يدفع التطور الدراماتيكي للاحداث في العراق الى ضرورة متابعة النظر في مجريات الامور في هذه البلد منذ غزوه من قبل القوات الأميركية وحلفائها، في ربيع عام 2003. ولأن «الشيء بالشيء يُذكر» فلا بأس من التفكير ملياً بذلك الرأي الذي يصنف الغزو الاميركي للعراق باعتباره اول حلقة في سلسلة محطات «الربيع العربي»، الذي يشكو منه كثيرون ويهلل له كثيرون أيضاً، ولو على تبادل في الأدوار! كان نظام الرئيس صدام حسين قد قمع، بوحشية مُرعبة وبعقاب جماعي، معارضيه في حلبجة والبصرة وبغداد... وكل أنحاء العراق!
أدى ذلك، بين أمور أخرى أكثر أهمية (حربه على إيران، غزو الكويت وضمها...)، الى غزو العراق من قبل واشنطن بذريعة تعاون نظامه مع «القاعدة» وامتلاكه اسلحة دمار شامل. كان هدف واشنطن اختبار مرحلة جديدة في العلاقات الدولية (حددتها «استراتيجية الامن القومي» الاميركية المعلنة من قبل «البيت الابيض» الاميركي في ايلول عام 2002)، ووضع مشروع «الشرق الاوسط الجديد» موضع التنفيذ.
رغم كل ما اتسمت به المواقف المعلنة من تنديد ورفض وتحذير... الا ان الغزو، وهدفه المباشر (اسقاط الرئيس العراقي صدام حسين ونظامه) كانا موضع ترحيب، بل وتعاون وتنسيق من قبل قوى عديدة رغم ما هو قائم بينها من خلافات وتناقضات (القيادة السورية أكثر من استشعر الخطر). تمثل ذلك في المشاركة في «العملية السياسية» التي كانت اجتماعات تنسيق وتعاون قد سبقتها (قبل الغزو)، والتي تشكل حكومة الرئيس نوري المالكي الحالية امتداداً لها حتى يومنا هذا!
المملكة السعودية التي تظاهرت بعدم تأييد الغزو، على خلاف موقفها الحقيقي، ما لبثت ان فوجئت بطبيعة الصفقة التي عقدها الاميركيون في كل من افغانستان والعراق، والتي جعلت إيران اكثر من «شريك الضرورة». ادى ذلك الى حصول توترات اميركية ـ سعودية كانت تتفاقم من سنة الى سنة، خصوصاً بعد ان تبين ان النفوذ الإيراني في العراق قد بات شبه حاسم في تحديد مجريات الوضع في ذلك البلد ذي الموقع الاستراتيجي المفصلي وذي الثروة النفطية الهائلة.
«تغيير الانظمة من الخارج» لم يبدأ، كما تعتبر القيادة الروسية، مع التدخل الغربي لاسقاط الزعيم الليبي معمر القذافي ونظامه عام 2011. وملايين العراقيين ممن اصابهم بطش صدام حسين، والذي من بينهم آلاف الاعضاء في حزب البعث والمئات من قادته، لم يجدوا لهم مكاناً في نظام المحاصصة الطائفية – الاثنية الذي اعتمد في بغداد تحت مسمى «العملية السياسية» القائمة حتى الآن (رغم الالتحاق القاصر وغير المبرر لقيادة الحزب الشيوعي العراقي بالصيغة الاميركية للحكم). الهدف من بعض هذا التذكير هو استعادة حكمة ابن المقفع الشهيرة والتي لا تبدأ من طرابلس الغرب بل من بغداد. «الثور الابيض» المذكور فيها أُكل في بلاد الرافدين قبل «الجماهيرية العظمى»! طبعاً يطرح هذا الامر، مرة جديدة، ضرورة عدم الاجتزاء في التعامل مع الوقائع والاحداث، وضرورة اجتناب التقييمات الفئوية ووحيدة الجانب على حساب الحقائق والمعطيات الموضوعية. ففي كل محطات «الربيع العربي» عوامل مشتركة واخرى متمايزة. يجمع ما بين حلقاتها المتنوعة عامل الاستبداد والقمع والاستئثار والفئوية. وكذلك يجمع بينها، في بداياتها، الطابع العفوي الشعبي للاحتجاجات وعدم نضج عوامل الوعي والتنظيم واشتقاق البدائل. وهي تتفاوت في مسألة دور الجيوش ومدى استخدامها في زمن التحولات، او عدم القدرة على استخدامها، ما استدعى التدخل الخارجي بشكله العسكري (ليبيا)، او الامني والسياسي والمالي (اليمن)، او السياسي فقط (تونس)، او المالي والاعلامي (مصر في حالتي «الاخوان» وما بعد «الاخوان»)... الى فرادة الوضع السوري حيث استخدام الجيش بالكامل، في مقابل استقدام مسلحين اجانب من كل أنحاء العالم (لتعويض عدم التدخل العسكري الاطلسي) من قبل بعض الدول الخليجية، وتركيا على وجه الخصوص.
وفي مسألة التباين بين دول «الربيع» المثير للجدل، نقع ايضاً على دور ومستوى حضور تنظيم «الاخوان المسلحين» الذين بكّروا ليكونوا طليعة من يجني ثمار موسم لم يبادروا هم الى زرعه، او لم يكونوا وحدهم على الأقل!
كنا اشرنا الى التباين الاميركي ـ السعودي. وصل هذا التباين ايضاً الى دول مجلس التعاون الخليجي نفسها. ما زالت قطر تصارع ضد التوجه السعودي وتحاول الكويت ان تمارس دور الوساطة والمصالحة. اما عُمان، فقد اختارت التقارب مع الجمهورية الاسلامية الايرانية، حتى في ذروة تناقض طهران مع الرياض، وخصوصاً في الموضوعين السوري والعراقي.
الدول العربية التي عانت على يد المستعمرين من سياسية التجزئة والهيمنة والنهب، عانت على يد حكامها من الاستبداد والفساد والافقار والتخلف والالتحاق والتفكك الاجتماعي.
لا يخرج عن ذلك العراق الذي خضع لـ«عملية سياسية» بالغزو الاميركي، استبدل بموجبها ديكتاتوراً بمحتل، وحلت هيمنة فئوية جديدة محل هيمنة فردية سابقة. تتغير الاسماء والجوهر واحد: لم يتح لهذه البلدان ان تخوض تجارب اقتصادية وتنموية ناجحة ومنسجمة، وان تتمتع بانظمة سياسية يحكمها الدستور والقانون والمؤسسات... لا الافراد والفئويات والعصبيات.
يجدر القول هنا إنّ مشاريع «التحرر» المتعددة قد عجزت عن ان تبلور نهجاً سياسياً واقتصادياً حديثاً ومتطوراً وجامعاً. ويشكو آخر صيغ هذه المشاريع اي «نهج الممانعة» من ثغرات تكاد تصبح قاتلة في بعض جوانبها. بين الجوانب السلبية المذكورة، الفئوية والاستئثار، والعداء للمشاركة وللحوار، والجنوح نحو تقديم التنازلات المتواصلة للطفيليين الذين باتوا الحلقة الاقوى بتحالفهم مع مراكز قوى وقمع وفساد على حساب مستلزمات التنمية وبناء اقتصاد مستقل واقامة مؤسسات وحريات وحقوق...
ليس «داعش» وليد تآمر خارجي، عربي او دولي، فقط. إن «الداعشية» قائمة، بهذه الدرجة او تلك، في كل سلوك او مشروع فئوي وعنصري وغرائزي وطائفي ومذهبي. هذا ما يجب الانطلاق منه اليوم للدفاع عن العراق، كل العراق! فآثار العراق ومقاماته واضرحته هي مقدسات لكل الشعب العراقي والعربي، بل هي كنوز حضارية وانسانية للبشرية جمعاء.
نحن مطالبون، تكراراً، بصحوة وطنية وقومية تجسدها برامج وصيغ كفاحية، لا بـ«صحوات» قبلية وانفعالات مذهبية من شأنها تعميق الشرخ وزيادة التشرذم وتعميم القتل والدمار... وتقديم خدمات إضافية للعدو الصهيوني والاستعماري، وللتكفير والإجرام والتخلف!
* كاتب وسياسي لبناني