كان على محمود عبّاس أمس أن يلتمس تصريح مرور من أصدقائه الإسرائيليين ويأتي إلى حيفا كي يتعلّم بضعة دروس. فمنذ انتشار أخبار وقف الإضراب، انهمك شباب وصبايا الحراكات الشبابية. فتية ما زالوا في المدارس، وشباب لم يتجاوزوا العشرين من العمر، من مختلف الفعاليات والأطر السياسية، أتوا من عكّا وشفاعمرو والمناطق المحيطة بحيفا كي يعلنوا أن يوم الغضب الذي دعوا إليه الجمعة ما زال قائماً، رغم وقف إضراب الأسرى. اتصالات من رام الله وبيروت، رسائل من غزّة والخليل، لتنسيق فعاليات رديفة للتظاهرة الكبرى التي ستنطلق في الخامسة والنصف على مدخل مدينة أم الفحم.
لا ضبابية في الرؤيا هنا: انتصرت إسرائيل على 280 معتقلاً مكبّلاً بالسرير، هذه ليست معجزة. علينا التحرّك نحو معارك أخرى ومواصلة التقدم إلى الأمام. نحو الاشتباك.
انتهى الاجتماع المسائي على عجل، وانطلقت الصبايا والشباب للانضمام في مسيرة اللجنة الشعبية. جابوا شوارع حيفا العربية. أطلقوا هتافاً لن يعجب قيادات تتبنى خطاب الأقلوية، ولن يعجب أبا مازن، ولن يعجب إسرائيل: «حيفا بتهتف والشتات. الحريّة لأحمد سعدات». أيّ ابداع في هذا الاختزال. حيفا... الشتات... أحمد سعدات... الحريّة!
ومن شرفات البيوت خرج مواطني إسرائيل ليشاهدوا للمرة الألف ربما، جيلاً جديداً من الفلسطينيين، جيل منزوع الخوف، ويتحرك في شرايين الكيان بفعاليّة سرطان لا يتوقف عن الانتشار.
في جدلية النضال اليومي، التأقلم الرافض، الاشتباك اليومي مع العدو الذي يتحكم بمساحة الضوء وجرعة الهواء المسموحة، يبدأ المعتقلون الفلسطينيون معركة جديدة، بقوانين جديدة كلياً.
«إننا نعلق إضرابنا رحمة بأهلنا وبأسرانا قبيل شهر رمضان»، هذا مقطع من البيان الصادر عن الأسرى. لم يتأتّ جزافاً ذكر أهالي الأسرى الذين لم ترحمهم هراوات عسكر محمود عباس. فهؤلاء الذين وقفوا، وحيدين وبلا غطاء شعبي في خيام التضامن، باتوا في أمسّ الحاجة إلى حد أدنى من بِرّ الأبناء. بيد أنّ بيان «تعليق الإضراب»، والمؤتمر الصحافي الذي تلاه، لم يشملا تفاصيل اتفاق قيل إنه قد عقد مع مصلحة السجون. ووزير الأسرى الجديد في «حكومة الوفاق» قال إنّ إسرائيل قد اضطرّت «للرضوخ» لمطالب الأسرى. أية مطالب رضخ الاحتلال لها؟ إلغاء العقوبات التي فرضتها إدارة السجون على الأسرى أثناء الإضراب. إنجازات أخرى؟ عودة الأسرى إلى السجون التي نقلوا منها بعد بدء الإضراب.
سقف الإضراب كان عالياً جدّاً: كان سياسياً. ولم يتم التحشيد للمعركة بما يكفي. بعد 45 يوماً من إعلان الإضراب، بوشر بوضع قانون «الإطعام الجبري» على مسار سريع من أجل إقراره في الكنيست. وفي اليوم الستين أطلق الأسرى طلقتهم الأخيرة: أعلنوا إضرابهم عن الماء والملح، ولم يتحرك الشارع بما يكفي لوقف الانتحار الجماعي، ولم يتوقف عسكر عباس عن فض تظاهرات التضامن. في رام الله خرجت مسيرة لإسناد الأسرى وضد التنسيق الأمني متوجهة نحو نقطة الاشتباك بالاحتلال على مدخل المدينة، وقام عسكر عبّاس بقطع الطريق على عشرات المتظاهرين. لا ضبابية في الرؤيا: الحراكات الشبابية تعرف أنها لا تواجه عدوّاً، بل معسكر أعداء. وتظاهرات اليوم (الجمعة) على مدخل أم الفحم وفي القدس والخليل ورام الله وبيروت وعمّان لم تتزحزح قيد أنملة عن أهدافها المعلنة الثلاث، التي ذكرها «الحراكيون» في بيانهم: تهشيم سطوة الجهاز الأمني الصهيوني على الوعي، إزالة «الخط الأخضر» مرة واحدة وإلى الأبد باعتباره فاصلاً يسيّج العمل السياسي الفلسطيني على شطريّ خط الهدنة، وإسناد أسرى الحريّة.
* كاتب فلسطيني