بغضّ النظر عن نجاح أو فشل «داعش» في إقامة كيانها السياسي الإسلامي العابر للحدود القطرية، فمن الواضح أنّ معظم القوى الدولية ترفض أو تناهض في «العلن» نشوء كيان كهذا. وتحديداً كونه سيتوسط دولاً عربية تتمتع بأهمية وخطورة جيو سياسية. وإذا تساءلنا عن الأسباب التي أدت إلى تفاقم الظاهرة الأصولية بأشكالها الجهادية المتزامنة مع انبعاث هويات طائفية، عِرقية ودينية تنظر إلى نفسها على أنها تعاني من مظلومية تاريخية، فإن زعماءها ودعاتها يردّون أسباب ميولهم الجهادية إلى التأزم العربي السياسي والديني والاجتماعي، وفشل سلطات الدول الراهنة في تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة، وابتعادها عن أصول الشريعة الإسلامية.

وهذا يقتضي من منظورهم إسقاط الدولة بأشكالها الراهنة، والعودة إلى دولة الخلافة والاقتداء بالسلف الصالح، لأنّ الإسلام بالنسبة لهم هو الحل. من جانبنا نرى أنه من الضرورة بمكان نقض مبررات التيارات الإسلامية التي ترى أن تجاوز الأزمات التي تعاني منها الشعوب العربية يكمن في إقامة دولة إسلامية يكون دستورها الشريعة الإسلامية. ورغم الصوابية النسبية لبعض الأسباب التي يطرحها دُعاة إقامة دولة الخلافة، فإنّ العنف أياً كانت أسبابه ومبرراته سياسية أو دينية أو مذهبية أو طائفية أو عرقية، يجب ألا يكون مدخلاً لتحقيق أي من الأهداف السياسية وغير السياسية. لهذا فإنه من الضرورة بمكان خروج الأطراف المتصارعة من دائرة العنف والعنف المضاد. وما يجري في العراق إضافة إلى كونه امتداداً للحالة السورية، فإنه غزو خارجي عبر تنظيم إجرامي ليس فقط عابر للحدود، بل خارج من بطن التاريخ، وعن التاريخ، وضد القانون. فاختلاط الغايات والأهداف مع الباطل يدفع إلى تقسيم العراق إلى دويلات طائفية.
إن استمرار العصبية العشائرية والطائفية يُعتبر من أهم مظاهر فشل الدولة الوطنية بعد الاستقلال، وأحد تجليات إخفاق المشروع النهضوي العربي. فالأحداث التي تعصف في العالم العربي، تكشف عن عمق الجذر الطائفي في السلوك العام، وعند النخب العربية العلمانية والتيارات المتدينة على حد سواء. وهذا يفترض إعادة قراءة وتفكيك بنية العقل الطائفي في إطار مشروع ثقافي يعيد تقييم العقل العربي نقدياً. فنقد العقل وتحديداً العقل الطائفي، يمثّل الخطوة الأولى في سيرورة تجاوز التخلف والقطع مع بنيته العقلية.

استمرار العصبية
العشائرية والطائفية يُعتبر من أهم مظاهر فشل الدولة الوطنية بعد الاستقلال

فالعقل الطائفي يتميز بكونه عقلاً أحادياً إقصائياً لا يستطيع التعايش مع الاختلاف، ووجوده يرتكز إلى معادلة صفرية تعادي الآخر من منطق الهوية الجزئية التي يتم تحويلها في سياق الممارسة إلى هوية مطلقة تستبطن القابلية لاستعمال العنف ضد الآخرين أياً كانت هويتهم. لهذا فهو يرفض من داخل أسواره الطائفية أي قراءة نقدية عقلانية. إضافة إلى ذلك فإنه يتميز بكونه عقلاً انطوائياً يرفض العيش المشترك، ويختزل كل عوامل ديناميكية العالم عند حدود طائفته التي يسوّرها بسياج من المسلمات الدوغمائية الجامدة التي تجسد بالنسبة له الحقيقة المطلقة. فالتاريخ من منظوره، يبدأ وينتهي عند حدوده. وهاجسه الأول والأخير ينحصر في الحفاظ على التماسك الطائفي، الذي يكرّس بالنسبة له، الإحساس بكينونة الطائفة. وكان هذا يقتضي بالنسبة لزعماء الطوائف العمل على بناء عقل جمعي. لكن المآلات السلوكية لهذا العقل، كانت تتماهى مع الحالة القطيعية. فالخطاب الوجداني العاطفي القائم على استحضار مشاعر المظلومية، يركّز في الإثارة الغرائزية لتمكين الهوية الطائفية الجزئية التي تُرفع إلى درجة الكلية المطلقة. وكان هذا يستدعي أيضاً قراءة انتقائية للتاريخ، وتضخيم حوادث بعينها، كونه مرتبطاً بالماضي الذي يجسّد المظلومية والمآثر الفردية. كما أن مصطلحاته تقوم على الشحن الطائفي واستثارة الأحقاد والضغائن، وهذا يقضي على أي دور للعقلانية.
بالعودة إلى جوهر الموضوع الذي نناقشه، نرى بأن وراء العنف الديني وميل بعض التيارات الإسلامية الجهادية التكفيرية إلى إقامة كيانات إسلامية أسباب متعددة نذكر منها:
أولاً: تركيز كثير من النصوص الدينية على ضرورة إقامة الدولة الإسلامية، كون الإسلام دين ودولة. ويتساوق مع هذا الميل في اللحظة الراهنة، التركيز على محاربة الكفرة والمرتدين والروافض والعلمانيين... فالتيارات الجهادية التكفيرية ترى أنه من الضروري في سياق إقامة كيانها الإسلامي، تكفير وقتل كل من يعارض توجهاتها الدينية المحمولة في حقيقتها على أهداف سياسية. هذا لأن توجهاتها محمولة على نصوص قرآنية وأحاديث نبوية. وهذا يعني أن العنف بالنسبة إلى زعماء التيارات الدينية السلفية والتكفيرية قضية مقدسة. وهؤلاء يتميزون بقوة عدمية مؤسسة على عقيدة العداء والتكفير والتدمير لكل من يخالفهم العقيدة.
ثانياً: فشل السلطات السياسية القائمة في تحقيق العدالة الاجتماعية، وتمكين دولة المواطنة التي يتساوى فيها جميع المواطنين بغضّ النظر عن ميولهم السياسية واعتقاداتهم الدينية والمذهبية. إذ أن سياسات الكثير من سلطات العالم العربي أفضت إلى خلق هوة واسعة بينها وبين مواطنيها. وكذلك نشوء ظاهرة الفصام بين المجتمع والسلطة والدولة، والتي تحوّلت في سياق تنامي مظاهر التمييز الديني والطائفي والإفقار، إلى تفاقم مظاهر العنف. فظاهرة «داعش» و«النصرة» وغيرهما، لا يمكن حصره بالجانب الاعتقادي والإيماني فقط، بل تعود إلى بنية السلطات السياسية. فالدولة التي تمارس التمييز بين مواطنيها على أساس الانتماء الديني والطائفي، وتمارس الاضطهاد من المنظور ذاته فإنها ستلاقي ذات المصير العراقي. وهذا لا يعني موافقتنا على ما يجري، بل نؤكد رفضنا له، ونؤكد بأن مخرج الدول العربية من أزمتها الراهنة يكمن في القطع مع بنيتها السلطوية وأشكالها التمييزية. ويجب أن نذكّر بأن آليات التعامل الدولية مع الحركات الأصولية كان له بالغ الأثر. واتضح هذا في كيفية تعامل القوى الدولية مع الأزمة السورية. إذ لم تتوقف العديد منها عن تمويل ودعم المجموعات المتطرفة بالمال والسلاح. لكن هذا يطرح علينا تساؤلاً على درجة من الأهمية: ألا تقوم هذه المجموعات بدور وظيفي يخدم مصالح من يرعاها ويتبناها من الدول الخليجية والغربية وكذلك أنظمة الاستبداد. وهذا يعني أن هذه الدول معنية بما آلت إليه مصائر شعوب المنطقة. وليس هذا فحسب، بل إن الدول الضالعة في الصراع الذي تدور رحاه في المنطقة، هي من يسعى إلى تغيير الجغرافية السياسية والثقافية في المنطقة، في وقت يجري الاشتغال على تعميق حدة الصراع لزيادة تمزيق الشعوب العربية وتدمير كيانية الدولة. وهذا يمهّد الطريق لعودتها إلى المنطقة بذريعة محاربة الإرهاب التي كانت من أسباب تفاقمه. والحكومة الأميركية تأتي في مقدمة هذه الدول.
إن ما يجري في العراق يتقاطع في جذره سببان: سلطة ذات بنية قمعية تمييزية وغزو أميركي اشتغل لسنوات على إقامة حكومة طائفية مارست العسف والتمييز والنهب، فقضت بذلك على أي حلم ينشد دولة المواطنة وتحقيق العدالة الاجتماعية. وليس هذا بمستغرب إذ أن دورها الوظيفي يستدعي ما قامت به كونها سلطة تابعة ومرتهنة للأميركان.
ثالثاً: تتحمّل سياسات «النظام العالمي الجديد» جانباً كبيراً من مسؤولية ما آلت إليه أحوال المنطقة العربية، وكثير من مناطق العالم، التي تم تحويلها إلى بؤر توتر. إذ حوّلت الإسلام إلى ظاهرة فوبيوية، باعتمادها التقسيم الديني للعالم. ومن هذا المنظور كانت مراكز الأبحاث الغربية تشدد في دراساتها على أن جوهر الحروب والصراعات مردّه بشكل دائم الفكر الديني والطائفي، مستبعدة بذلك المستوى الاجتماعي الذي يشكّل في الغالب جوهر الصراعات والنزاعات على المستوى العالمي، كونها من أسبابه الرئيسية، ذلك نتيجة سياسات النهب والإفقار التي تمارسها بحق الشعوب. وكانت حكومات الغرب تستغل بشكل خاص هذه المنصة الإيديولوجية في دعم الحركات الجهادية وتوظيفها في خدمة سياساتها الاحتلالية. وحالما تصل إلى مبتغاها تنبري ظاهرياً للحرب ضد الإرهاب. وكان هذا يتقاطع على الدوام، مع العقائد الدينية الإيديولوجية المغلقة الحاملة لبذور العنف «المقدس» وأنظمة الاستبداد والتخلف التي تحمي مصالح الغرب، وتستمد قوتها وديمومتها من المظلّة الغربية. فكانت تمارس ذات السياسات القائمة على النهب والإقصاء. وشكّل هذا المناخ البيئة المناسبة لنشوء الحركات الجهادية التكفيرية مثل «داعش» و«جبهة النصرة» وباقي المجموعات في سوريا والعراق واليمن وأفغانستان. فهذه الحركات بالأساس هي نتاج السياسيات الغربية وبعض الدول الخليجية، التي اشتغلت ولم تزل، على إعادة ترتيب وتوضيب المنطقة من منظور جديد. إذ أن الحركات السياسية أو النهوض السياسي في سياق مواجهة السلطات المأزومة، يمكن أن يفضي إلى تشكيل نظم سياسية ديمقراطية، وهذا بداهة سيعيد ترتيب العلاقة مع الغرب من منظور المصالح الشعبية، وعلى أساس استقلالية القرار الوطني. وهذا ما تعمل الحكومات الغربية على إفشاله. وما يجري في المنطقة هو إفشال لأي حراك سياسي يمكن أن يحمل ملامح بناء مشروع ديمقراطي وطني مستقل عن الغرب. وأكثر من ذلك فإنها أي الدول الغربية تعمل على توظيف ما يجري في المنطقة العربية لإدخالها في سياق صراعات مذهبية ودينية وعشائرية، يحكمها في المآل النهائي أمراء الحرب وزعماء المجموعات الجهادية. وبهذا تكون دول الغرب قد نجحت في إدخال شعوب المنطقة، في حروب تدمير الذات.
رابعاً: ميل الحكومة الإسرائيلية إلى إنشاء دولة يهودية. وهذا دفع ويدفع التيارات الجهادية لمواجهة هذه الميول بالرد بذات الطريقة والأسلوب. فالشرق الأوسط بأشكاله القائمة، وتحديداً بالنسبة للمجموعات الجهادية التكفيرية وزعماء الكيان الإسرائيلي، يجب أن ينتهي إلى زوال. فيما انكشاف تناقضات الواقع العربي البنيوية في اللحظة الراهنة. فإنه يمثّل تعبيراً عن المشروع الأميركي للشرق الأوسط. إذ لم تعد بلداننا المشرقية تشبه في واقعها الحاضر وآفاقها المستقبلية أياً من الأحقاب التاريخية. إذ أن عقيدتين أصوليتين، فازتا بتحقيق المستحيل: أصولية يهودية استئصالية تمارس إرهاباً منظماً محتضناً من غرب رأى في العقيدة الصهيونية عقدة خلاص من الإثم اليهودي في الغرب. وأصولية داعشية تعيش على ذات المنبع، طامعة بتحطيم شكل الدولة الحالية، وإقامة كيانها الخاص في قلب الدول العربية. ويستمد هذا المشروع قوته من كونه يحمل في أحشائه جنين العنف المقدس الحامل للتعصب والتكفير.
أما في ما يتعلق بنجاح أو فشل المشروع «الداعشي» المدعوم من بعض الجيوب السياسية والدينية والمذهبية الطائفية، فإنه يرتبط بالعوامل التالية:
أولاً: إقامة حكومة توافقية تشارك فيها أطياف الشعب العراقي ومكوناته كافة على قاعدة التمثيل السياسي. ويجب أن تكون المهمة الرئيسية للحكومة المقبلة: تجاوز التمييز الطائفي والعرقي، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وإعادة اللحمة الوطنية، وردم الهوة التي تفصل المواطن العراقي عن السلطة.
ثانياً: رفع الغطاء الإقليمي والدولي عن داعش وجيوبها والأطراف الداعمة لها، وعدم تحويل العراق إلى ساحة للصراعات الدولية والإقليمية. وهذا يستدعي دعم تأسيس جيش عراقي وطني، ورفض أي تدخل خارجي لتجنيب العراق أي احتلال جديد.
ثالثاً: تضافر الجهود الدولية والإقليمية لإجهاض مشروع الحركات الجهادية التكفيرية، وتطويقها في العراق وسوريا.
ولمزيد من الوضوح، فإن ما يجري في العراق تقوده فصائل عدة مسلحة: تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام «داعش» والمجلس العسكري للثوار وكتائب ثورة العشرين التابعة للشيخ حارث الضاري والحركة النقشبندية التي يتزعهما عزة الدوري، وأنصار السنّة والجيش الإسلامي. ويجري هذا بالتعاون مع أجهزة استخبارات سعودية وتركية. فالسعودية تقترب من لحظة الجنون القصوى. إذ أن بعض من أصحاب القرار الأمني والسياسي والعسكري يتصرفون على أساس أن الصراع الذي يجتاح المنطقة يمثل لها صراع وجود. هذا الفريق لا يتوقف عن البحث عن كل ما يعتقد أنه مُتعب للجبهة المقابلة. أما تركيا فإنها تحافظ على ذات المنطق الاستعلائي المتسم باللاعقلانية كمنصّة تتكئ عليها كل القوى المناوئة للحكم في العراق وسوريا وإيران. ومن الواضح وجود تشابه كبير بين ما يجري في العراق وسوريا، فالخلاف لا يعدو كونه خلافاً في مسميات الفصائل الجهادية. إذ أن المشروع الداعشي يشمل سوريا والعراق ويمكن أن يستطيل إلى الأردن والسعودية، وهذا طبعاً ما يبدو حتى الآن.
* باحث وكاتب سوري