مع كل فِعل مُقاوِم في فلسطين المُحتلة، أو انطلاقة مُتجددة وهادرة لحراك شعبي فلسطيني في مواجهة الكيان الصهيوني يُهدّد استقراره وأمنه، وقد يتحوّل إلى شرارة تُشعل انتفاضة فلسطينية شاملة، تستنفر سُلطة الحكم الذّاتي في الضفّة المحتلّة، وتبدأ في وضع خطط الحصار والخنق من الداخل. إذ بالإضافة إلى دورها الأمني والاستخباراتي في إسناد قوات العدوّ، تعمل السلطة الفلسطينية على تفريغ جوهر الهبّة الشعبية من مضمونها الثوري الديموقراطي، وتمنع توفير مرتكزات الصمود وتحرم انتفاضة الجماهير من عناصر الانتشار والتصاعد والديمومة. هذا في الواقع هو الدور المنوط بالسلطة الوكيلة للاحتلال في «يهودا والسامرة» منذ تأسيسها عام 1994. هذه وظيفتها الوحيدة التي تقبض مقابلها ملايين الدولارات من وكالة المخابرات المركزية (السي آي إيه) والاتحاد الأوروبي والقوى الرجعيّة في المنطقة. وفي الوقت الذي تتوقف فيه عن القيام بهذا الدور الوظيفي سيقوم معسكر العدو بإنهاء وجودها أو تغيير مواقع القرار فيها. وهذا ما فعله أرييل شارون وجورج بوش الابن بعد «انتفاضة الأقصى» أو ما عرف بـ«الانتفاضة الثانية» (2000 – 2004).
إنّ الحقيقة أعلاه لم تعُد خافية على أحد، ولا موضِع جدل ونقاش في إطار الحركة الوطنية وقوى المقاومة، كما كان الحال في مرحلة ياسر عرفات مثلاً. فالفترة التي سَبَقت مرحلة محمود عباس كانت السلطة تحاول في بعض المواقع وضع قدم في الماء وأخرى في النار، وتظل تقفز وترقص. وقد قال شمعون بيريز ذات مرة لياسر عرفات: من يدخل نادي المدخّنين عليه أن «يشفط» الدخان! ومعنى ذلك عليه أن يحسم أمره، وهذا ما فعله «ورثة عرفات» حين «شفطوا» وحسموا أمرهم ورضخوا لكل الشروط فتحولوا إلى رعايا وخدم عند الجنرال الأميركي كيث دايتون صاحب مقولة «الفلسطيني الجديد» الذي أشرف على إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية الفلسطينية عام 2005.
إن عناصر الاستمرار والديمومة للهبّة الشعبية الفلسطينية تعني توفّر الأوكسجين الذي تتنفس منه حركة الجماهير، ولا يمكن للانتفاضة أن تستمر وتتصاعد من دونه. ويمكن وضع هذه العناصر والمرتكزات على النحو الآتي:
- أولاً: توفير الحماية السياسيّة والتنظيميّة للانتفاضة (أو الهبّة الشعبيّة).
- ثانياً: وجود مرجعية واحدة وقيادة وطنية موحدة تضمن وحدة الأداة والبرنامج والهدف.
- ثالثاً: توفير ركيزة الصمود الاقتصاديّة للطبقات الشعبيّة التي تُقاتل وتدفع كل الثمن، ولأنها الأكثرية وصاحبة المصلحة الحقيقية في التغيير الثوري والانتقال إلى واقع جديد، والأكثر استعداداً للبذل والعطاء والتضحية.
- رابعاً: تحديد الأهداف المباشرة للهبّة الشعبية (الانتفاضة) في وضوح تام تفهمه الجماهير وتقبله، وتكون أهدافاً واقعية وثورية في آن واحد.
- خامساً: حماية ظهر المقاومة، وتوفير كل مصادر الإسناد للكادر المتقدم والقواعد المناضلة والعمل على ضمان وجودهم خارج المعتقلات والسجون أطول فترة ممكنة.
تكشف هبّة الجماهير الشعبية في كل مرة عن حالة الخواء والفساد التي تعشش في مؤسسات منظمة التحرير والسلطة


كل هذه العناصر والمرتكزات الأساسيّة وغيرها تعني في الواقع عبارة واحدة «وحدة وصلابة الجبهة الداخلية»، وهذا ما لا يمكن تحقيقة في الضفّة المحتلة، حتى الآن على الأقل، وذلك بسبب تغوّل العدو وممارسته، من جهة، ووجود السلطة ودورها الوكيل في خدمة الكيان الصهيوني من جهة أخرى. أمّا قطاع غزّة، فالحال مختلف تماماً، إذ رغم الحصار والحروب والتضييق والخنق تظل غزّة قادرة على حماية الجبهة الداخلية، وتنشغل المقاومة الفلسطينيّة في تطوير قدرتها التسليحيّة واللوجستيّة والأمنيّة ويتحسّن أداء الإدارة العسكريّة والسياسيّة في تسيير شؤون القطاع الصعبة والمعقدة. يحدُث هذا كلّه رغم كل ما يُقال عن «أخطاء حماس» وغيره من نقد وملاحظات جادة لا يخلو بعضها من الصحة والمشروعيّة.
أمام تصاعُد الهبّة الشعبية، تعمل السلطة في الضفّة على شقّ الموقف الوطني من خلال مصادرة القرار السياسي والتحرّك وفق صيغ هلامية واستخدامية يغلب عليها طابع الهرتلة والعفوية. فالهدف، من وجهة نظر فريق أوسلو، هو «تحسين شروط التفاوض» وتليمع دورها وتحقيق بعض المكتسبات والامتيازات الصغيرة التي يستفيد منها مجموعة من التجار وطبقة اجتماعية لا تتجاوز 1% من المجتمع الفلسطيني في الضفّة، وليس الهدف من «حراك السلطة» تحقيق الوحدة الوطنية، فضلاً عن الصمود أو تحقيق النصر!
مع كل انتفاضة شعبية فلسطينية تقوم السلطة على إعادة تموضع خطابها السياسي، شَكلياً وليس جوهرياً، حتى تضمن موقعها واستمرار دورها. ولذلك، ترى السلطة أن أيّ حركة شعبية فلسطينية أو عملية فدائية ضد العدو هي ضربة موجهة لها بالضرورة، وتشكل تهديداً لوجودها ومصالحها، فتُطلِق صيحات مثل «لا نريد مغامرات» و«المنظمة هي المرجعية»، وتتقمّص ملامح الحكمة فتصبح «حريصة» كل الحرص على عدم الذهاب إلى «الانفلات الأمني في البلد»، وتدفع كتائب المثقفين المهزومين المأجورين إلى الواجهة من أجل نشر الإحباط وزرع الشكوك في جدوى المقاومة، وتتذرّع «بالحصار المالي» وتحرد وتتباكى وتشكو قلة حيلتها... وكل هذا هدفه حصار الهبّة الشعبية: تصفيتها من الدّاخل.
مع بدء كل هبّة شعبية فلسطينية تتراجع رموز السلطة وتدخل جحورها، غير أنها لا تذهب تماماً، إنها تنشط في حياكة خيوط حصار وخنق الحركة الشعبية بالتنسيق المباشر مع أقطاب معسكر العدو في غرف العار. صحيح أنك لا تراها في واجهات الإعلام، وتتوارى عند وقوع عدوان صهيوني على قطاع غزة - إلا إذا أرادوا تحميل «حماس» المسؤولية - غير أن هذا الحال سُرعان ما ينقلب إلى عكسه مع أوّل «أيام الهدوء» فترتفع وتيرة القمع والعنف ضد طلائع الجماهير ويجري عقابها واستهداف الحركات الطلابية والعناصر الثورية من الشباب وقواعد المقاومة.
تندلع الهبة الشعبية فلا تتحرك السلطة فلسطينياً وعربياً ودولياً ولو من باب «رفع العتب»، فلا تدعو مثلاً إلى عقد اجتماع طارئ للقوى السياسية ولا حتى لقوى عربية أو للجمعية العامة للأمم المتحدة، لا تتحرك سفاراتها في الخارج وتلتزم صمت القبور، فيما تكون سفارات العدو مجنّدة بالكامل لصالح الكيان وحركته الدولية. تكشف هبّة الجماهير الشعبية في كل مرة عن حالة الخواء والفساد التي تعشش في مؤسسات منظمة التحرير والسلطة، ولذلك يجري توجيه الطعنة تلو الأخرى للانتفاضة حتى لا تتفاقم أزمة السلطة ويظهر عجزها وتتعرّى تماماً أمام الشعب والعالم.
حين تسمع الجماهير الفلسطينية رئيس السلطة يخطُب عبر شاشات التلفزة ويحيي «شعبنا الصامد في بيتا ونعلين والشيخ جراح» لا تصدّقه ولا تطمئن إليه، فالجماهير الشعبية تُدرك بحسّها التاريخي وتجربتها الكفاحية الطويلة أن الصدق يكمُن في الأفعال والمواقف التي تلمسها بيدها وتراها بعينها. كما تُدرك الحقيقة كلّها لأنها تكتوي بنارها كل يوم وترى شبابها في المعتقلات وكيف يزحف العدو ومعه غول القمع والفقر والمرض والجوع في أحزمة البؤس والمخيمات ولسان حالها يقول: لماذا ندفع نحن كل الثمن ولا نحصد غير العلقم بينما ينعم عباس وأولاده وأنصاره في فنادق خمس نجوم؟

* كاتب فلسطيني