عاش هذا العمر طويلاً، اسماً وصورة، مشتبكاً بالموقف والنص الإبداعي، ومتفاعلاً مع حركة الجماهير وتطلعاتها. لم يتأخر في رؤياه وحساباته، متداخلاً بينه وبين هدير عواصف التاريخ العربي، ثابتاً كنخيل بلاده وشامخاً كالجبال. رحل أبو عادل شاعر الفقراء والمحرومين والمستضعفين والسجناء واللاجئين والمشردين. غادر شاعر المعارضة السياسية بلغته الحادة ومفرداته المباشرة. غاب شاعر فلسطين ومرابط القدس ومنشد الثورات الشعبية العربية، ومغني العروبة الثورية.كم افتقدناه وكم سنفتقده؟ هذا زمن كالليلة الظلماء وهو كالبدر الكامل، ولكن من ينسى «القدس عروس عروبتكم»؟ ومن لا يتذكر الريل وحمد؟ ومن لا يتغنى بجرح صويحب ومنجله يداعي؟ والبراءة وزرارير البراري ومو حزن ومراثيه الشجاعة؟! تعلّم في مدارس بغداد وحكم بالإعدام وخفف الحكم ليتنقل في سجون العراق، نقرة السلمان وسجن الحلة، قبل أن «يهرب» إلى السجون والقرارات الوحشية العربية. صارت قصائده صرخات الغضب الشعبي وتهربت كالممنوعات الرسمية وتوثقت كدلائل للعقوبات والمحاكم العربية. سجلت قصائده بكاسيتات في زمنها وانتشرت مسربة ليستمع لها في آخر الليل في السجون والمخيمات وبيوت الأحزاب السرية، وحتى المهاجر والمنافي، وتطور الانتشار عبر وسائل الإعلام وتقنياتها. ترددت كلماته، سواء باللهجة العراقية المحلية أو العربية الفصحى، في أنحاء الوطن العربي، من المحيط إلى الخليج. وبات اسمه مشهوراً كبحة صوته وعذاب محنته وقسوة آلامه.
أخيراً، ودّعنا الشاعر مظفر النواب جسداً بعد معاناة صعبة ووجع مركب، شهد خلالها ما كانت كلماته تعبّر عنها وترد عليها وترسمها أغنية على شفاه المعذبين والقابضين على جمر العسف والقمع والنفاق والخداع المعلن. كل مفردة من قصائده لغة خطاب لأمل أجيال وخيار شعب في التحرّر والاستقلال وعمران البلاد. فضحت كلماته واقع الحال العربي الرسمي وقدّمت شهادته الشخصية المعبرة عن أوجاع أمّة ولسان حالها في المقاومة والصمود والرفض الشعبي.
ستبقى قصائده رنانة رغم خفوت المد وانكسار الحد وسطوة العد. مظفر النواب، كتب اسمه في قاموس الشعر العربي، شاعر القصيدة الغاضبة والناطقة والمعبرة، وفي سجل الكفاح الوطني والقومي، أغنية ولحناً وديوان غضب ناطقاً بلغته ومفرداته رافعاً سبابته بيان احتجاج وتفرد كفاح وتجربة ثورة وصوت مقاومة. رحل بصمت وودعنا بغضب. وداعا مظفر النواب!

* كاتب عراقي