دأب المستعمر في ابتكار النظريات والاستراتيجيات والتكتيكات، لضرب عمق العقل العربي بشكل خاص، والإسلامي وغيره من الشعوب المستهدفة بشكل عام، ليسرق ثروات هذه الشعوب وخيراتها وثقافتها وقوتها وكل ما يمت لها بصلة.إحدى هذه النظريات، والتي استوقفتني واستفاد منها الإمبرياليون، نظرية الحاجات لإبراهام ماسلو، والتي تقسمها وفق سلم يبدأ بالحاجات الفيزيولوجية، ويتدرج صعوداً إلى حاجات الأمان، فحاجات الانتماء، وبعدها التقدير والاحترام، وفي أعلى الهرم حاجات اثبات الذات. يقول ماسلو إن أولى الحاجات الضاغطة تبدأ من قاعدة الهرم، وهي الفيزيولوجية أو المادية الأساسية، كالمأكل والمشرب والمسكن وغيرها، ولا بد من إشباعها أولاً، لينتقل الفرد أو المجموعة لحاجات الأمان وما بعدها.
والخطورة الكامنة في هذه النظرية، والتي استفاد منها ميلتون فريدمان، منظر النيوليبرالية، أننا إذا ألهينا الشعوب بالحاجات الأساسية وحاجات الأمان، تضعف حاجات الانتماء وتقدير الذات وإثباتها، وهي الحاجات التي تؤسّس للانتماءات للإيديولوجية وتثبتها، وللأوطان، وتطلق عجلة الابداع والقوة، وهذا ما يظهر جلياً في الاستراتيجيات المتبعة.
ولأننا في أجواء يوم القدس، كان لزاماً أن نتطرّق إلى القضية الأم، من هذه الزاوية، حيث تعمل ماكينة الأميركي والإسرائيلي وفق استراتيجية الإلهاء، على ضرب الانتماء للقضية المركزية، فتُنسى تدريجياً تحت وطأة الضغوطات اليومية المتمثلة في الأزمات المعيشية والاختلالات الأمنية المنتشرة هنا وهناك.

ما دورنا حيال هذه الإشكالية؟
يعتبر كثيرون، وأنا أتفهّم اعتبارهم، أن الأزمات المعيشية والأمنية تشكّل أولوية إقصائية للأولويات الأخرى، وفي مقدّمتها قضية تحرير القدس وفلسطين، وهذا اعتبار خطير عمل لتحقيقه كبار المنظرين السياسيين والنفسيين والاجتماعيين وغيرهم، من منظومة الإمبراطورية. ومن جهتي أقول، ولست بالتأكيد من الذين يعيشون في الفضاء الخارجي وعالم المثل، إن هذه الأزمات لا يجب أن تثنينا عن البقاء وبقوة في دائرة الانتماء لقضية القدس، انطلاقاً من تكليفنا الإلهي والانساني، ولأسباب موضوعية أذكرها أدناه:
أولاً- إن تخلّينا عن قضيتنا الأم، سيقدّم خدمة عظيمة للمحتلين، ويخسرنا أهم نقطة قوة تجمع العالم المستضعف بشكل عام والإسلامي والعربي تحديداً.
ثانياً- إن بقاء تعلّقنا بقضيتنا لا يتنافى مع السعي لإيجاد حلول واقعية لأزماتنا المعيشية والأمنية، خصوصاً أننا ما زلنا في دائرة التنظير لمقاربة هذه الأزمات، ولم ننتقل إلى الفعل الجاد، ولو أن طرفاً أساسياً كحزب الله يسعى جاهداً في هذا المضمار، ولكن تبقى خطواته ناقصة في ظل تقاعس الآخرين.
ثالثاً- إن تحرير القدس وفلسطين سيحمل معه، حكماً، معالجات للأزمات البنيوية في دولنا، فالكيان الغاصب هو ثكنة متقدّمة في منطقتنا، عمل ويعمل على ضرب كل نقاط القوة والفرص التي يمكن أن تتشكّل في بلداننا.
رابعاً- إن التكليف الإلهي يفرض علينا السعي، ولو بأضعف الإيمان، لإبقاء جذوة القضايا المحقة مشتعلة في الضمائر، والتي ستترجم سلوكاً وأداء كلّما سنحت لها الفرصة، وما عمليات الأسود المنفردة، واستعدادات المقاومين وتضحياتهم، إلا تعبير عالٍ عن هذه الجذوة.
أيها الشرفاء، لا تقبلوا بأن يستغبيكم أحد، وينتزع منكم مواقف سريالية هشة، تخدم مصالحه، ولتبقى قضيتنا، قضية القدس، حيّة في كل يومياتنا وتفاصيلنا ومع خبزنا اليومي، وسترون ونرى أن الحق لا يضيع ووراءه مطالب ولو بعد حين.

* باحث سياسي