لقد بات جليّاً، كون المعركة في أوكرانيا جزءاً من حربٍ أميركيةٍ روسيةٍ أشمل، أن رحى المعركة العسكرية تدور في أوروبا بينما تمتد الحرب الأشمل لتشمل ساحاتٍ وصوراً أخرى، كالعقوبات التجارية الغربية التي تعاظمت وتوسَّعت بعد بدء إطلاق النار. ولقد انقسمت الأطراف الدولية في هذا الاشتباك العالميّ إلى ثلاث مجموعات: حلفاءٍ مباشرين، إمّا لروسيا أو لأميركا، وحلفاءٍ آخرين غير مباشرين لأحد المعسكَرَين، وأطرافٍ أخرى ما زالت تحاول المحافظة على موقع وسطٍ بين الحلفين المتقابلين.منذ نهاية الثنائية القطبية، سعت أميركا حثيثاً إلى فرض هيمنتها على كل دول المعمورة، ونهب ثروات شعوبها، ومحو حضاراتها وثقافاتها. ولقد وظَّفت في مسعاها هذا عدة أدواتٍ: الحرب المباشرة بشقيها العسكري والاقتصادي، والحرب الناعمة بكل وسائلها من ثوراتٍ ملوَّنةٍ وهيئات «مجتمعٍ دوليٍ» ومنظمات «مجتمعٍ مدنيٍ» وإعلامٍ،... إلخ. وكانت العولمة والأيديولوجية الليبرالية الفكر المحرّك لهذه الأدوات، ولقد أقر ستيفن وولت في «فورن بوليسي» بكون الفكر الليبرالي، الذي تبناه الغرب و«الناتو» في العلاقات الدولية، قد ساهم بشكلٍ رئيسيٍّ في وصول الأمور في أوكرانيا إلى ما وصلت إليه. وفي سبيل المسعى الأميركي لتثبيت هيمنتها على العالم، قامت منذ مطلع القرن بعدة حروب ومؤامرات في منطقتي المشرق العربي ووسط آسيا، لكن باءت كلها بفشل استراتيجي على ما يقر به جل المنظِّرين والساسة الأميركيين.
وفي غضون هذا، ترسخت قناعةٌ لدى روسيا والصين بكون أميركا تسعى لتحجيمهما، إن لم يكن تفكيكهما، كي تستمر هيمنتها على العالم، وتنهي التاريخ على النحو الذي تراه! ولكن، في غمرة انشغال أميركا بمخططاتها في منطقتي قلب آسيا وغربها، استغلت الصين الفرصة وبنَتْ قوتها الاقتصادية والتكنولوجية، وقامت روسيا باستعادة التوازن لاقتصادها، وأعادت بناء جيشها وطورت أسلحته التكتيكية والإستراتيجية. وبالتوازي، كانت روسيا والصّين تُطوِّران علاقاتهما البينية ضمن «منظمة شانغهاي» وأطرٍ أخرى، بالإضافة إلى الاتفاقيات الثنائية بينهما التي تُوِّجَت بالقمَّة الصينية الروسية الأخيرة. ومع مطلع العشرية الثانية من هذا القرن، نضجت أغلب عناصر الاشتباك الكبير من أجل رسم عالم ما بعد الأحادية القطبية، حيث كانت الصّين وروسيا قد استعدتا للمواجهة، وكانتا قد وصلتا إلى مستوى متقدمٍ في تنسيق المواقف، بما فيه التوافق على التصدي لسياسة أميركا لتغيير أنظمة الدول.
كانت المعركة في سوريا أول تجلِّيات هذا الاشتباك الأوسع، بين المعسكر الروسي- الصيني الشرقي والمعسكر الأميركي الغربي، وهذا ما ظهر في استخدام روسيا والصين «الفيتو» لعدة مرات في مجلس الأمن، منهيتين بذلك مرحلة الهيمنة الأميركية على المجلس، التي سادت منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. لذلك، شكَّلت الحرب على سوريا المعركة التمهيدية في الاشتباك العالمي الأشمل، ويصح وصف ما تشهده أوكرانيا اليوم بالمعركة الثانية ضمن هذا الاشتباك. ومن المبكر حالياً التنبؤ في ما إذا كانت معركة أوكرانيا آخر المعارك العسكرية فيه، لكن من الواضح أن الاشتباك العالمي مستمرٌ في صيغته الاقتصادية، وربما السيبرانية، حتى إلحاق أحد المعسكرين هزيمةً إستراتيجيةً بالخصم. من المستبعد توقُّف الحرب الاقتصادية التي بدأها الغرب على روسيا عقب حسم المعركة العسكرية في أوكرانيا. وهذا، بدوره، يستجلب حرباً اقتصاديةً مضادة من المعسكر الشرقي على ركيزتي حروب أميركا الاقتصادية: هيمنة الدولار والنظام المالي العالمي الراهن. وقد بدأ هذا بالفعل؛ فقرار روسيا تحصيل أثمان صادرات الطاقة إلى أوروبا بالروبل، والسعي لإصدار الروبل الرقمي، تعدَّان خطوتين متقدمتين في الحرب الاقتصادية المضادة.
توصيف الوضع بكونه اشتباكاً عالمياً مصيرياً للقوى الكبرى، يفيد بتبلور مساراتٍ دوليةٍ وإقليميةٍ كانت قد ظهرت ملامحها منذ حين


وعليه، يمكن القول بأنّ العالم يشهد، منذ نحو عقدٍ من الزمن، حالةً تشبه الحرب العالمية؛ حرباً يمكن وصفها بالهجينة، لا هي حرب باردةٌ بالكامل، ولا ساخنةٌ بالكامل، وذلك نظراً لتفادي القوى الكبرى الدخول في صدامٍ عسكريٍ مباشرٍ بسبب الردع النوويّ المتبادل، مع الأخذ في الاعتبار أنه يصعب القطع بعدم تدهور الاشتباك العالميّ الراهن إلى الأسوأ، ولكن يبقى هذا الاحتمال الأقل ترجيحاً.
يصف ألكسندر دوغين ما يحصل في أوكرانيا بأنه حربُ استقلالٍ من هيمنة العولمة الليبرالية الغربية. الاشتباك العالميّ الراهن لا ينحصر فقط برغبة الدول الصاعدة بكسر الأحادية القطبية، بل، كما يقول، إن الحرب الراهنة في حقيقتها تدور ضد الأيديولوجية الليبرالية، التي تسعى لمحو حضارات شعوب الأرض وثقافاتها، والتي تدمّر الأسرة والمجتمع، وتنحدر بالإنسان إلى كائنٍ مسخٍ ورغائبيٍّ، متحررٍ من أية ضوابط اجتماعيةٍ أو أخلاقيةٍ.
ولا يبدو أن أميركا والغرب بعيدان من هذه القراءة لمصيرية الحرب الراهنة. فتشير طريقة تعاطي قادة الغرب مع المعركة الأوكرانية إلى أنهم يهدفون لإلحاق هزيمةٍ إستراتيجيةٍ بروسيا والمعسكر الشرقي، ولهذا فالأرجح تصاعد الضغوط الأميركية على حلفائها لحسم موقعهم في المعركة الأوكرانية، كحال الكيان المؤقت، الذي ما زال يتجنب الانحياز الكامل للجبهة الأميركية، وذلك لعدم رغبته في إغضاب روسيا، لا سيما أنه بات لروسيا حضورٌ فاعلٌ في المنطقة العربية. لكن، مع تعمُّق انقسام الأطراف بين معسكرين على وقع احتدام وطيس المعارك ومرور الزمن، يصير السؤال إلى أي مدىً سيستطيع الكيان المؤقت الاستمرار في لعبة موقفه الضبابيّ؟ ورغم العلاقات الأمنية والتجارية التي تربط الكيان المؤقت بروسيا، وعدم رغبته في استعدائها، يبقى تموضع الكيان المؤقت في المعسكر الغربي أكثر ترجيحاً، لكونه:
- في أصل وجوده صنيعةٌ غربيةٌ.
- مرتبطٌ وجودياً بالهيمنة الغربية.
- غير قادرٍ على مقاومة الضغوط الأميركية حال اشتدادها.
وهنا يُفتح بابٌ لقوى المقاومة في الإقليم، عبر استغلال تناقض المصالح الناشئ بين روسيا والكيان المؤقت. ففي المحصلة، تخوُّف الكيان المؤقت في محلّه من ردّ فعل روسيا حال تموضعه كلياً في المعسكر الغربي.
وفي الخلاصة، توصيف الوضع بكونه اشتباكاً عالمياً مصيرياً للقوى الكبرى، يفيد بتبلور مساراتٍ دوليةٍ وإقليميةٍ كانت قد ظهرت ملامحها منذ حينٍ، وظهور مساراتٍ جديدةٍ يمكن لقوى المقاومة البناء عليها، لا سيما كون هذه القوى باتت لاعباً حاسماً في رسم مستقبل الإقليم، ففي نهاية المطاف، كان محور المقاومة مَن أفشل أهداف حروب أميركا الاستراتيجية في منطقتي المشرق العربي ووسط آسيا.

* كاتب وباحث سياسي