نكنّ للباحثة المثقفة الدكتورة صفية سعادة كل تقدير واحترام، وددنا فقط إيراد بعض الملاحظات، من باب إتمام الفائدة وتوضيح الصورة أكثر، على مقالتها المنشورة في صحيفة «الأخبار»: «المواطنة وامتيازات الطائفيّة: يوم أُجهض الزواج المدني الاختياري» تاريخ 31 آذار 2022.صحيحٌ أن التبادل المصلحي بين الطوائف هو الذي حدّد شكل الدولة التي دُفع بها داخلياً وخارجياً إلى تنظيم هذا التبادل ورعايته. حتى اتفاق الطائف عام 1989، كان عبارة عن إعادة تنظيم الدستور للوضعية الطائفية وتثبيت مصالحها بعد ما يسمّى بالحرب الأهلية، ولكن بلبوس الإصلاح، بينما جذور التفجير بقيت حاضرة عند كل مفصل وجزئية سياسية وإدارية. إذ تكرس النظام الطائفي الفاسد وأفرز حيتان المال والاحتكار والتحكم بالقرار السياسي وبالمصائر.
الهيمنة، لو وجدت، تعدّ علامة سيئة بحق من يرتضون تلك الهيمنة في أي مجال من مجالات الحياة، وتعكس ضعفاً في المساءلة والنقد والملاحظة. هذه الشروط التي ينبغي توافرها عند القاعدة الشعبية، فضلاً عن رجالاتها المقدمين. لا ينبغي أن تترك الهيمنة، لو وجدت، بل تواجه بكل جدية، وما دام مسح الوعي كما الذاكرة من كل قيمة متجذرة، فمسلسل خدمة الجهل المتبادلة مستمر، ولن يتوقف، كما الاستثمار في الفقر والتخلف لمصلحة هيمنات تبرز خوفاً وضعفاً في نفوس شرقية تتشابك فيها المصالح والخلفيات إلى حدّ بعيد تعجز معه أحياناً عن القراءة وفكفكة شرنقاتها.
ليست قصة مزاج هي نبذ الزواج المدني ـــــ وهنا لست في مقام الدفاع عن رجال دين وامتيازات طوائف ـــــ ولكن بأبسط قواعد المنهجية طبيعيٌّ أن ينطلق من يعتبر نفسه مؤمناً بدين أو ناطقاً باسمه من خلفيته الدينية في مقاربته لأيّ موضوع، باعتبار أنه يرى الأمور وفق الرؤية الدينية التي يؤمن بها لقضايا الحياة والإنسان، على الرغم من استغلال البعض عبر الزمن، وهذا ليس بجديد، للمناصب هنا وهناك. فمن يملك السلطة والمال والنفوذ، مهما كانت تسمياتها، يبحث عن تثبيت هذه السطوة ويخاف عليها، لأن الشخصنة وحب التملك مغروسان في وجدان الفرد والجماعة. فضلاً عن التنافي الملتصق بين أن تكون ملتزماً بدين وأن تعمل جماعته بخلاف موجباته. وبالمقابل، يحق للعلمانيّين أن يروا الأمور من خلفيّتهم التي ينطلقون منها ومن رؤيتهم العامة، بناءً على حرية التفكير. هذه الحرية الإيمانية أو الوضعية التي لا بد من تأصيلها. ولكن ستبقى الصدامية موجودة لأن كل رؤية تتمسك بثوابتها وأحقيّتها وجدواها ولغتها الإعلائية، ولن نصل إلى حلول مرضية ما لم نبحث في جذور الرؤية واستنطاق أدلّتها وجدوى رؤيتها. فنحن بحاجة إلى التحاور الجاد، وعدم الخوف من الآخر، والاتفاق على نقاط قد تكون مشتركة وقابلة للمناقشة، وصولاً إلى تطبيقات لها يوماً ما. أضف إلى ذلك أن العلمانية وشكل الدولة يجدر أن يكون لهما كلام خاص مستقل لا أن يكونا من خلال نافذة الزواج المدني.
وفق الطبع لا يمكن أن يكون الارتباط (الزواج) محطة ظرفية تطغى عليها المنفعة والمصلحة. فلا يتعقل ذلك، ولا يجدر بالناس أن يحوّلوا العلاقة الإنسانية بين طرفين إلى مجرد توافق آني له دوافعه وينتهي عند أقرب فرصة. فهذا لا ينسجم مع طبيعة الإنسان وفطرته السويّة التي تنزع إلى السكينة. فالإنسان مدني بالطبع، والدين يثير فيه تلك النزعات لأن الدين كمنظومة في حقيقته النهائية مدني، أو ذو صفة مدنية، يهدف إلى بناء مدنيّة تحقق العيش الكريم وتؤكد كرامة الإنسان. فعلينا أن نفهم مليّاً أوجه المدنيّة للدين وأن نكون مستعدين لهذا التلقي والفهم. فليس الدين في أولويّته القطعيّة منحصر في باب الطهارات والنجاسات والمسائل الفقهية المتناثرة في الرسائل العملية للمراجع والمجتهدين.
من باب التوضيح، فإن الباحثة سعادة نسبت إلى السيد محمد حسين فضل الله أنه أفتى أن كل رجل، أو امرأة، يتزوج مدنياً فهو زان. وهذا الكلام غير تام، فإجراء الزواج دينياً ليس متوقفاً على الفقيه، حيث لا مانع من الزواج عند جهة مدنيّة ويعدّ العقد صحيحاً من دون صيغة شرعية عند فقهاء، منهم السيد فضل الله، ما دام الرضى حاصلاً بين الطرفين، حتى لو أجريا العقد بنفسيهما وأولادهما شرعيّون وفق شروط معينة، فعقدهما على حدّ تعبير السيد فضل الله تماماً كأيِّ عقدٍ من العقود الّتي يعقدانها في معاملاتٍ أخرى، فلا يشترط فيه أيّ لفظ معيّن، بل يكتفى فيه بكلّ ما يدلّ عليه، حتّى إنَّ الزَّواج يمكن أن ينشأ بالكتابة. وعلى هذا، والكلام للسيد، فنحن لا نرى مشكلة في الزواج المدنيّ من هذه الناحية، لأنّنا نعرف أنّه يوثّق عقد الزواج بين الطرفين.
من الناحية الشرعيّة، يوضح السيد فضل الله نقطة أخرى وهي أن الزواج المدنيّ لا يشترط في الزوجين إلا أن يكونا بالغين، عاقلين، راشدين، ولا يشترط شيئاً آخر، بينما يؤكِّد الإسلام في هذا المجال شروطاً معيَّنة. ففي عقد المسلم، لا يجوز للمسلم أن يتزوَّج الملحدة التي لا تؤمن بدين، كما أنّه لا يجوز له أن يتزوّج باللواتي يتديّنّ بدينٍ غير الأديان السماويّة المعروفة، كالبوذيّة أو الهندوسيّة. لذلك، فإنَّ أيَّ عقدٍ بين مسلم وأيّ امرأة ملحدة، أو غير متديّنة بالأديان السماويّة الكتابيَّة، يعدّ عقداً باطلاً، سواء أنشئ بالصيغة المعتبرة لدى جمهور الفقهاء في الفقه الإسلاميّ، أو بالصيغة المتعارف عليها في الزواج المدنيّ. تأخذ المشكلة بعداً خلافياً على مستوى التشريعات بين دينية ومدنية، فعقد الزواج في الإسلام، كما يوضح السيد فضل الله، لا يُلغى ولا يفسخ إلا بطريقتين، هما الطلاق أو الفسخ، إذا كانت هناك عيوب معيّنة لدى الزوجين، أو لدى أحد الزوجين. أمّا في الزواج المدنيّ، وهذه نقطة سلبيّة إسلاميّاً، فإنَّ فسخ عقد الزواج يخضع للقوانين المدنيّة المتّبعة، فقد يجري الطلاق في المحكمة بعيداً من الشروط الشرعيّة لدى السنّة أو الشيعة، الأمر الذي يعني أنّ العلاقة الزوجيّة تبقى على حالها مع صدور الحكم بالانفصال من قِبَل السلطات المدنيّة. تكمن المشكلة في المضمون، وما يستتبعه العقد من طلاق وإرث وأمور تستوجب فسخ العقد، فالزواج المدني لا ينظر إلى هذه المسائل ولا يأخذها بالاعتبار، بل يخضع للقوانين المدنيّة في دولة من الدول، وهذا ما لا يتوافق مع رأي الشرع في تلك التفصيلات. فالحرمة لا تكون بشكل العقد، حسب رأي السيّد فضل الله، بل بالتفاصيل المترتّبة على الزواج، من طلاق وإرث وغيرهما.
بعد كل هذا، لنا أن نتساءل بدايةً هل أن الملاحظ في هذا الارتباط بين طرفين، الغاية النهائية والكلية منه احترامه والوصول به إلى الأمان؟ نجد أن قضيتنا هي أخلاقية بحتة، فلو أراد الطرفان إنهاء العلاقة وتدميرها يُوجدان لذلك أتفه الأسباب. وهذا ما يحصل فعلاً اليوم، سواء كان الزواج اختيارياً، مدنياً، أو شرعياً، فكم من حالات طلاق وإنهاء للزوجية على أبسط الأشياء وأتفهها من قبل الزوجة أو الزوج؟! فمصيبتنا أزمة أخلاق ووعي أدت إلى فقدان ثقافة توعوية ونفسية اجتماعية متجذرة في الفضاء العام، حتى باتت ظاهرة استسهال المشاكل الزوجية وفك الارتباط الزوجي هيّنة عند كثيرين، ولو كان على حساب تماسك الأسرة ووجودها.
ليس المهم أن نتزوج مدنياً أو شرعياً، فالمسألة ليست هنا حتى نحصرها في هذا الإطار، إذ باتت القضية وجودية، فماذا نريد أولاً من الارتباط؟ هل نريد شيئاً عابراً، مجرد فولكلور، أو رسميات على أوراق عند رجل دين أو أمام رجل مدني أو غيرهما. نرى أن وتيرة الحياة، للأسف، غطّت ما هو قيمي، المفترض أن يحفظه الزواج بأمانة، وأصبح كثيرون لا يرضون، وغابت القناعة وغيّب الوعي عن فهم العلاقات الإنسانية، وأهمّها مؤسسة الارتباط وما ينجم عنها من التزامات بعيداً عن التجمد عند مصطلحات قد ينفر منها البعض، من نفقة ومهر وإرث، كونها مفردات دينية فيما هي حقيقة حياتية ترشد إلى التزامات، لا ينبغي التعقد منها والتشوّش لدى الأجيال التي تحتاج إلى تبسيط مفرداتها المعرفية، الدينية منها والعلمانية، والتعرف ملياً إلى حدود هذه المصطلحات ومعانيها حتى لا تقع في الخلط والوهم. فكثيرون من أجيالنا أضحوا يتعقدون من خطابات تواصلية لا تعكس حدود المعرفة مهما كانت ولا تقدّمها لهم بما لا يضعهم في إشكالات إضافية.
عندما يُجهض الإنسان وجوده، بمعنى أن يضيع ولا ينتمي إلى هويته الحقيقية ويتفاعل معها مهما كانت تسميتها، فإنه يُعدم وجوده فلا يبصر حقيقة ما هو عليه وتصبح رؤيته للأمور قاصرة وسطحية. حتى المتديّن عندما لا يتصالح مع نفسه ومفاهيمه يتخبّط ويتصرّف من خلال ردّات فعل وضيق أفق. فالقضايا الإنسانية الملتصقة بالفطرة، ومنها الزواج، ذات أبعاد متعددة تعبّر عن أصالة ما وصل إليه الإنسان في فهمه لعقيدته أو استيعابه الدقيق لتجلّيات هويّته الدينية أو الوضعيّة بلا فرق.
فالبحث في المسألة نظريّ بحثي وتقعيدي، وما يلحظ في جانب الآثار والمترتّبات الاجتماعية، فهل نصل إلى صيغة تأخذ بالاعتبار مصالح الجميع، وتوضح عبر نشر الثقافة والوعي في فضاء حرّ الفروقات بين ما هو معتبر دينياً وبين ما يعتبره البعض تماشياً مع المدنية والعلمانية. وذلك كي يتعرّف الجميع على الموضوع ويكونوا على بيّنة من أمرهم ويحدّدوا ماذا يريدون، وقبل هذا وذاك أن يفهم كل طرف عمق انتمائه الفكري والديني وما يترتّب عليه وماذا يريد كل منّا بالضبط، لأن تحديد الأهداف والمسارات والتخبّط في فهم الانتماءات يزيد الأمور ضبابية وتيهاً، في وقت بتنا نشعر فيه بفقدان التوازن والخوف، كوننا ضعافاً في الأساس ولا نملك القوة والجرأة، التي لا تكفي فحسب على مستوى المقاومة الجهادية، بل أضحينا بمسيس الحاجة إلى مقاومة ضعف أنفسنا وضياعنا حتى ننهض ونعرف ما نريده حقاً.
* أكاديمي وحوزوي