تعقيباً على مقالة الدكتورة صفية سعادة الوارد في صحيفة «الأخبار»، إشكاليات تعريف «الأمّة الإسلامية»، تاريخ 12 نيسان 2022، والتي نكنّ لها كل احترام، من حقها قراءة المشهد من خلفيتها العلمانية ونظرتها القومية للمسائل المختلفة. أمّا من جهة المصطلح والماهية، فإن «الأمّة» تعني الجماعة من الناس، أمّا «الإسلامية» فهي التزام الجماعة بهوية دينية كمنهج وطريقة حياة في كل تفاصليها ومواقعها. فالأمّة يقصد بها كل جماعة تلتقي في قاعدة معيّنة من الوحدة أياً كانت، لأن المصطلح الإسلامي في الأمّة هو الجماعة التي تنطلق من قاعدة تجمع أفرادها في اللغة والدين والعادات والثقافة.كانت ولا تزال الأمّة الإسلامية تحمل في طياتها بذور الحداثة والمدنية، لا بل أرادت هذه الأمّة أن تحرّر الإنسان فلا يعود للانتماء إلى دين، سواء كان الإسلام أو المسيحية، هذه القيمة الكبيرة، مقابل ما تتحلى به الجماعة من وعي وتنوّر يشكّلان طاقة دافعة باتجاه استحداث النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي توحّد الجميع بلا فوراق وتمييز وتعمل على حماية المصالح المتكاملة العميقة لكل الجماعات القومية والدينية على اختلافها، فتكون المصالح الواحدة في حفظ الإنسان ومصيره وحقوقه وكرامته وأمنه وعيشه أساسَ النظرة والعمل.
من النظرة والعمل تتكوّن الحداثة التي تعنى بتجديد مفردات الفكر وأساليب العمل والتنظيم بشكل يواكب العصرنة. ونعتقد أن كل فكر ديني أو غير ديني يتميّز بمرونة ما قادرٌ على التكيّف مع التحديث بحسب انطلاقاته وغاياته وخلفياته. مشكلتنا في التعقّد من المصطلحات الدينية وأن المطلوب منها حصراً أن تبقى رهينة أماكن العبادة من دون ملامسة هموم الحياة ومشاكلها، وهنا تقع القطيعة والغربة عن فهم المقصود الحقيقي من أن تكون مسلماً أو مسيحياً ملتزماً بالمسؤولية تجاه قضايا الواقع.
للأسف حبس المسلمون والمسيحيون أنفسهم في سجون عصبياتهم وتوجهاتهم من دون أن يطلقوا الإسلام أو المسيحية في الفضاء العام كمتنفس يتجاوز بإمكاناته وطاقاته حدود الأحزاب والأشخاص، ناهيك عن أن الأمّة تحوّلت إلى أمّة أشخاص لا مؤسسات، فيما المطلوب أن يرتفع المسلمون، كما المسيحيون، إلى مستوى المسؤولية الكبرى عن الناس والحياة، وأن ينظروا إلى تحدّيات الواقع بحكمة وألا يعيشوا على أطلال الماضي.
قيمة أية أمّة بين الأمم، مهما بلغت، تكمن في طبيعة مبادئها وغاياتها وإسهاماتها في حياة الناس وحسن تدبيرهم ورعايتهم وحفظ أوضاعهم وعلاقاتهم على قاعدة العدل. حتى إن معنى الدّولة، نستوحيه من خلال الوحي: «لقد أرسلنا رُسُلَنا بالبيّناتِ وأنزلنا معهُمُ الكتابَ والميزانَ ليقومَ الناسُ بالقِسْط» (الحديد: 25)؛ وهي تبيّن أنَّ كلّ الرسالات، وكلَّ الكتب المقدَّسة، أنّ هذه كلّها قد شَرّعها الله من أجل إقامة العدل لا غير، وليس من أجل التنازع والتخاصم والاستعلاء والعنصرية.
أوّلاً: ليس دقيقاً التعبير أن الإسلام رسالة روحية لا علاقة لها بمسار الدولة الحديثة أو مصير شعب معيّن وكأنه غريب عن العالم، بل إذا تأمّلنا في تشريعاته وقوانينه وما تحمل فهي غير معقّدة وفيها الكثير من وجوه المدنية، أو الصفة المدنية، حيث تكمن المشكلة الحقيقة في أن الملتزم بدين ومنه الإسلام يرى أن الوحي يمثّل حقيقة مطلقة وفي الوقت ذاته يريد خلق مساحة من التعاون والانسجام مع البيئة التي يعيش فيها. وهذه البيئة، المتشابكة طائفياً ومذهبياً التي رسم حدودها الاستعمار ومصالحه، جعل من جغرافيتها أرضاً مشتعلة غير ثابتة ولا واضحة المعالم، من القديم إلى الآن، إلا في بلدان مستقرة نوعاً ما لها حدود جغرافية واضحة. ولا يمكن إذ ذاك إخراج الأمّة من التاريخ بشكل كامل على حد تعبير الباحثة سعادة لأن المسألة لا يمكن فهمها على إطلاقيتها بعيداً عن فهم طبيعة كل بيئة تواجد فيها مسلمون كانت تحكمها جملة من الظروف والمعطيات الواقعية التي أخّرت قيام وحدة حقيقية جامعة على غرار قيام كيانات كالصين أو أميركا. فإننا لنا الحق أن نفكر في كيان إسلامي على شكل الهند أو الصين، أو كيانات على مستوى أميركا مثلاً، أو ما يمكن أن يحدث من الوحدة الأوروبية.
لكن في عالم التطبيق غير ممكن، فلا ظروف موضوعية لذلك، أقلّه على صعيد التجربة اللبنانية المعقدة. هذه الظروف المتشابكة محلياً والمفتوحة على لحظات وأوضاع دولية متفجرة ومتقلبة سلبت الاعتراف بهكذا كيان إسلامي وأجهضت إمكانية قيامه سياسياً وعملت على تقسيم المقسّم بغية قتل أية محاولة، سواء كانت هويتها قومية أو إسلامية دينية، من أجل تثبيت الهوية ولاحقاً تثبيت الحدود الجغرافية وإظهارها كما يجب، حيث تم التلاعب بهذه الحدود عبر اتفاقيات بين دول كبرى ضمنت مصالحها إلى اليوم، ومن يخرج عن الطاعة فمصيره سيف العقوبات والترهيب والعزلة.
ثانياً: لا مشكلة في أية صيغة تعايشية إنسانية مدنية تؤسس لدولة عدل مفقود مهما كانت تسمية هذه الدولة تجمع بين الكل على اختلافهم الديني والعرقي والقومي. هذا من حيث المبدأ، لكن الصعوبة تكمن في تفاصيل فصل الدين عن إدارة الدولة، ونحن في شرقنا نقتات على الترسبات والعصبيات والتراكمات، من دينية وإثنية وقومية وغيرها، تقف عند حدودها وتهتز الهوية وتُساس في كل آن داخلياً وخارجياً.
حتى إن المستعمر الجديد وجد في الدين لقمة طرية يبث فيها سمومه ليقلِّب الإخوة على بعضهم البعض وينخر عظام أية محاولة للتقارب والانسجام وكي يعطل الفرصة في وحدة منتجة تتعالى فوق حدود الهويات والانتماءات. مع ذلك، فليست النظرة سوداوية تماماً، فحتى المسلمون يرتبطون وطنياً في نظام تعاقدي مع جماعات أخرى وارتضوا ذلك لأنفسهم بغض النظر عن مشاكل هذا النظام وفجواته وتخلفه. اليوم، كما الأمس، مقابل ارتباطهم الوطني، الّذي ينطلق من التزام الإنسان بحرّية وطنه أمام الذين يريدون أن يفرضوا عليه سلطتهم، وأن يصادروا ثرواته ويعبثوا بأمنه، ويحتلوا أرضه، شاركَ المسلمون وغيرهم في مقاومة المحتل والمستعمر ودفعوا التضحيات الهائلة. وليس أدل من ذلك في عدم التعارض بين الارتباط بالوطن، كموقع من المواقع التي يعيش فيها المسلمون، وبين الالتزام بإسلامهم.
وعلينا ألا ننسى أنّ الوطن أرض الإنسان التي يعيش فيها، ومن الطبيعي أن ترتبط حريّة هذه الأرض بحرّيته. وفي هذا المجال، هناك كلمة مرويّة عن الإمام عليّ: «ليس بلد أولى بك من بلد، خير البلاد ما حملك». فالقضيّة الأساس في أنسنة الوطن؛ في تحقيق العدالة والمساواة التي بحث ويبحث عنها المسلمون كما المسيحيون الخلص منذ القديم ولم يعثروا عليهما، فلا قيمة لوطن يبتعد عن أن يؤنسن للإنسان شخصيَّته وحريّته، فعند ذلك لا يكون بمستوى القيمة التي يمثّلها الإنسان من حريّة وكرامة.
ثالثاً: صحيح ما تفضلت به الباحثة من تبادل الأدوار بين الإسلام والمسيحية في أحقاب تاريخية معينة، مع ملاحظة قيام نهضة غربية مادية، لكن يبقى التراجع على مستوى الأخلاقيات العامة والفردية في التحرّر من كثير من الموانع التي أصابت الإنسانية وأساءت إلى كرامتها. أمّا المؤسسات الإسلامية في العالم العربي، التي تبنّت النظرة المسيحية القروسطية الرافضة للعلم والمعرفة خارج النص الديني، وأرجعت مجمل الويلات التي أصابتنا إلى عدم التزامنا بالدين الإسلامي، فلا بد من معالجة جذور تكوّن نظرتها وممارساتها الخاطئة التي لا يمكن تحميل الدين تبعاتها لأن الفهم الديني المنحرف ليس ديناً. بينما المطلوب توحيد الجهود والمقاربات من أجل تنقية الوجدان الديني العام لجعله أكثر ملامسة مع الحياة وتحدّياتها.
إنّ القومية التي لا تؤمن بحدود سوى الإنسان، والأديان التي نزلت من أجل الإنسان، كلها اليوم في مرمى مؤامرات ومكائد حفنة من أزلام المال والفكر الملوث على مستوى الدول الكبرى التي تؤمن أن مصالحها هي الأولى من كل شيء حتى ولو داست على القوميات والأديان وحتى لو أباحت لنفسها قتل الناس ومصادرة كرامتهم، والأمثلة الحسية في الاستثمار في الفوضى كثيرة وماثلة للعيان اليوم.
مأساة الأمّة الإسلامية في تآمر حكامها وأبنائها من خلال اسستلامهم للجهل والتخلف والعصبيات، وأيضاً في تآمر سياسة الدول المستكبرة التي تعمل ليل نهار على سلب الأمّة كل مقدراتها وتسليع إنسانها وتهميشه وإغراقها في مسلسلات التبعية والاستهلاك وضرب كل فرص الحلم بوحدتها وتحت أي مسمّى وعلى الصعد كافة.

* أكاديمي وحوزوي