* العنوان مقتبس من نصٍّ للشهيد غسان كنفاني يعرّج فيه على تضحيات الرعيل الأوّل من المنتسبين إلى «حركة القوميين العرب»، الذين استشهدوا في المعارك أو في السجون
«إنّ بعض القضايا تخرج تماماً عن نطاقها المحدود ونطاقها الوطني والقومي فلا تعود إطلاقاً قضية شخصٍ معيّن أو عائلة معيّنة أو شعبٍ معيّن، بل تُصبح بالفعل قضية كلّ إنسان وكلّ حرّ وكلّ ذي ضمير» (غسان كنفاني)
طوال سنوات حربها علينا، سعت إسرائيل في تعليب الإنسان الفلسطيني في خانة «المتوقّع»، وذلك بهدف إحكام السيطرة على مساره في الحرب. وفي سبيل ذلك، دفعت إسرائيل وأربابها مئات ملايين الدولارات التي صُرفَت على مراكز الأبحاث وعلى مختلف وسائل الدعاية والإعلام التي شكّلت حقولاً تجريبية وتطبيقية لسياسة كيّ الوعي.
لكنّ جميع محاولات إسرائيل وحلفائها كانت دوماً ترتطم بعاملٍ مجهول يُفقِد المعادلة الصهيونية تفوّقها ودقّتها في توقّع الرد الفلسطيني، وهو عامل «الفدائي». ففي كلّ مراحل الحرب مع الصهاينة، كانت فئة من الشجعان الصادقين تتقدّم الصفوف لتردّ عن الجموع خطراً داهماً أو لتدفع الجموع نحو طريق الخلاص. ولطالما كُنّيت هذه الفئة بالفداء، لما تحمله الكنية من معاني الإيثار وكرم النفس والمروءة التي تتجلّى بأشكالها الأمثل في المراحل الأصعب. ففي ثورة 1936، شكّلت مجموعة الشيخ عز الدين القسّام نواة العمل الفدائي، ليس لأنّها حملت السلاح ضدّ المستعمِر فحسب، بل لأنّها اعتمدت العمل الميداني السرّي والتخطيط الاستراتيجي في زمن تنافست فيه أغلب القيادات الفلسطينية والعربية على الظهور والقتال بالأساليب التقليدية. وقد تمكّنت المجموعة من تقديم نموذج جديد في العمل المسلّح القائم على تنظيم صلب متجذّر في المجتمع، لا يُدرَك أثره إلا بفعله، وهو النموذج المُحتذى اليوم في مقاومتنا العربية.
أمّا في ستينيات القرن الماضي، فقد خرج الفدائيون مجدّداً لينتشلوا الشعب الفلسطيني من فخّ الإغراق في المحيط العربي من جهة، ومن اضطهاد الأنظمة المرتبطة بالمستعمِر في المنطقة. فكانت انطلاقة الثورة الفلسطينية المُعاصِرة، والتي لم تكن لتثبت وتستمرّ إلا على أكتاف الفدائيين الذين صمدوا وقدّموا أعظم التضحيات، رغم تخاذل القيادة المتنفّذة. في هذا السياق أيضاً، نستذكر تضحيات الفدائيين في الأردن ولبنان، سواء في الانتصارات أو في مقاومة الهزيمة، ونستعيد ذكرى الفدائيين المنسيين الذين ضحّوا بأرواحهم ومستقبلهم وحتى بحقّهم على الأجيال القادمة بأن يُعرَفوا ويُشكَروا. هنا مجدّداً، شكّل الفداء وتداً اتكّأت عليه الجموع خلال مفترقٍ صعب في تاريخ القضية العربية.
وصولاً إلى مرحلة التسعينيات وما حملته من مشاريع إبادة سياسية للقضية العربية في فلسطين، ليخرج إثرها جيلٌ جديدٌ من الفدائيين الاستشهاديين الذين حطّموا بعمليّاتهم النوعية قاطرة المشروع الاستسلامي المتشكّل في أوسلو. فكان يحيى عياش وفتحي الشقاقي وأبو علي مصطفى، ومعهم قوافل من الشهداء الذين ساهموا في إشعال الانتفاضتين ومهّدوا الدرب لصعود وتطوّر المقاومة الفلسطينية إلى مرحلة توازن الرعب التي نشهدها اليوم. في تلك المرحلة، كان تثبيت الإيمان بجدوى المقاومة نصراً يوازي أي انتصارٍ عسكريٍّ في الميدان، ما جعل «الفداء»، مرّة جديدة، رافعةً للجموع وشعلةً في ظلام الهزيمة.
ما يقدّمه الفدائي الفلسطيني الجديد هو حلقةٌ جديدة في سلسلة الفداء المستمرّة


وها نحن اليوم نشهد توالي موجات الفدائيين من أبناء الجيل الجديد في فلسطين، والذين يثبّتون بفعلهم الثوري أواصر التاريخ في مواجهة العدوّ. وفي هذا التشبيك بين الحاضر والماضي وعيٌ صريح لحقيقة الحرب المفروضة علينا وإدراكٌ للأدوات الأنجع لتحقيق مرادنا. وهو بحدّ ذاته إعلان فشلٍ لكلّ مخطّطات العدو الإعلامية والدعائية على مدار عقود لإعادة تشكيل الإنسان الفلسطيني ولحرف بوصلة العنف في مجتمعاتنا العربية. من ضياء حمارشة إلى رعد حازم، وصولاً إلى الفدائيّ القادم غداً، تجد إسرائيل نفسها أمام معضلةٍ قديمة لكنّ آثارها تمسّ المستقبل. فالعمليّات الفدائية الأخيرة تتميّز بكونها خروقاً أمنية جريئة، ظنّت إسرائيل أنّها في حمى منها في ظلّ قبضتها الأمنية وتكنولوجيا الأمن الاستباقي وشبكة عملائها الرسميين وغير الرسميين في فلسطين. كما أنّ أبطال العمليات شبّانٌ من الضفة الغربية أو من قرى الداخل المحتلّ، ظنّت إسرائيل أيضاً أنّها تسبقهم إلى إدراك نواياهم، أو أنّها استطاعت، عبر عقودٍ من عمليّة غسل الأدمغة وحرف البوصلة، أن تحيّدهم عنها فتقتصر خطرهم. لكن ثبت بالدليل القاطع أنّ إسرائيل عاجزةٌ عن التوقّع ــــ وبالتالي السيطرة ــــ من ناحية أساليب العمل الفدائي وأبطاله، ومجرّد انكسار هذا التفوّق يجعل الكيان بأكمله في حالة تأهّبٍ تام أمام ضبابية المشهد.
والأهمّ من ذلك هو أنّ النشاط الفدائي المتجدّد يحمل أبعاداً أخطر على إسرائيل. من جهة، فإنّ العمليات الفدائية اليوم تكمّل حلقة التأثر والتأثير مع واقع المقاومة العربية القائم في المنطقة. فصمود المقاومة العربية وتطوّرها في إيذاء العدو، رغم الحصار، مثّل الرافعة النفسية التي نزعت الهزيمة من نفوس الشباب العربي والفلسطيني لتزرع مكانها إيمانٌ عمليّ بجدوى الفعل المقاوم. في المقابل، فإنّ العمليات الفدائية نفسها تتحوّل بوقوعها إلى «مؤثّر» في عملية قلب موازين القوى. إذ إنّه في ظلّ صمود قوى المقاومة ضمن بيئة شعبية حاضنة وثابتة، يفقد العدوّ ميزة حصار العمل الفردي، كما يفقد قدرته على ضرب «بنوك أهداف» واضحة ومؤثرة يحقق من خلالها انتصارات ميدانية تعوّض اهتزاز أمنه المؤقّت. فسياسة التصعيد والانتقام الجماعي تفقد أثرها حين يملك الضحية سيفاً أشدّ إيلاماً للجلّاد، وسياسة تغريب العمل المقاوم تتآكل حين يقع العمل الفدائي ويفشل العدوّ في كبح آثاره، كما نرى اليوم في صمود والد الشهيد رعد حازم داخل مخيم جنين وغليان الساحة في الضفة الغربية والداخل.
ما يقدّمه الفدائي الفلسطيني الجديد هو حلقةٌ جديدة في سلسلة الفداء المستمرّة، وهي تضحيات تتّسم بشجاعةٍ قلّ نظيرها في التاريخ. فشجاعة الفدائيّ قوامها اختيار الخلاص الجماعي حين تسود أوهام الخلاص الفردي، وإيثار الفدائيّ يكمن في اختياره المواجهة حين يسهل الاستسلام. وكما كانت مراحل الفداء السابقة عناوين صمودٍ أمام الانكسار وتثبيتٍ لرايات المواجهة، فإنّ فدائيي اليوم يخطّون بدمائهم مطلع مرحلةٍ جديدة في مسارنا التحرّري، ولا نبالغ حين نقول إنّها مرحلةٌ يتشقّق من أفقها فجر التحرير القادم.
لذلك، فإنّ واجبنا اليوم أن نعي حجم مسؤولياتنا تجاه الفدائيين الذين يموتون من أجلنا. لأجلهم ولأجل تضحياتهم، واجبنا أن نرفع سقف مواجهتنا للعدوّ وأدواته في كلّ الميادين، وأن نشذّب أنفسنا من وهم الخلاص الفردي، لنستعيض عنه بإيمانٍ متجذّر بالخلاص الجماعي سبيلاً وحيداً للحرية، مهما بلغت التضحيات.
كما البداية، فالختام بدوره مع غسّان كنفاني في وصفه أبعاد الفداء: «إنّ معنى واحداً نستطيع أن نفهمه من ذلك كلّه: هو أنّ هنالك من يقوم بواجبه في معركة الأمّة، وأنّ الأمّة سوف تنتصر، وسوف تسحق النعال الصاعدة للشمس كلّ رأس وضيع يعترض الطريق».

* كاتب فلسطيني