريخ العربي الحديث، من جهة، وبين نظام الحكم الناصري من جهة أخرى. أهم ما في تلك التجربة أنها غنية بالدروس، لأنها كانت محاولة حقيقية لبناء مشروع قومي على مستوى المنطقة، ربما للمرة الأولى منذ محمد علي. ولذا فإن أفضل ما يمكن عمله، لتكريم عبد الناصر، لخدمة مصالح الشعوب العربية، هو دراسة تلك التجربة بصورة نقدية، في كل جوانبها، ليس بهدف نسخها وتكرارها، على غرار التفكير السلفي، بل لتشخيص مواطن قوتها وخللها، وما يمكن تعلمه عن أسباب فشلها في النهاية. وكما يقال، فالشعوب التي لا تتعلم من تاريخها تظل مجبرة على تكراره.
* أكاديمي فلسطيني