جمهورية ألمانيا الاتحاديّة تقوم بدور كلب الحراسة للكيان الصهيوني. إنها تعوي أكثر هذه الأيام، وقد وصلت سياساتها العنصرية إلى حدٍّ تحرِم فيه الشعب الفلسطيني وأنصاره في العاصمة برلين من حقّ التظاهر في يوم النكبة. نعم، قررت شرطة برلين منع مسيرات فلسطينية دعت إليها مُنظّمات وجمعيات فلسطينيّة وعربيّة وتضامنيّة في برلين لإحياء ذكرى النكبة الـ 74. هذا ليس كل ما في الأمر، فالحكومة الألمانية تقوم بتجريم الحق وصاحبه معاً. إن من يدعو إلى مُعاقبة إسرائيل بسبب جرائمها أو يرفع شعار «تحرير فلسطين من النهر إلى البحر» يرتكب «جريمة» بحسب الشرطة ويُمارس شَكلاً من أشكال «مُعاداة السامية» وعليه أن يستحقّ العقاب والرجم. إذاً افهموا يا عَرب: ألمانيا التي كان لمجازرها دوراً في تأسيس الكيان الصهيوني ترفُض سماع صوت الفلسطينيين... في يوم نكبتهم!نحت الفيلسوف العربي السوري قسطنطين زريق تعبير «النكبة» عام 1948 في وصف الجريمة الصهيونيّة الكُبرى وما جرى من اقتلاع وتهجير جماعي للشعب الفلسطيني وإقامة الكيان الصهيوني على أكثر من ثُلثي أرض فلسطين، ولم يتوقع أنّ النكبة ستظل حالة يومية مستمرة، وأنّ التهجير والقتل والاعتقال وهدم بيوت الفلسطينيين ومصادرة الأرض «عملية» متواصلة وبالأدوات ذاتها، هذا كُلّه لا يزال السُلوك اليوميّ للكيان الصهيوني يُعبّر عن طبيعته القائمة على التوسع والعدوان. لم يتوقع أيضاً أنّ التهجير سيطال تجمعات الفلسطينيين أكثر من مرّة، أكثر من نكبة، ومن جديد سيلقي بهم في البحر وفي مخيمات جديدة في أثينا وبروكسل وبرلين ومالمو... وغيرها.
غير أنّ ديفيد بن غوريون، المُؤسّس الفعلي للكيان الصهيوني وأوّل رئيس وزراء صهيوني، كان على صواب تام حين توقّع «العلاقات الخاصّة مع ألمانيا الجديدة» ودافع عن النظرة إلى «ألمانيا الأخرى» مع صديقة المُستشار كونراد أديناور ودفعا إلى تطوير العلاقات الألمانية – الإسرائيلية «المميزة والاستثنائية» إلى مستويات مُتقدمة، فاعتبر بن غوريون ألمانيا حليفاً استراتيجياً قادماً لا محالة بعد اتفاق الطرفين على برنامج دفع التعويضات عام 1952 وتوقيع اتفاقيات الدعم الاقتصادي والعسكري والسياسي والعلمي، فضلاً عن الدعم السياسي اللامحدود الذي تُقدّمه ألمانيا للكيان الصهيوني في كلّ المحافل الأوروبيّة والدوليّة.
المُستشارة أنجيلا ميركل، سارت على خُطى من سَبقوها، وقالت في خطاب ألقته أمام برلمان العدو الصهيوني عام 2008 «من هذا الموقع أقول بكل وضوح إنّ كل حكومة ألمانية وكل مستشار قبلي كانوا ملتزمين بالمسؤولية التاريخية الخاصة لألمانيا بالنسبة إلى أمن إسرائيل. وهذه المسؤولية التاريخية لألمانيا هي جزء من سياسة الدولة التي تتبناها بلادي. وهذا يعني أنّ أمن إسرائيل بالنسبة لي كمستشارة ألمانيّة غير قابل أبداً للمساومة».
النازيّون الجدد يُقيمون تحالفاً مُعلناً هذه الأيام مع الحركة الصهيونيّة والعداء للمقاومة الفلسطينية واللبنانية والمهاجرين واللاجئين الفقراء بات يجمع الطرفين


طيّب، لماذا تمنع شرطة برلين حق التظاهر حينما يتعلق الأمر في إحياء ذكرى النكبة؟ كيف يتضرّر أمن إسرائيل بسبب مسيرة شعبية في برلين؟ ولماذا تعترض الحكومة على مجرد تذكير الرأي العام بمسؤوليته السياسية والتاريخية والأخلاقية حيال ما جرى من جرائم بحق الشعب الفلسطيني؟ ثم لماذا لا تصون ألمانيا الاتفاقيات والمواثيق والقرارات الدولية التي وقعت عليها حكوماتها المتعاقبة وتدعي احترامها؟
إنّ مُجرّد انتقاد إسرائيل، ولو عابراً، في صحيفة ألمانية، قد يكُلف الجريدة الكثير من الخسائر، فضلاً عن معاقبة الكاتب وربما طرده وقطع رزقه. الأمر ينسحب على البرلمانيين والأكاديميين والمثقفين والكتّاب اليساريين الذين أدركوا أنّ نقد سياسة إسرائيل وجرائمها قد يكلّفهم أكثر بكثير ممّا يدفعه نازي ألماني يُدافع عن عصر هتلر على شاشات التلفزة.
النازيون الجدد في ألمانيا يقيمون تحالفاً مُعلناً هذه الأيام مع الحركة الصهيونيّة، قوى اليمين العنصري تدافع عن إسرائيل أكثر من حزب الليكود، والعداء للمقاومة الفلسطينية واللبنانية والمهاجرين واللاجئين الفقراء بات يجمع الطرفين في سرير واحد وضدّ عدو مشترك!
العدو الصهيوني لم يكن ليجرؤ على منع تظاهرة في ذكرى النكبة خرجت من قرية ميعار المحتلة قبل أيام قليلة، كما فعلت ألمانيا القذرة حين منعت مسيرات النكبة هذا العام في برلين. وفي وسع ألمانيا أن تفعل أكثر من ذلك طالما أنها لا تدفع الثمن. وقد يكون في مقدور صحافي صهيوني نقد إسرائيل في جريدة صهيونية غير أنّ هذا «الحق» ممنوع على صحافي ألماني أو عربي في برلين!
في 20 كانون الثاني 2022، وقّعت وزارة الحرب الصهيونيّة عقداً مع شركة تيسين كروب الألمانية لبناء ثلاث غواصات من نمط جديد، طراز دكار، يسمح بالإطلاق الرأسي للصواريخ. ويبلغ سعر الغواصات الثلاث، التي تعمل بالديزل والكهرباء، 3.5 بليون دولار، وتموّل الحكومة الألمانية ثلث التكلفة وفقاً لاتفاقية موقعة بين البلدين في 2007. يقول رئيس وزراء العدو نفتالي بينيت: «هذه الغواصات ستعزّز بشكل كبير الأمن القومي لإسرائيل وتضمن تفوّقنا الإستراتيجي لسنوات قادمة»، وهذه ليست المرة الأولى التي تقدّم فيها ألمانيا تقنيات عالية في وسعها تدمير دول ومجتمعات منطقتنا في دقائق معدودة.
منذ عام 1967 قدّمت ألمانيا للكيان نحو 30 مليار دولار كتعويضات لضحايا المحرقة النازية- هذا الرقم المعلن فقط- فضلاً عن عشرات مليارات الدولارات من الدعم المباشر. يُمكنكم إضافة ما تقوم به الحركة الصهيونية عبر منظّماتها الأخطبوطيّة الكثيرة في ألمانيا من تحويل مئات ملايين الدولارات سنوياً لمشاريع «التطوير» و«الشراكة» وهذه المنظمات الصهيونية تتمتع بمزايا خاصة من ناحية الإعفاء الضريبي والتسهيلات التي قد لا تحصل عليها المؤسَّسات الألمانية نفسها.
تسعى ألمانيا والحركة الصهيونيّة إلى تصفية الحقوق الفلسطينيّة وتزوير التاريخ ومضاعفة جرائم الاستعمار من خلال تدفيع العرب والمسلمين ثمن جرائم ألمانيا النازية وجرائم عصابات الإجرام الصهيوني، بل وتحملينا نحن مسؤولية المحرقة والنكبة ومعاداة السامية في آن واحد. وإذ تمنع قوى القمع الشرطية صوت الشعب الفلسطيني في «مخيم برلين» من إطلاق صرخته من أجل العدالة، يردّد لسان حال «شارع العرب» في برلين ما قاله الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش وهو يسأل العدوّ: أتقتلني؟ وتسرق جثتي؟ وتبيعها؟