لو حكمنا على مجريات السياسة في لبنان والعالم من خلال الإعلام الغربي (والخليجي الذي يُلهمه) للزمنا منازلنا. نقرأ منذ سنوات أن النظام الإيراني على وشك السقوط وأن حزب الله يفقد تأييده بين الشيعة وأن (إملأ الفراغ: يحيى شمص أو إبراهيم شمس الدين أو غازي يوسف أو علي مراد) على وشك أن يتسلّم زمام زعامة شيعة لبنان والإقليم من حسن نصرالله. الـ«واشنطن بوست» عنونت قبل أيّام أن حزب الله خسر الأكثريّة في المجلس لكن متن المقالة يوضّح للقارئ أن أحداً ليس لديه الأكثريّة في المجلس الجديد. وإعلام النظام السعودي الطاغي يصرّ على أن الحزب فقد تأييده حتى في الجنوب، ربما لأن علي خليفة نال 595 صوتاً ولأن علي مراد نال 2900 صوت (بالمناسبة، هل تدرون أن علي خليفة وعلي مراد نالا من التغطية من محطات الاعتياش على المال الخليجي أكثر ممّا ناله محمد رعد، صاحب أكبر عدد أصوات في الانتخابات؟) محمد شقير كتب مقالة عن الحزب وحلفائه في «الشرق الأوسط» تضمّنت المقالة وصف «الزلزال» و«الصدمة» و«الصاعقة» (و«الصفعة» في اليوم التالي). تغيير في الأصوات بنسبة 10 (مع أو ضد) لا يشكّل زلزالاً. الحزب يعاني من أكثر من مشكلة. هو هزمَ إسرائيل في حرب تمّوز. حقّق ما لم يتمكّن أي جيش عربي من تحقيقه في تاريخ صراعنا. نازلَ العدوّ على مدى ثلاثة وثلاثين يوماً. جريدة «جيروزاليم بوست» نشرت قبل يوميْن تعليقاً أن الحزب تعرّض لهزيمة شنعاء في لبنان، ربما لأن أسعد حردان سقط. إسرائيل لديها اليوم حلفاء في قلب العالم العربي: لم يكن هناك أفضل لإسرائيل من حلفاء أهم وأفعل من النظاميْن السعودي والإماراتي. النظامان يسيطران على الجامعة العربيّة (المتقاعدة عن العمل منذ وفاة جمال عبد الناصر) وعلى وسائل الإعلام العربي. النظامان يفرضان من يحقّ له أن يبثّ في منازل العرب في كل مكان في العالم. والنظامان يسيطران على الفن والترفيه، ما يجعل صناعة الثقافة خاضعة لسياساتهما وتحالفاتهما مع إسرائيل. والحلف المثلّث الأضلاع (خليجي-إسرائيلي-غربي) مصمِّم على استهداف الحزب وجعله يدفع ثمن نصره في حرب تمّوز. لم تكن إسرائيل تكترث للحركة الوطنيّة اللبنانية في عزّها لأنها لم تكن تشكّل تهديداً مباشراً لها، خصوصاً أن الحركة الوطنية اعتبرت أن دور حماية الجنوب من مهامّ منظمة التحرير بصورة أساسيّة. تعلم من التعليقات والعناوين الغربيّة عن الانتخابات أن الشعب اللبناني لا أهميّة له في دول الغرب؛ كل العناوين تقول: فليذهب لبنان إلى الجحيم، نحن معنيّون فقط بمصلحة وأمن إسرائيل. كل ما يهمّها يهمّنا، والعكس. وفي زمن منظمة التحرير، كان للغرب همّان: همّ مصلحة وأمن إسرائيل وهمّ استخدام لبنان ضد اليسار والقوميّة العربيّة وأعداء الصهيونيّة في المنطقة.
لم يصبح موضوع سلاح الحزب هكذا أولويّة بصورة عفويّة. راجعوا الأرشيف: في بداية الانتفاضة كان كل الكلام أن موضوع السلاح مؤجّل (حتى سامي الجميّل أقرّ بذلك مع شدّة اهتمامه بموضوع سلاح «هزبو لاه» نظراً إلى ما لدى «الكتائب» من علاقة تاريخيّة بإسرائيل ومن معاداة لأعداء إسرائيل). لكنّ المال الخليجي والغربي هطلَ على المحطات الثلاث. لم يكن التغيير ظاهراً كما ظهر على محطة «الجديد». هذه المحطة كانت في خطابها الممانع (بابتذال ومباشرة شديدة) بوقاً لكل محور الممانعة. وكان صاحب المحطة يظهر على محطته ويستفيض في الحديث عن المقاومة ودور المقاومة، ونذكر بعد اغتيال الحريري كيف أنه زار بشار الأسد وقال (بكل غرور): لو أن الزيارة تمّت من قبل، لكان لبنان تنعّم بهدوء أو سلام أفضل، أو كلاماً مزعجاً من هذا القبيل. فجأة، انتقلت المحطة إلى المحور المضاد، وكانت النقلة نافرة إلى درجة أن إعلاميّيها فجأة انتقلوا معها من الممانعة إلى الليبرالية الثوريّة المتماشية مع مصلحة دول الخليج. كيف يمكن ألّا ينجح مرشحو التغيير: قارنوا. ظهر مارك ضو وبولا يعقوبيان وواصف الحركة على المحطات أكثر بكثير مثلاً، من محمد رعد، الذي نال أكثر من 48 ألف صوت في آخر انتخابات. أي أن أصوات رعد تفوق بأضعاف المرات أصوات بولا مثلاً وبمرات أصوات ضو. لكن هؤلاء كانوا يظهرون ليس فقط على المحطات الثلاث البارزة والمؤثرة في الساحة اللبنانية بل كانوا يظهرون أيضاً على المحطات الخليجيّة.
هل الملامةُ على هجرة كل هؤلاء من غير الشيعة نحو المحور المعادي للمقاومة تقع فقط على المال والإعلام والمؤامرة، أم الحزبُ يحتاج إلى مراجعة ذاتيّة؟


وتجربة دور الإعلام في الانتخابات تحتاج إلى دراسة مفصّلة في قولبة الرأي العام. كان كل ضيف يظهر في أي من المحطات (واستمرّ ذلك بعد الانتخابات) يُطالَب على الفور بإعطاء رأي في سلاح الحزب. لم يُسأل أي مرشح عن رأيه مثلاً في التطبيع والتحالف الإماراتييْن مع إسرائيل. أنت تسأل عن خطر سلاح المقاومة فيصبح في أذهان الناس أن سلاح المقاومة خطر. أنتَ لا تسأل عن خطر إسرائيل كي يقتنع المواطن أن الخطر ليس من إسرائيل بل من مَن يعاديها. هذه ثقافة سياسية باتت مترسّخة في لبنان. هناك من يناصر إسرائيل ضد أعدائها. لم يكن مطلوباً من المرشح أن يدلي برأيه إلا في خطر سلاح الحزب. يستطيع المرشح مثلاً أن يظهر على «الجديد» ويتحدّث عن النظام السوري وأن يصفه بالقاتل والمجرم، لكن لو أن المرشح قال ذلك عن نظام خليجي لتوقّف البثّ على الفور. لكن اللعبة معروفة بأصولها والضيف يعرف اللعبة قبل الظهور ويعرف ماذا يريد أن يقول وما لا يستطيع قوله. والذي حدث بصورة مؤامراتيّة ليس أن هناك تبلوراً لرأي عام مهووس بسلاح الحزب بل إن الكلَ يتحدث بنفس صيغة الخطاب: بدأ السنيورة بإيعاز أميركي بعد حرب تمّوز بالحديث عن «ماكس فيبر» وحصريّة السلاح واحتكار الدولة لوسائل العنف، وتبعه الآخرون. بجد، تبدأ العبارات وصيغ الخطاب في مطابخ وزارة الخارجيّة الأميركيّة، مثل عبارة «ثورة الأرز» أو عبارة «قوى التغيير»، ثم يصبح دارجاً على الألسن. لم يظهر أي مرشح مثلاً وعبّر عن عداء ضد سلاح الحزب بصيغ غير تلك التي يتحدّث بها الآخرون. يتحدّثون بنفس المفردات. وفي نهاية الحمى الانتخابيّة، أصبح خطاب العداء لسلاح المقاومة هو واحداً بين كل المرشحين، من اليسار و«ممفد» إلى سامي الجميّل. تنافست «ممفد» مع سامي الجميل لكن المنافسة لم تكن أبداً حول سلاح الحزب. توحّدت الرؤية والخطاب في العداء في نهاية العمليّة الانتخابيّة. وما تعرّض له إلياس جرادة كان خير مثال. جريمة جرادة ليس في أنه لم يعتنق دعم المقاومة في خطابه (على طريقة الحزب الشيوعي قبل سنوات قليلة) بل هو تحدّث عن المقاومة بصيغة غير تلك المعتمدة من كل الفريق الـ14 آذاري ويمينه المتمثّل بـ«المستقلّين». سيستمرّ ضرب جرادة بالأسئلة حتى يصبح خطابه مماثلاً متطابقاً لخطاب كل الآخرين خارج فريق الممانعة. وليس هناك مجال مثلاً في الأحاديث للمساءلة في الطروحات عن المقاومة. مثلاً، عليك أن تقول إنك ضد سلاح المقاومة من دون أن تسأل عن البديل: الجيش؟ كيف ذلك؟ كيف يصبح الجيش بديلاً عن المقاومة؟ هل يستطيع جوزيف عون أن يردع إسرائيل؟ ألا يدخل جيش العدوّ إلى لبنان في غضون ساعات للتفتيش في المنازل في جنوب لبنان لو أن الجيش هو الذي يتولّى تخويف وردع إسرائيل؟ عليك أن ترفض المقاومة بالمبدأ وبلا كيف. والبديل؟ تُراوح الأجوبة بين «المدنيّة» و«المواطنة» (الأخيرة باتت لازمة لإبراهيم منيمنة) أو الجيش، ما غيره الذي يشكو همّه شهريّاً لضباط إسرائيل في حفلات السمر والسهر في الناقورة.
ديفيد هيل (في مقالة على موقع «ويلسون») على حقّ في أن الانتخابات لن تؤدّي إلا إلى الشلل (بالمناسبة كمّ الجهل التاريخي عند ديبلوماسيّي أميركا في منطقتنا بات فاضحاً. لم يعد هناك مستعربون كما كان في الماضي. لا يستطيع أي ديبلوماسي أميركي في بلادنا النطق بأكثر من كلمة «فلافل»، وبصعوبة بالغة. هيل مثلاً قال إن لبنان تأسّس على فكرة منع أي طائفة من السيطرة على مقدرات الدولة. هذا الخبير في شؤون لبنان والذي عمل سفيراً عندنا يجهل أن الجمهوريّة تأسّست على فكرة السيطرة السياسيّة المارونيّة وأن كل مقدّرات الدولة كانت بيد نخبة طائفة واحدة. ظنّ في عمله السياسي أن لبنان تأسّس كما كان عليه بعد الطائف. لم ينهك نفسه في قراءة كتاب عن تاريخ لبنان). لبنان ليس في وارد التحريك السياسي في داخل المجلس. لم تتغيّر الحياة السياسية عمّا كانت عليه قبل الانتخابات. النظام الاقتراعي هجين وعقيم وهو مُفصّل على مقاس جبران باسيل، وهو غير قابل للحياة لأنه مضاد للديموقراطية. والإصرار على المناصفة الطائفيّة مُجحف بحق المسلمين لأنه يعطيهم حق تمثيل منقوص كثيراً. إن أرقام الفوز فاضحة في المقارنة بين بيروت الأولى وبين النبطيّة مثلاً. بولا يعقوبيان تفوز بـ3500 صوت فيما يفوز أمين شرّي بأكثر من 26 ألف صوت. هذا مضاد للديموقراطية ومضاد لوعد المساواة في الدستور. ويزيد في تقويض هذه الديموقراطية الاقتراعية بدعة انتخابات المغتربين، التي أصرّ عليها جبران باسيل. أي إن باسيل مسؤول بدرجة مباشرة عن جرّ حزب الله إلى قانون اقتراعي متنافر فقط لأنه يعتبره مناسباً لـ«حقوق المسيحيّين» أي إنه يضمن انتخابه وفوزه، خلافاً لدائرة أوسع لم يكن له حظ فيها. ولو أن الانتخابات جرت على مستوى الدائرة لكانت النتائج مختلفة تماماً. يجب على من يؤمن بالديموقراطية في الانتخابات المقبلة أن يصرّ على حظر الانتخابات للمغتربين لأن شروط التنافس والمجاهرة الإعلانية غير متوفّرة وممنوعة في دول الخليج والغرب على أكبر حزب لبناني. سنعود في الانتخابات المقبلة إلى زمن المحادل، ولو اعترض باسيل على ذلك.

نستطيع أن نتحدث عن المؤامرة الخارجية (الخليجيّة-الإسرائيليّة-الغربيّة) ــ وأنا أتخصّص في الحديث عنها يومياًــ لكن لا يكفي ذلك. هناك مؤامرة طبقيّة في الداخل


لكن نتلهّى نحن في العالم النامي بالانتخابات. ليس لنا حرّية ممارسة الديموقراطية. هذه الانتخابات تأثّرت كثيراً بالإنفاق المالي الخارجي (معظمه خليجي وغربي، ومجلّة «تايم» في الانتخابات الأخيرة فضحت كمّ المال الغربي-الخليجي خصوصاً أن الأزمة المالية في إيران قلّصت كثيراً الإنفاق الإيراني). والتدخّل الغربي الخليجي لم يكن سرّاً أبداً. ديفيد شينكر أخطأ (من منظور المؤامرة التي شارك في صنعها وتنفيذها) عندما ظهر في برنامج لـ«مؤسّسة واشنطن» وتحدّث عن دوره في تجميع قوى «التغيير» وضحك كثيراً عندما روى عن دور أميركا في الضغط الاقتصادي على لبنان (مرة أخرى، يبرز أيضاً دور الإعلام في المؤامرة، إذ إن تسليط الأضواء على كلام شينكر كان واسعاً ومنتشراً إلى درجة أن محطة إسرائيل في لبنان—هي حرفياً، محطة إسرائيلية، في الفكرة والتجهيز عند إطلاقها—«إل.بي.سي» اضطرّت إلى دعوة شينكر للظهور على الشاشة وذلك لتوضيح ما قاله في ساعة «تخلٍّ». هناك عقود مالية بين السفارة الأميركية والإدارة مع عدد من وسائل الإعلام وذلك لإبراز وجهة النظر والضيوف الأميركيّين، ويتخصّص في عدم مساءلة الضيوف الأميركيّين، الناشط التغييري الثائر، ألبرت كوستانيان، الذي يبدو أن الضيوف الأميركيّين يفضّلون استضافتهم من قبله لأنه لا يمكن أن يسألهم إلا تلك الأسئلة التي كان لاري كنغ يُمطرها على فرانك سيناترا، من نوع: «فرانك، لماذا نحن نحبك»؟) أميركا لا تسمح بالديموقراطية في بلادنا، ولو سمحت هي تدعم الانقلاب عليها لو أصبحت مزعجة لها أو لمصالح إسرائيل (أميركا في الوقت الحاضر دعمت انقلابات على الديموقراطية في مصر وتونس والسودان). والمضحك أن لبنان—ألم تسمعوا؟—استضاف زواراً أوروبيّين لمراقبة الانتخابات. وكانت ملاحظاتهم مملّة إلى درجة أن الإعلام لم يغطّها. لكن الوفد الأوروبي كان له دور مرسوم بعناية سياسية من واشنطن. لو أن الحزب والحلفاء فازوا بأكثرية قوية، لكان دور الوفد الأوروبي إعلان بطلان الانتخابات وكانت أميركا ستسارع—كعادتها—إلى فرض عقوبات «معيقة» (هذه هي الصفة المفضّلة عند أميركا في الحديث عن عقوباتها الوحشية ضد الشعوب) ضد لبنان. لكن ماركس ستَرَ، ولم يفز محور الحزب وتنفّسَ الوفد الأوروبي الصعداء. وتعمل أميركا أيضاً من خلال وسائل إعلام وجمعيات محليّة. هناك الجمعية اللبنانيّة لمراقبة الانتخابات التي صرخت واعترضت ونشرت على المواقع فيديو حيّاً لحادث «اعتداء» على المرشح واصف الحركة. لم تكن الجمعية-الأداة (ذات التمويل الحكومي الغربي) متأكدة من نتيجة الانتخابات وكانت تستعد لأوامر غربية بإعلان بطلان الانتخابات في حال فوز أعداء أميركا. ولاحظنا أن شريط الاعتداء على واصف الحركة (والشريط أظهر هتافات سياسية ضده مع أصوات تدعو إلى تركه وشأنه، وظهر وهو يخرج من مركز الاقتراع وحيداً من دون هتافات أو اعتراض) اختفى ولم يعد هناك حديث عنه. ووسائل الإعلام الجديد «المستقلّة» (أي المموّلة من حكومات الغرب وسورس) أسفرت عن وجهها في الانتخابات وتبنّت مرشحين وروّجت لهم وهي طبعاً أفنت ساعات في الدعاية ضد الحزب ومرشحيه وكل حلفائه—وكل ذلك ليس بالمجّان طبعاً. بدلاً من التلهي بالديموقراطية الممنوعة عنا، يمكن التفكير في حلول جذرية لمشاكلنا الاقتصادية المرتبطة أيضاً بالحصارات الأميركية في بلادنا.
لن يكون هناك غلبة لأحد في لبنان. والتفكير في نزع سلاح الحزب هو إعلان انتخابي مدفوع الثمن. ليس هناك مَن هو في وارد التفكير بعد أن هُزمت إسرائيل نفسها على يد المقاومة. يستطيع جوزيف عون في المجالس المغلقة أن يعد وأن يزهو وأن يصوّر مكانته الشعبية بطريقة تدغدغ القلوب في واشنطن لكن الجميع يعرف الحقيقة—وقد اعترف بها ديفيد هيل نفسه. صحيفة «تايمز أوف إسرائيل» اعترفت بحقيقة أن الانتخابات لن تؤثّر على مكانة المقاومة العسكرية. ينسى البعض أن هؤلاء المتطوّعين هزموا القوات المتعدّدة الجنسيّات (أي «الأطلسي») في الثمانينيات عندما كانت قوّة هؤلاء المتطوّعين نحو خُمس ما هي عليه اليوم. إسرائيل وحلفاؤها نجحوا وينجحون في مخطط عزل الحزب طائفياً في لبنان. كل هذا المخطط كان من أجل فك التحالف بين التيار والحزب. حاولت أميركا بعد اغتيال الحريري أن تفصل بين الحزب والحركة لكنها فشلت لأن المزاج الجنوبي يشعر بالحصار—وعن حق. عندما يُقال لأكبر طائفة مقيمة في لبنان بأنها «جالية إيرانية» لا تتوقّع أنها ستنجذب إليك. منذ اغتيال الحريري حاولت القوى المتحالفة مع الخليج أن تعرض على الشيعة هذا الخيار: نحن نقود محوراً طائفيّاً ينبذ الشيعة لكننا نسمح لك بالانضمام إليه لو نبذتم المقاومة جهاراً. ولهذه فإن الشيعة في إعلام الخليج هم أشد الناس كراهية للشيعة لأن هؤلاء مطالبون بإثبات الولاء الطائفي للمعادين للطائفة التي ولدوا فيها. فقد الحزب أنصاره من السنة والدروز والمسيحيّين في الجنوب. هذا عنصر خطر لأن ذلك يعني أن المعركة المقبلة ستشهد دسائس أكثر من حرب تموز. هل الملامةُ على هجرة كل هؤلاء من غير الشيعة نحو المحور المعادي للمقاومة تقع فقط على المال والإعلام والمؤامرة، أم الحزبُ يحتاج إلى مراجعة ذاتيّة لتقييم الأداء، خصوصاً في مرحلة ما بعد الانتفاضة؟ المدهش ليس أنه كان هناك مؤامرة خطيرة ضد المقاومة. لا، المدهش لو أنه لم يكن هناك مؤامرة بعد تحقيق النصر وإلحاق الهزيمة والمذلّة بإسرائيل.
الحرب ليست على الأبواب. المقاومة تُخيف إسرائيل وتردعها بما فيه الكفاية. الحرب المقبلة هي حرب طبقية بين الجائعين والمعوَزين والفقراء والمعذّبين والخاسرين وبين زعماء الفساد والطبقة الحاكمة برمّتها. هذه المعركة هي الراهنة وتحديد الموقف منها سيحدّد موقع أي حزب في الانتخابات المقبلة. إن خسارة الحزب لحلفاء له يتعلّق بدوره ودور حلفاء له في حماية النظام وفي الغرف من دولة الفساد. نستطيع أن نتحدث عن المؤامرة الخارجية (الخليجيّة-الإسرائيليّة-الغربيّة)—وأنا أتخصّص في الحديث عنها يومياً—لكن لا يكفي ذلك. هناك مؤامرة طبقيّة في الداخل من المُترفين المترهّلين الناهبين ضد بقيّة الناس. والطبقة الحاكمة تغيّر أدواتها، تستعين حيناً بأحزاب تقليدية وبأشخاص من كل الطوائف ومن ملاحدة لو تطلّب الأمر. والأدوات الجديدة للمؤامرة الطبقيّة ستحاول جاهدة أن تحافظ على النظام القائم: لاحظوا كيف أن قوى «الثورة» و«التغيير» تُجمع على ضرورة الحفاظ على «النظام الاقتصادي الحرّ». هذا الإيمان بالاقتصاد الحرّ هو إعلان حرب ضد كل ضحايا النظام الرأسمالي الذي أودى بكم إلى التهلكة.
* كاتب عربي ــــ حسابه على تويتر
asadabukhalil@