لم تكن الأجواء تنقصها «كهربة» إضافية عندما التقى المستشار الألماني أولاف شولتز الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للمرة الأخيرة في موسكو منتصف شباط الماضي. كانت لغة جسد المستشار الألماني وتعابير وجهه تفصح عن أن الزعيمين قد يكونان توصلا إلى أي شيء إلا حدّاً أدنى من الاتفاق، وكان حاجبا الرئيس الروسي من جانبه يرتفعان تعجباً واستهجاناً وشفتاه ترسمان ابتسامة خفية كلما حاول الضيف الألماني تمرير عبارة أو فكرة تشرحان رؤية الغرب للأزمة الأوكرانية. أقل من عشرة أيام كانت تفصل العالم عما سيطلق عليه الروس اسم «العملية العسكرية الخاصة» وما سيطلق عليه الغرب اسم «الغزو الروسي لأوكرانيا» وما سيطلق عليه باقي سكان الكوكب اسم «الحرب العالمية الثالثة». في هذه اللحظة التاريخية، التي أمل البعض أن تحول دون وصول الأمور إلى مواجهة عسكرية في أوكرانيا، وقبل أقل من خمس دقائق من انتهاء المؤتمر الصحافي الذي استغرق قرابة خمسين دقيقة، أبت الأقدار إلا أن تُبرز ملمحاً خفياً لحوار الطرشان بين روسيا والغرب، حين حاول المستشار الألماني التخفيف من شأن الخلاف بشأن انضمام أوكرانيا إلى حلف «الناتو» مع جرعة غير موفقة من «خفة الدم» وبادر إلى القول دون أن يسأله أحد: «ثمة وضع غريب، فانضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو ليس مطروحاً حالياً على جدول الأعمال. كلنا يعلم أن هذه القضية لن تواجهنا مجدّداً في فترة تولّينا لمنصبَينا»، ليضيف بعدها وهو يلتفت إلى الرئيس الروسي مشيراً إليه: «لا أدري كم يعتزم الرئيس البقاء في منصبه، لدي انطباع في كل الأحوال بأن الفترة قد تكون أطول لكن لن تكون إلى الأبد». انتظر بوتين انتهاء ضيفه الألماني من بضع جملٍ عمومية أخرى، وعندما تسلّم الحديث مجدداً شكر الصحافيين ثم قال: انتهى المؤتمر الصحافي. أشار بعدها لشولتز مرتين كي يتبعه على مسافة أمان إلى باب الخروج دون أن ينتظره.
لم ينته المؤتمر الصحافي في تلك اللحظة فحسب، بل انتهت كل إمكانية للتقارب والتفاهم واللقاء. لم يكن انزعاج بوتين متأتياً من غياب عنصر «الأبدية» عن حكمه، ولا مما اعتبرته الصحف الألمانية غمزاً موفقاً للمستشار من قناة أسلوب تداول السلطة في روسيا الذي وضع بوتين في وجه الغرب ومواجهته كرئيس ورئيس للوزراء ومجدداً كرئيس منذ أكثر من عقدين، دون أن تظهر بوادر الختام. صحيح أن الروس لا يتسامحون مع التدخّل في شؤونهم الداخلية لكن الطامة هنا كانت أكبر: صدامٌ بدون إنذار بين منظومة حكم يمثلها بوتين تضع تحركات «الزعيم» ومسؤولياته واهتماماته في إطار تاريخي للأمة يكاد يبدأ في الأزل ولا ينتهي في الأبد، ومنظومة حكم يمثلها شولتز تضع «الموظف» بدرجة مستشار بتحركاته ومسؤلياته واهتماماته في إطار صلاحياته الإدارية التي تبدأ بتسلّم المنصب وتنتهي بتسليمه، وكفى الله الإداريين شرّ القتال. وليس المجال هنا لتقييم هذه أو تلك من المنظومات أو الرؤى بل لتبيان تباعدها. ولا أدل على هذا التباعد من عتب الروس على زعمائهم السابقين من السوفياتي ميخائيل غورباتشوف إلى بوريس يلتسين، لفشلهم في حماية وحدة البلاد ونظامها في حالة الأول، وفي الحفاظ على موقعها الدولي وكرامتها في حالة الأخير. كما لا أدل على ذلك على الجانب الألماني من خروج «مستشار الوحدة الألمانية» هيلموت كول من الحكم يجرجر فضيحة «تمويل انتخابي غير مشروع» لا أمجادَ تحقيق الوحدة، ومن ارتباط اسم «مستشار اللا لحرب العراق» غيرهارد شرودر بإجراءاته التقشفية بأكثر من ارتباطه بموقفه التاريخي من الحرب. بكلمات أخرى، اصطدم بوتين، من وجهة نظره في المؤتمر الصحافي المذكور، مع «الموظف الصغير» شولتز، واصطدم الأخير، من وجهة نظره، مع «قيصر من عهود مضت» اسمه بوتين.

لا تُقيّم رؤى ومنظومات الحكم علمياً وعملياً بطريقة يعجبني/لا يعجبني، بقدر ما تجب دراستها من جانبين: يتعلّق الأول بتماسكها نحو الداخل، بمعنى قدرتها على الحفاظ على خطها وانسجامها مع حواملها الاجتماعية والاقتصادية من منطلق التعبير عنها وعن حاجاتها وآمالها، ويتعلق الثاني بتماسكها نحو الخارج من منطلق تلاؤمها مع التطورات والتغييرات الخارجية وقدرتها على التعامل معها وتلقفها وصدّها إذا تطلّب الأمر. وتجب الإشارة هنا إلى أن الأمر لا يتعلّق بثنائية ديموقرطية/ لا ديموقراطية كما يحاول الغرب أن يوحي في إعلامه التجييشي ضد روسيا، وإنما بثنائية رأسمالية حداثية تقليدية - وإن بشكلها الروسي المتعثّر دوماً تاريخياً - من جهة، ورأسمالية ما بعد حداثية بشكلها المعولم والذي بات يُطلق عليه في دوائر مختلفة اسم «الليبيرالية الجديدة» - رغم ضعف علاقتها بالليبيرالية بمفهومها القديم - من جهة أخرى. تركّز الرأسمالية الأولى على وجود الهويات والانتماءات الوطنية والدينية وتميل للمحافظة (وهنا سرّ تقاربها مع أحزاب أقصى اليمين في دول أخرى)، كما تعارض ما تعتبره تعويم المفاهيم وجنون الاستهلاك وتسليع البشر (وهنا سرّ تلاقيها مع أحزاب أقصى اليسار في دول أخرى). بينما تركز الثانية على مفاهيم حقوق الإنسان - وإن بانتقائية - وتميل إلى الانفتاح (وخصومها يصفونه بالانفلاش) الاجتماعي مع دور متراجع باطّراد للدين، وانسحاب للدولة على المستوى الداخلي لصالح شركات ورؤوس أموال ونخب غامضة، وعلى المستوى الخارجي لصالح تجمعات ومنظمات ما فوق وطنية. علماً أن الصراع بين الرأسماليتين لا يكون بالضرورة فيما بين الدول وإنما داخلها أحياناً (ظاهرة دونالد ترامب في أميركا مثالاً). وبالعودة إلى الأزمة الأوكرانية فإن حقيقة أن الصراع بين روسيا والغرب ليس إيديولوجياً بالمعنى المطلق كما كان أيام الحرب الباردة لا تجعله أقل سخونة بل على العكس تماماً.

من هنا يمكن فهم ردّ الفعل العنيف والمنسق للعالم الغربي على العملية العسكرية الروسية والتي لم تُخف موسكو بأثر رجعي أنها تهدف إلى ما هو أبعد من أوكرانيا وصولاً إلى «إنهاء الهيمنة الأميركية» وخلق «عالم متعدد الأقطاب»، كما كرّر وزير الخارجية سيرغي لافروف مراراً في الآونة الأخيرة. كما لم تُخف واشنطن أن ردّها يهدف إلى «إضعاف روسيا»، حسبَ وزير دفاعها لويد أوستن في اجتماع لمسؤولي أكثر من ثلاثين دولة غربية في قاعدة رامشتاين الجوية الأميركية فوق الأراضي الألمانية نهاية الشهر الماضي. وكلا الهدفين - الأميركي والروسي - يصعب معهما على دول الديبلوماسية والوساطات كألمانيا (وهي أنموذج له أهميته وحساسيته التاريخية) الحفاظَ على تموضعها السابق. «إن تاريخ 24 شباط 2022 يمثل نقطة تحوّل في تاريخ قارتنا»، بهذه الكلمات الحاسمة المؤطرة للموقف بدأ أولاف شولتز كلمته في الجلسة الطارئة للبرلمان الألماني البوندستاغ بعد أقل من أسبوعين على لقائه الرئيس بوتين وثلاثة أيام على بدء العملية العسكرية الروسية، ثم أضاف: «بغزوه لأوكرانيا أطلق الرئيس الروسي بوتين بدم بارد شرارة حرب هجومية، لسبب وحيد هو أن حرية الأوكرانيين والأوكرانيات تمثل تهديداً لنظامه الظالم»، في إشارة لا تخفى إلى رؤية الغرب للحرب كصراع بين منظومات مختلفة لا بين دول وطنية. وبعد التأكيد على أن العالم بعدها لن يكون كالعالم قبلها تساءل المستشار الألماني: «هل نسمح لبوتين بإرجاع عقارب الساعة إلى عهد القوى الكبرى في القرن التاسع عشر أم أننا سنستجمع قوانا لوضع حد لمشعلي الحروب مثل بوتين؟»، وكل هذا تمهيداً للحديث عن الإجراءات المعتزمة كإرسال الأسلحة لأوكرانيا وفرض عقوبات اقتصادية غربية ضد روسيا ورفع ميزانية الجيش الألماني ودرجة تسليحه، وسط حالة من التصفيق والحماس الجماعي باستثناء نوّاب أقصى اليمين واليسار.

سقطت يومها كثير من التحليلات في فخّ الحديث عن عودة ألمانيا إلى صباها عسكرياً، وهو أمر مرفوض أوروبياً وأميركياً، ومحظور إيديولوجياً، ومستحيل عملياً، رغم لغة التهديد في الخطاب: «ستكون الحرب كارثة على روسيا»، ولغة القوة: «سندافع عن أوروبا»، ولغة الاتهام: «الخطر على الأمن في أوروبا يأتي من روسيا». لكنّ التحليلات نفسها كانت محقّة من حيث أن هذه اللغة لبرلين وتجاه موسكو تحديداً لا مثيل لها منذ الحرب العالمية الثانية التي انتهت بغرس العلم السوفياتي فوق قبة مبنى الرايخ التي كان شولتز يتحدث تحتها هي بالذات بعد حوالي 77 عاماً، وبعدما بات اسم المكان مبنى البوندستاغ. كانت تصريحات كهذه في زمن الحرب الباردة من صلاحيات الأخ الأكبر في واشنطن، واقتصر الأمر بعدها وفي زمن الوحدة الألمانية على انتقادات ألمانية منفردة وخجولة هنا أو هناك لموسكو، داخلياً فيما يتعلّق بالحريات، وخارجياً فيما يتعلّق بدورها في ساحات صراع كجورجيا وسوريا والقرم والدونباس وليبيا. لم يكن ليصل خيال أكثر المحللين شططاً إلى إمكانية حديث مستشار ألماني عن «صراع بين بوتين والعالم الحر»، ولا إلى مطالبته بزيادة الاستثمار العسكري الألماني «من أجل حماية حريتنا وديموقراطيتنا». لكن تعابير العالم الحر (من زمن الحرب الباردة) وحماية الحرية والديموقراطية (من زمن الصدام مع الإسلاميين الذين «يكرهون حريتنا») بالذات هي ما تكشف طبيعة المعركة الهجينة الجديدة والتموضع الألماني المستجد فيها، والذي ظهرت بوادره منذ كثُر الحديث عن ألمانيا ومستشارتها السابقة أنجيلا ميركل كمرساة للديموقراطية (بمعنى نقطة الارتكاز) عندما تعرضت السفينة الغربية لهزّة وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض كعدو داخلي لليبيرالية الجديدة والنخب القديمة بين عامي 2016 و2020.

لكن تحديد ماهية المعركة لا يعني حسم مآلاتها على مستوى المنظومة. ما يزال الوقت مبكراً لأي تقييمات جديّة بعد مضي أقل من ثلاثة شهور على تفجّر الأوضاع، لكن يمكن مبدئياً تسجيل نقاط كسبها الروس منذ الآن على حساب الطرف الآخر: إعلامياً اُضطرت دول الليبيرالية الجديدة إلى حظر الإعلام الروسي أنى تسنّى لها ذلك في الفضاء وعلى صفحات التواصل الاجتماعي، في إجراء لا يتناقض مع مبادئها المفترضة فحسب، بل يعكس أيضاً ضعف ثقتها بنفسها وبمواطنيها. اقتصادياً كانت المنظومة المذكورة وفيةً لمبادئها القائمة على فرض العقوبات، لكنها اكتشفت أنها تطلق النار على ركبتها لتتحول الاجتماعات على المستوى الأوروبي والوطني إلى ساحات للخلاف ولدراسة حجم الأضرار على فارض العقوبة لا على المفروضة عليه. خارجياً، تمكّنت موسكو من تحييد أطراف كانت تُحسب عضوياً على واشنطن، من منطقة الخليج عربياً إلى الهند وباكسستان ودول في أميركا الجنوبية، مع الحفاظ في الوقت نفسه على الحلفاء التقليديين. وداخلياً ارتفعت نسب تأييد العملية العسكرية الروسية وشعبية بوتين إلى أكثر من 80%، في حين لم تصل نسبة التأييد في دولة كألمانيا لمجرّد تسليح أوكرانيا إلى أكثر من 45% رغم التجييش الإعلامي غير المسبوق. وبينما كان الرئيس فلاديمير بوتين في موسكو ينظر بعين الرضى إلى التحاق حتى شيوعيي بلاده بتأييد «العملية العسكرية الخاصة» في احتفالات عيد العمال في الأول من هذا الشهر، كان المستشار أولاف شولتز، المعروف بهدوئه حدّ الاستفزاز، ينفجر غضباً في احتفالية اتحاد النقابات العمالية في مدينة دوسلدورف الألمانية، ويصرخ في وجه جموع تطلق الصافرات احتجاجاً وتردد شعار «تحقيق السلام لا يكون بالسلاح» وتتهمه بإشعال الحروب، قائلاً: «أنا أحترم كل أنواع السلمية وأيَّ موقف، لكن لابد أن وَقع ما يُقال هنا عن مواجهة العنف البوتيني بلا سلاح له طعم السخرية السوداء من وجهة نظر المواطن الأوكراني. هذه الأفكار تجاوزها الزمن».

* صحافي سوري مقيم في برلين