دخلت قبل عدة أعوام، من ضمن إجراءات اللجوء، أحد مراكز شرطة الهجرة في إحدى الدول الأوروبية. كنت بين مجموعة تضم سوريين، أغلبهم من الشمال السوري، عرباً وأكراداً، بالإضافة إلى أفغانيين. أجلسونا على مقاعد الانتظار، ثم أتت شرطية برفقة آخر. أخبرانا بأنهم سينادون على أسمائنا واحداً تلو الآخر، وإلى حينه نستطيع التوجّه إلى طاولة تبعد عنا عدة أمتار ونتناول الشاي أو القهوة. استغربت الشرطية أننا لم نقم مباشرة باتجاه الطاولة. كنا ننظر لبعضنا البعض بحَيرة ورهبة. غادرت الشرطية، فنطق أحد السوريين: لماذا أنتم خائفون؟ عادي، لن يحدث شيء، نحن لسنا في سوريا، أنا سأذهب لأصبّ بعض الشاي، هل يرافقني أحدكم؟ أراد أن يكون من يكسر حاجز الخوف بيننا ويظهر بأنه تتملّكه شجاعة أن يقوم بهذا العمل البسيط. حينها، كنت أفكّر؛ فالمسألة ليست مجرّد أن إجراءات اللجوء مهينة وتفقد المرء استقلاله، فيتمّ نقله وأمره بالوقوف والذهاب هنا أو هناك، بل لأننا كنا في مركز شرطة محاطين بأشخاص بزيّ الأمن، فالأمر له رهبة، ولنا علاقة مختلفة مع هذا المكان الذي يمثل السلطة وسطوتها. وإن كنت أدّعي أن لي نصيباً من هذا الخوف والرهبة مع مراكز السلطة خلال السنوات، إلا أني لن أجرؤ على أن أقارنها بالسوريين، لأسباب تتعلق باختلافات ولأسباب موضوعية عن البنية الأمنية في كل من السعودية وسوريا.
جدلية الشرعية: الحكم والعنف
تكمن المسألة في فهم آلية القمع وغايتها ودوافعها لأيّ سلطة وطبقة حاكمة. فحجم انفجار توحّش أيّ سلطة ومداه مرهونان بمدى إحساسها بالتهديد. ويرتبط هذا التهديد بمدى تخلخل شرعية الحكم، فكلما ضعفت شرعية الدولة وحكمها احتاجت إلى تعويض هذا الضعف بإبراز القوة وسطوة القمع. يمسي الترهيب والعنف هنا بديلين من تآكل الشرعية. أو حتى، وبمجرد اختلال صورتها وهيبتها، يطلّ التوحش برأسه في كل مرة. وحين الحديث عن بلداننا العربية فنحن نتكلم على مشاريع دول تعاني من عطب بنيوي في شرعيتها دونما استثناء، إلا أن نموذج كل دولة قُطرية يختلف عن غيره لأسباب ذاتية، أبرزها البنية الطبقية والوفرة المادية لتمتين شرعية الريع، والآخر يتعلق بالعلاقة مع الاستعمار الغربي كضامن خارجي لأمن هذه الدولة وسلطتها. لكن هذا، بدوره، لا ينفي أنه مع كل تهديد ستحدث المجازر؛ كأن تدخل سيارات مدنية متخفية بلباس البنجاب إلى إحدى القرى السعودية وتفتح الباب وتعدم شباناً وأطفالاً ميدانياً بجريرة معارضة السلطة، وبطبيعة الحال لن تتخذ هذه الجرائم صدى مثل غيرها لوجود هذا الضامن الخارجي الغربي، والأمر ذاته مع الإعدامات الجماعية ومقابرها أو انفجار التوحش على اليمن حين أمسى تهديداً للطبقة الحاكمة السعودية.
ضمن المنطلقات ذاتها، يتخذ القمع والتوحش في الدول التي يحكمها حزب البعث مدى وحجماً مختلفاً تماماً، والأمر لا يعود لأيديولوجيا البعث بذاتها، لا في سوريا ولا في العراق. ففي كلا النموذجين لا وجود لـ«البعث» كأيديولوجيا دولة، أي كرافد أيديولوجي لهوية وشرعية الحكم وقائداً للدولة والمجتمع. بل تحوّل «حزب البعث» إلى عنوان ورمزية لشبكات مصالح السلطة وأمنها، فترى الحزب، ذا العناوين القومية والاشتراكية، يتحوّل إلى ما سمّي بـ«الحملات الإيمانية» في العراق أو إلى رديف لوزارة الأوقاف في سوريا، في محاولة رديئة لاستغلال الدين لاستقاء شرعية ما.
اتخذ شكل شبكات مصالح الحالتين السورية والعراقية طابع العصبية العشائرية، رغم اختلاف اللون الطائفي في كل نموذج، والذي تم ويتم استغلاله انتهازياً للتقسيم الأهلي والهوياتي للمجتمع تحت مسمى معارضة النظام في البلدين، حيث يعود هذا الطابع إلى تكوين شبكة مصالح تضمن الولاء خصوصاً مع شبح تكرّر الانقلابات. وكما واجهت السلطة العراقية، فإن السلطة السورية، لعدم قدرتها الاقتصادية، لم تتمكن من توسيع دائرة شبكات الولاء عبر بناء شبكة علاقات زبائنية واسعة النطاق تشمل كتلة وافية من المجتمع. وفي الوقت ذاته، ظلت البورجوازية السورية وسلطتها مشاكسة في علاقتها مع الغرب، فلا هي تحولت إلى تابع تتقاطع مصالحه مع الغرب فيحرص على أمنها، ولا هي قامت بتنظيم المجتمع وبناء مؤسسات دولة تنتج شرعية وتحرص على صون لحمة المجتمع الطبقية والهوياتية. بل على العكس، عملت منذ بداية الألفية على تفكيك شبكة الأمان الاجتماعي والانقلاب على المشاريع الزراعية السابقة وتحرير الاقتصاد وسياسات الخصخصة التي باركها الغربيون، وهو ما فاقم الهوّة الطبقية والفجوة بين الريف والمدينة. ساهمت هذه السياسات في تمتين البورجوازيات التجارية لكل من الشام وحلب، وبينما كرّس هذا التناقض الطبقي من حجم الفساد في الدولة وعلاقة كبار التجار بالسلطة، فهو عزّز أزمة وفراغاً في شرعية الدولة وعلاقتها بالمواطنين بشكل لم يكن سوى القمع والترهيب بديلاً ليملأ هذا الفراغ.
القضية هنا أكثر تعقيداً، ففي سوريا وضع فريد متصل بأن البورجوازية السورية تتركّز في العاصمتين حلب ودمشق، بينما شبكات ولاء السلطة القائمة على العصبية العشائرية تعود لشبكات عوائل محددة لم تشكّل علاقتها مع الدولة ضمن المصلحة الطبقية بالشكل المتعارف عليه، بل كانت طبيعة علاقتها بالدولة وشرعية حماية الدولة بالنسبة إليها هي الطابع الأمني والعسكري والتعسف في استخدام فائض القوة والقمع للمؤسسات الأمنية و«التشبيح» واستخدام امتياز تملك السطوة الأمنية على باقي المواطنين، وهو أمر، لضخامة جغرافيا سلطة الدولة وتوسعها، لم يكن محصوراً فقط في إطار هوياتي محدد. من هنا نفهم ألفاظ كـ«نحن الدولة ولك!»، أو حتى قول مجرم مجزرة التضامن أنه «ابن المؤسسة»، فعلاقته بالدولة ليست امتيازاً طبقياً أو غرائزية هوياتية، بل إن سلطة الدولة توفّر له الحرّية في السطوة الأمنية والتوحش واستغلال ذلك للفساد وجني مكاسب مادية من سرقات و«تعفيش»، في ما هو حرفياً كالغابة. فمعيار القوى الاجتماعية وموازينها ترتسم عبر مقدار قوة الترهيب التي يمكنك تملّكها لتسيطر على أكبر قدر من المنافع والمكاسب. نتيجة لهذا الوضع، وضمن سياقات إقليمية وجيوسياسية، والمصالح الاستعمارية الغربية، وبالإضافة إلى عوامل بيئية، وصل المجتمع السوري إلى وضع أشبه بالحرب الأهلية مع وقف التنفيذ، إلى أن أتت انتفاضة 2011، ومن ثم الحرب، ليصل الانقسام العمودي والأهلي في المجتمع إلى وضع تفجّر فيه التوحش والغرائزية بشكل مهول. فالسلطة استشعرت انهيارها وكانت تحت تهديد جدي، وأمام سيل من الجهود العربية والغربية للقضاء عليها، فكشّرت عن أنيابها، كل ضمن مصالح، في ظل مجتمع سوري يعيش تناقضات داخلية جمة سرعان ما اشتعلت، ليصل العنف الأهلي إلى أسوأ مواصيله.

انفجار التوحش
لسيغموند فرويد مصطلح «نرجسية الفروق الطفيفة»، فحواه أن المجتمعات المتشابهة تتفاقم عداوتها لحساسيتها المفرطة من الفروق الطفيفة بينها. تتبّع الباحث الهولندي أنتون بلوك هذه الظاهرة في الصراعات الأهلية على مختلف القارات؛ ففي يوغسلافيا، قبل غزو «الناتو»، كان ما يجمع الصرب والكروات والجنوب سلافيين المسلمين من عوامل ثقافية متشابهة ومتجانسة أكثر مما يفرّقهم، وفي راوندا تتشارك قبيلتا التوتسي والهوتو الدين واللغة والعادات الثقافية بينما عمل الاستعمار البلجيكي على إشعال فروقاتهم الطفيفة وتناقضاتهم واستغلالهم ضد بعضهم البعض. كذلك ما بين الروس والأوكران اليوم، وقصّتنا كعرب ضمن مصفوفة تقسيمنا المديدة منذ أكثر من قرن.
الفكرة هي أن الانقسام الهوياتي والتقاتل لأيّ مجتمع عربي، ومنه السوري، لا يعود إلى اختلاف المجتمع عن بعضه البعض، بل لأنه مجتمع واحد، وتكمن أهمية هذه الفكرة في فهم الحرب السورية. فلطالما كانت الحروب الأهلية، وحجم العنف فيها، أكبر من غيرها، وحجم المجازر فيها أكبر، ويعود ذلك إلى فوضويتها، فخلافاً لغيرها من الحروب تضيع الغاية السياسية للقتل فيمسي القتل لذاته. بل تنتج الحرب أمراء وبنى اجتماعية واقتصادية تعتاش عليها وترى في انتهاء الحرب ضداً لمصالحها، حيث تنهار مؤسسات الدولة ويلقى المجتمع في العراء ليلتجئ إلى غرائزه وهوياته الأولية. وفي عالم الجنوب لا تكون هذه العملية مجردة ومستقلة، حيث وككل حالات الصراع الأهلي، من أندونيسيا إلى الكونغو، يكون رافد عملية العنف، من كبّ السلاح والمال وتكييف وسائل الإعلام للاستنفار الغرائزي للهويات الأولية، خاضعاً لهندسة المصالح الاستعمارية الغربية. وهنا لا تكون عمليات التماس العواطف بعد المجازر وتجييرها بريئة، بل تصب في خانة استمرارية العنف حيث يبرر التوحش الوجود لذاته، فكل توحش في هذه الحرب يتنكر بقناع أخلاقي مزيّف وإن كانت المظلومية والقضية محقة، بينما المحصلة النهائية هي ديمومة التوحش نفسه إلى ما لا نهاية.
فهم هذه الديناميكية المعقدة لانفجار العنف والتوحش، هو مما ندينه لشهداء المجزرة، وشهداء كل مجازر هذه الحرب؛ لماذا قتلوا، وكيف نحرص على أن لا يتكرر الأمر، والأهم كيف نقتصّ من قاتليهم أشخاصاً وبنى اجتماعية وسياسية. تنطلق هذه المسؤولية من فهم الحرب السورية كحرب أهلية لسنا أوّل الشعوب التي تعيشها، فكل ما تلا الكشف عن المشاهد يندرج ضمن إثبات ذلك؛ منها محاولات الإحالة الطائفية لدوافع المجزرة، فيما ينفيها معدّو تقرير الكشف عن الجريمة وباحثوه. الإحالة الطائفية هنا تهدف إلى تمتين الشقاق الهوياتي وهو من أبرز معالم أيّ صراع أهلي وعبره تتم إعادة إنتاج لدوامة الاقتتال. إلى عملية الترامي بالمجازر تحت عنوان: نعم هنالك مجزرة ولكن «ماذا عن؟» هذه المجازر، ويتم استحضار عشرات المجازر السابقة. أن يرمي مجتمع بعضه ببعض بمشاهد مجازر لهو صلب تعريف الاحتراب الأهلي. بل إن سردية «النظام الذي يقتل شعبه» هي دليل آخر على أن ما يحدث هو حرب أهلية، فما هو النظام في ظل الحرب سوى شرائح مجتمعية بأكملها وجزء من الشعب يقاتل جزءاً آخر؟!
إنّ أيّ مناورة إزاء الواقع بالقفز على الانقسام الأهلي السوري لهي في أقل تقدير تخلّ عن المسؤولية الأخلاقية، وسقوط في وحل العدمية عبر محاولة إعادة إنتاج وتحفيز أسباب الحرب ودواماتها واستنفار الغرائز من جديد. وهذا، للأسف، ما دأب عليه كثيرون بعد الكشف عن المجزرة عبر محاولة الاستغلال والانتهازية. لعله القدر الذي جعل هذه المجزرة تتكشف اليوم لكي لا تضيع في دوامة الموت لو ظهرت حين حدوثها، لتضعنا أمام واقع أن لا حرب أهلية أنتجت ما هو خير لشعب في كل التاريخ، فما هي إلا عملية تدمير ذاتية للمجتمع والدولة، وأن جذور توحش السلطة تراوح مكانها وفيها من يحاول تأهيل ذاته وكأن شيئاً لم يكن، وهنالك من يعتاش ولم يشبع من الدم فيحاول إعادة إحياء الصراع الأهلي بدعم غربي تحت عنوان إسقاط النظام و«جلب الحرية». إن الغاية في نهاية المطاف هي إعادة اللحمة الوطنية السورية، وإن تعلّمنا من أي انقسام أهلي في التاريخ فهذا لا يتم إلا عبر مصالحة وطنية شاملة، وعقد اجتماعي جديد، وقانون ينظم عملية القصاص من القتلة، ومن لديه غير ذلك فمهما تشدّق بخطاب الاستعطاف بالدماء كقناع تنكري لغرائز ومصالح فهو لم يحرص يوماً على سوريا أرضاً وإنساناً.

* كاتب عربي