أيام التحرير في عام 2000 تأخذ في ذهني ووجداني مكانها ضمن سردية أراها مرحلة واحدة في حياتي، وربما حياة الكثيرين من حولي، ولو اختلفت تفاصيلها عند كل واحد منا. خلاصة هذه المرحلة من حياتنا: هدوء داخلي نادراً ما وفّرته لنا الحياة في لبنان، واليقين بأن الحياة كانت كريمة علينا، وأن أعيننا وآذاننا وأجسادنا اختزنت من محيطها مشاعر من السعادة والبهجة وعزة النفس لا يضاهيها شيء آخر. تلك هي المشاعر التي تشكل رابطتنا، نحن من نختلف ربما في مواضيع الساعة كافة في المستنقع اللبناني، لكننا نجتمع في المقاومة، ونبتسم لبعضنا لأن النقاشات كلها تنطفئ حين نتحدث عنها، بل لإدراكنا أنها هناك في الأفق: في الماضي وفي المستقبل، حيث سوف تعيد يوماً ما تصويب وجهة التاريخ، من خلال عملية نوعية ضد العدو، أو معركة كبيرة، أو نصر مرحلي، ونصر نهائي وساحق ومؤكّد سوف يعيد العدالة إلى الأرض. نحن الذين سمحت لهم الظروف بأن يتلمسوا قيام المقاومة مقام المؤسسة الفعلية، الوحيدة التي صنعها شعب هذه المنطقة التعيسة، لتكون له وفي خدمته. وكم أبدعت هذه المؤسسة، وكم كان إشراقها كبيراً في كل مرة لاقت العدو في ميدانه ولقنته درساً لم يقم بعده إلى سابق عهده.يقولون، جدياً أو تهكّماً، «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، الحقيقة أن لا صوت يعلو فوق دوي انتصار المقاومة. إن مؤسسة المقاومة في لبنان، علاوةً على كونها المؤسسة الوحيدة من صنع الناس وليست من صنع الغزاة والمستعمرين وترتيبهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي للعالم، هي ذاك الشيء الذي يثبت أن الإنسان المسحوق يستطيع أن يمسك بمصيره، وأن هذه البقعة الحقيرة والمنسية من الأرض، ممر الغزات الدائم من دون أن تكون أبداً محور مطامعهم، أخرجت شيئاً عظيماً، بحجم الإنجازات الإنسانية. إن الحقارة خيار وليست مصيراً. هي اليوتوبيا التي تسمح للإنسان أن يحقق أسمى قدراته، والتي يتمنى المرء لو أنها تتوافر في مساحات أخرى من الحياة الدنيا.
ذكريات هذه المرحلة من نشأتي عديدة، مترابطة، منسجمة مع بعضها. تبدأ بعد عدوان 1996. في تلك المحطة، مع أن المقاومة انتصرت على العدو واستمرت في قصف شماله، بالرغم من سيطرته على الجو والشريط الحدودي، ممهدةً الطريق لنصر 2006، بالرغم من ذلك كله، كان الشعور «بالمرحلة» في بدايته. كان الشعور بديهياً، يقول إن هناك في جوارنا عدو لا يمكن التصالح معه. لا، هذه الفكرة، بالرغم من تراجعها اليوم في الخطاب العام العربي، لم تكن حتى بمستوى أنفسنا آنذاك. كانت مُحبِطة لدرجة لا تعني شيئاً، لا يمكن لمن كان أهله لا يزالون يتحدّثون عن عبد الناصر على أنه «أعظم إنسان عربي في القرن العشرين» أن يقبل ببديهية أن «العدو عدو، وأنه لا يمكن القبول به». كان لا بد من فعل، من تصرف إزاء العدو، لتجد النفس مستقرها.
البداية كانت ربما في ساعة من بعد ظهر ذاك اليوم، عندما سمعنا بأن هادي وقع شهيداً، وانتظرنا أنا ووالدي النقل المباشر لرد فعل والده، ثم استمعنا إليه يخطب. أذكر جيداً تلك الدقائق. كان جسدي يكاد يرتجف من تيقني أنني أعيش الآن مرحلة تاريخية مجيدة. ها أنا فيها الآن، وأعرف أن والدي الصامت، الجالس إلى يميني من خلفي، يشعر بالأمر ذاته. هو حاضر معي الآن، دائماً. لم أكن أتابع حسن نصرالله من قبل، كنت أعرف بوجوده، خليفة عباس الموسوي، الشهيد مع عائلته، أحترمه مثل غيره، لكن مع ذلك طبيعة عمله بدت لي هشة، عابرة. جزء من مشهد لبناني وعربي متكرر. هذا الخطاب قذفه إلى أعلى مرتبة. ها إن خليفة عبد الناصر قد ظهر، وكنا شاهدَين للحظة ظهوره.
كانت هناك ذكرى أخرى، أيضاً مع والدي، أمام التلفاز، لذاك المقاوم الذي صورته كاميرا مروحية إسرائيلية بينما تقصف نقاط اختبائه بالصواريخ، ثم يعود ويخرج من موقع الانفجار، ونشاهده يركض إلى نقطة أخرى، لتعود المروحية وتقصف مكانه من جديد. هكذا، انحبست أنفاسنا بين شدة الأمل ورجاء السعادة والشعور بالقهر، حتى ظننا أنه مات. وكم كانت فرحتنا عظيمة عندما أذيع بعد أيام أن البطل لا يزال على قيد الحياة، وعرض التلفزيون مقابلة معه وهو على فراش المستشفى معصوب الوجه والأيدي والصدر، لكن صلب في إيمانه إلى حدود السذاجة، طاهر وبريء مثل أرض الجنوب.
وكان هناك «صباح أنصارية»، لأننا استفقنا على نبأ أحداث تلك الليلة الغريبة، الأشبه بقصص الجن أو الساحرات. ثم جاء إعدام العميل عقل هاشم، وتهديد السيد للعملاء بالوصول إلى غرف نومهم إذا تقصدوا خلق توتر في الجنوب، وغيرها من المشاهد والمحطات. في تلك السنوات، لم أكن أدرك أن التحرير قريب. ماذا كانت توقعات غيري آنذاك، لا أعرف. لكنها كانت مرحلة هانئة عندي، بمجرد تيقّني بوجود المقاومة، هذه المقاومة تحديداً، وتمتّعي بالحديث عنها بفرح وكبرياء مع مجموعة من زملاء المدرسة أثناء أوقات الفراغ في قاعة الصف. أتذكر من هؤلاء الآن أحدهم كنت أراه مثلي، عابراً في حياة ليست ملكه، مغتنماً الفرص النادرة للابتسام للدنيا عند الحديث عن المقاومة وعملياتها الأسبوعية، أو عن الدوري الفرنسي لكرة القدم. في تلك المرحلة، جاء التحرير أكاد أقول طبيعياً. كان إنجازاً كبيراً، لكن درجة انبهاري بمحطات السنوات الماضية كاد أن يغطيّ على حدوثه. ربما لأن حدوثه باغتني، كفتى لم يكن يتلمّس المشهد السياسي الأكبر إلا من خلال جزئيّاته. ربما أيضاً لأنني لست جنوبياً، وليس لي منزل وأرض وجدّة تنتظرني في الجنوب. هكذا، جلسنا أنا ووالدي لأيام نشاهد الحشود تفتتح قرى الجنوب، الواحدة تلو الأخرى. وعاد في أحد الأيام والدي إلى المنزل من أحد المعارض ومعه مجموعة شرائط فيديو لتلك الأيام، أصدرتها المقاومة، وما زلت أحتفظ بها.
كان التحرير حدثاً بحد ذاته، مشهد تحرير السجناء من الخيام وحده يأسر الروح. هل إنني خفت آنذاك من انتهاء تلك المرحلة من البطولات؟ ربما. ولا شك أن تمسك الكثيرين بعبارة «مبروك التحرير»، التي أصبحت بمثابة إلقاء للتحية على مدى ربما سنتين تلت أيار 2000، كان فيه شيء من التعلّق بمرحلة التنشئة التي كان التحرير خاتمتها، مثل المغتربين العرب، الذين يتحمسون ويبالغون بإلقاء التحية لبعضهم بالعربية، لأن في الطقس شيئاً من الارتباط مع مرحلة تجذّرهم في وطنهم التي يفتقدونها.
* أستاذ جامعي ورسام