«يعكّرون المياه لجعلها تبدو عميقة» (فريدريك نيتشه)يُمكن اختصار كامل المشهد السياسي في لبنان اليوم بالضجيج. ضجيج سببه صخب الحروب على النتائج وصليل سيوف الشكليّات وهي تتضارب. لطالما كان الهوَس بالنتائج من السمات اليمينية داخل المجتمعات. «هذا أسود يريد أن يأخذ حقوقي! هذا مهاجر يريد أن يسرق عملي! هذه امرأة تريد أن تنتقص من مكانتي!». سرعان ما أتى كارل ماركس ليبرز السبب وراء هذه النتائج. كشف ماركس زيف الادّعاءات التي يستغلّها الرأسماليون (والإمبريالية) لتبخيس قيمة العمل أو تضخيمها (زوراً) من أجل سلّم التحفيزات الذي يخدم جشعهم أوّلاً وآخراً. لكن، ورغم كتابات ماركس الغزيرة، صعب على العقل اليمينيّ المتحجّر أن يتغيّر بالسلاسة المتوقّعة، ولو كان من طبقة الكادحين. لا بل أصبحنا اليوم أمام كوكبة من اليساريّين الليبراليّين «الشجعان» الذين «دخلوا على الخطّ» من حيث هوَسهم بالنتائج. قد يختلف هؤلاء بقالبهم الخارجي عن اليمين التقليدي، فهُم على عكسه «إدجي» و«كول». ولكن جوهريّاً، إذا حفرنا قليلاً تحت القشرة المتلوّنة اكتشفنا اللبّ اليمينيّ نفسه. تماماً مثل كوكب الأرض بقطبَيه المتعاكسَين: شماليّ وجنوبيّ، إن انطلقنا بالحفر منهما سنصل في النهاية إلى النواة ذاتها.
مستلزمات هوس اليمين التقليدي بالنتائج يمكن اختصارها بثلاثية الديماغوجية والخصخصة و«الغاية تبرّر الوسيلة». لكن مع الليبرالي الـ«إدجي» والـ«كول» تلوّنت تلك الثلاثية لتصبح: الديماغوجية السفسطائية، والعمل السياسي التسويقي، و«الوسيلة تقرّر الغاية». الديماغوجية السفسطائية تأتي رمادية، فالرمادية تمثّل مختلف الألوان التي يريد المتلوّنون استقطابها. أمّا العمل السياسي التسويقي فيعني إبحار عالم السياسة بقوارب عالم التسويق، وذلك نابع من الاعتقاد اليمينيّ الرأسماليّ نفسه بأنّ الدولة «بيزنس» يجب خصخصة أصولها. فعند إعلان لوائح «تحالف وطني» للانتخابات المقبلة، بشّرتنا إحدى المرشّحات بأنّ «الدولة شركة»، إذ ‏يظنّ «المؤنجَزون» أنه يمكنهم بكلّ سهولة تطبيق استراتيجيات الإعلان والتسويق على السياسة ودخول المعترك الانتخابيّ على هذا الأساس.
لم ينجحوا سابقاً ولن ينجحوا اليوم لسبب بسيط: فاتهُم أنّ أحد عوامل نجاح أيّ استراتيجية تسويق هو جودة المنتج. ما يعرضونه ليس سوى منتج رديء أميركيّ الصنع لن «يشتريه» أحد. أمّا النظرية المستحدثة «الوسيلة تقرّر الغاية» فما هي إلّا تلوين للنظريّة المكيافيلية التي «عفا عليها الزمن» بالأسود والأبيض. بالنسبة إلى اليمين الغاية تبرّر الوسيلة، وما الحروب النازية والفاشية والصهيونية والشيطانية (نسبة إلى تبرير «بحطّ إيدي بإيد الشيطان») إلّا خير دليل على ذلك. لكنّ النظرية المستحدثة متطوّرة. إن اندلعت «ثورة تشرينية» فهي وسيلة تقرّر غايتك بـ«الثوَران». وإن وصل التمويل الغربيّ فهو وسيلة تقرّر غايتك بأجندة سوروس وفورد. وإن وضعْت مرشّحة على رأس لائحتك، فهي الوسيلة التي تقرّر غايتك باختيار مرشّحين «يعقوبيانيين». وإن شكّلَت أصوات ميشال معوّض ونعمة افرام والجماعة الإسلامية رافعة لك فهي وسيلة تقرّر غايتك بالعودة من «الثورة» إلى «كنف» الدولة العميقة، حتى ولو كنت سخرْت من «الباسيليين» لتحالفهم في انتخابات 2018 مع حلفائك الجدد أنفسهم. أي أنّ إمكانات «المؤنجَزين» تحدّد أولويّاتهم، لا العكس.
الهوس بالنتائج يتجسّد بالعمل السياسي اللبناني «النخبوي» بشقّيه «السلطوي» و«التغييري»، أي بدلاً من علاج الأسباب، غالباً ما يكون الاتجاه نحو معالجة النتيجة. بدلاً من التخطيط، يكون الترقيع. بدلاً من معالجة السبب، وهو النموذج الاقتصادي النيوليبرالي الاحتكاري الريعي الكومبرادوري، تُعالج النتيجة عبر الخضوع لإملاءات الخارج الاستعماري و«الدعم» والاستدانة و«المساعدة الاجتماعية» وغيرها. بدلاً من معالجة معضلة عدم قدرة الدولة على الدفاع عن مواطنيها، يراد معالجة وجود سلاح بديل مقاوم. بدلاً من معالجة غياب قانون انتخابيّ عادل، كان إلحاح على انتخابات مبكّرة. بدلاً من بناء دولة ديموقراطية علمانية قويّة، يطلّ طرح الفيدرالية برأسه. بدلاً من دعم أحزاب وطنية قوية، تُخلق «NGOs» مموّلة خارجياً لتضاهي الأحزاب الطائفية وتنافسها بالزبائنية والانتهازية وتدمير المجتمع... وهكذا دواليك.
اليوم في لبنان، مَن لديه غاية وسيلته مدمِّرة «مبرَّرة»، ومن لديه وسيلة لا يملك غاية سوى ما تقرّره الوسيلة. وطالما أنّ الغاية والوسيلة لا تتعلّقان بمصلحة البلاد والعباد، لا طائل من انتخابات نخبويّة لن تأتي بأيّ جديد. وطالما أنّ دور الإمبراطورية في بلدنا لم ينحسر بعد، لا طائل من إقناع الناس بمعارك وجودية ولا بتغيير عتيد. أيّ كلام غير ذلك لا معنى له و«روحوا بلّطوا البحر»، طالما أنّ شغلتكم «تبلّطوا البحر» و«تشجّروا كلّ الكورنيش». حسناً فعل نجاح واكيم عندما أعلن عزوفه عن الترشّح للانتخابات، معلّلاً ذلك بالأسباب لا بالنتيجة كما فعل «هونيك ناس» (سعد الحريري وغيره). لقد انتهى عمر النظام القائم مهما حاول «السلطويون» و«التغييريون» الترقيع. حان الوقت لأشخاص يردّون على «عم تحكي مع وزيرة خارجية أميركا، بتعرف شو معناتا؟» بـ«معناتا صارت 4 الصبح هون وأنا بدّي نام». حان الوقت لثلاثية جديدة من صنف الصدق، والاكتفاء الذاتي (السيادي، والسيادة هنا بمعناها الحقيقي لا الديماغوجي)، وديكتاتورية البروليتاريا.
* باحث لبناني