بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته قبل ثلاثة عقود ونيّف، بقيت واشنطن، وحدها، قوة عظمى، متفوّقة وحاضرة في كل قارات الكوكب وبلدانه. نشوة الانتصار ولّدت شعوراً عارماً بفائق القوة لدى النخب الأميركية الحاكمة، ما أتاح للرئيس بوش الابن «والمحافظين الجدد» تبنّي استراتيجية صاخبة يتم بموجبها وضع «قوة أميركا غير القابلة للتحدي» في خدمة اقتصادها الإمبريالي الذي تديره، وتدير سياساتها شبكة احتكارات عابرة للقارات. يقع في قلب هذه الشبكة «المجمَّع العسكري الصناعي» الأميركي الذي يقع، بدوره، في نطاق إدارة سياسية مخابراتية إمبراطورية معقَّدة ومترسّخة تعُدّ نفسها «الدولة العميقة» للعالم بأسره! كانت «الحروب الاستباقية» إحدى الأدوات المعلنة التي نصَّت عليها صراحة «استراتيجية الأمن القومي» الصادرة عن «البيت الأبيض» الأميركي في أيلول 2002. في السياق، عنى ذلك أن واشنطن باتت القوة الوحيدة، في العالم، القادرة على خوض حروب هجومية على بُعد آلاف الأميال عن حدودها. لقد تجاوزت واشنطن نفسها، في قرارها شن الحرب على العراق في نيسان عام 2003، وخصوصاً بعد هزيمتها في فييتنام وما تولَّد عنها من خسائر وعقد. وهي اندفعت، مرة جديدة، بمبررات خادعة، في عملية غزو، منطلقها العراق، ومداها كل «الشرق الأوسط الواسع» (من باكستان إلى موريتانيا)، وهدفها إعادة ترتيب العلاقات والتوازنات الدولية وصياغتها لمصلحة الإمبراطورية الأميركية وحليفها الصهيوني (إقليمياً) دون سواهما!فشلت المغامرة الأميركية بسبب ما واجهته من مقاومة، كان طابعها الغالب شعبياً. تفرّد واشنطن وعنجهيّة إدارتها انقلبا إلى خيبة وهزيمة وخسائر تفوق ما تسبّبت به بطولات الشعب الفييتنامي. ليس ذلك فقط، بل إن الجموح الأميركي، بوصفه تعبيراً عن نهج عدواني توسّعي بالحروب والغزو واستباحة سيادة البلدان واستتباعها، عبّأ قوى عديدة عانت من التدخل الأميركي ومن عدوانيته ونزعته للهيمنة والتفتيت على حساب مصالح الدول والشعوب، بما فيها دول حليفة لواشنطن!
بوتين، الرئيس الروسي القادم من جهاز الاستخبارات السوفياتي الشهير الـ«كي جي بي»، فرض نفسه وريثاً بديلاً للرئيس يلتسين الذي انسحب بعدما أكمل مهمته القذرة. اكتشف بوتين سريعاً دور واشنطن الكبير في انهيار المنظومة التي كان أحد حراسها. اكتشف، أيضاً، دورها الممتد والخطير في السعي لتفكيك روسيا نفسها، ونهب ثرواتها وتراثها، ودفعها لتصبح بلداً متخلفاً، تابعاً، ضعيفاً، ومفككاً. إلى ذلك، اكتشف سعي واشنطن الدؤوب لإبعاده هو عن السلطة من خلال التدخلات المباشرة في الانتخابات الرئاسية. ثم كان الاحتلال الأميركي للعراق الذي أدى إلى انهيار عقود روسيا مع رئيسه صدام حسين بقيمة 40 مليار دولار، فضلاً عن انهيار مشاريع المؤسسات الروسية في العراق (خصوصاً التنقيب عن النفط) دون أمل بالتعويض أو حتى بإبداء الأسف!
كل الأسباب كانت تحفِّز الرئيس الروسي على مناهضة الغزو الأميركي وعلى معارضته أهدافه في العراق والمنطقة والعالم. أمّا الغربيون الذين اعترضوا على الغزو في البداية، فما لبثوا أن تكيّفوا مع الموقف الأميركي: ملتحقين أو متواطئين أو صامتين.
خرج الأميركيون منهزمين من العراق (ولاحقاً من أفغانستان). صمّموا على تبديل أساليبهم وليس أهدافهم: «الحروب الناعمة» بدل «الحروب الخشنة». التدخل بالضغوط والحصار والعقوبات والدولار والنفوذ من جهة، وبالتفتيت والإضعاف وإثارة الانقسامات والصراعات، من جهة ثانية. فشلت أيضاً خططهم حيال تهميش روسيا واحتوائها، وخصوصاً أن بوتين تجاوز الكثير من المطبات الأميركية في داخل بلاده وخارجها، وأصبح قادراً على استعادة بعض دورها في العالم، وخصوصاً في الشرق الأوسط، عبر التدخل الفعّال في سوريا بالذات. وهو استفاد من ملابسات وصول الرئيس الأميركي السابق ترامب وأولوياته، لكسب مزيد من الوقت في ترتيب مواقعه وعلاقاته وتحسينها. مع مجيء «الديموقراطيين» إلى السلطة في واشنطن، انطلقت موجة جديدة من الصراع الأميركي الروسي. صعّدت إدارة بايدن من إجراءاتها المعادية لموسكو وخصوصاً في محيطها الحيوي الجغرافي في أوروبا الشرقية. حاولت استكمال حصار روسيا من خلال استفزازها عبر خاصرتها الرخوة أوكرانيا، حيث نجحت واشنطن، على امتداد حوالي ثماني سنوات، في تحويلها إلى عامل استفزاز يومي لجارتها وشقيقتها الكبرى روسيا. كان ذلك ذروة أخطار باتت تُحدق بالأمن الاستراتيجي الروسي، وتهدد قيادة بوتين نفسه: ضم بلدان الكتلة الشرقية الاشتراكية السابقة إلى «الناتو». وعود بتزويد كييف بالسلاح النووي، إطلاق «النازيين الجدد» والعنصريين الأوكران لممارسة تهديدات ومجازر واعتداءات وحصار لمنطقة الدونباس ونقض لاتفاقية «مينسك»... ذلك وسواه شكَّل حلقات متلاحقة ومترابطة في جهود أميركية وأطلسية لإحباط خطط بوتين لتحصين بلاده وتعزيز علاقاتها وخصوصاً الأوروبية منها، وأبرزها تصدير الطاقة بكمية مؤثرة جداً في تحديد العلاقات الأوروبية مع الخارج، بالإضافة إلى تحالفها مع الصين. هكذا مهدت واشنطن لتغذية الصراع الروسي الأوكراني في حربها، بالواسطة، ضد منافس استراتيجي على المستوى الدولي ممثّلاً بالعملاقين الروسي والصيني.
تعاطت واشنطن مع الحرب المحتملة بين موسكو وكييف كأنّها تروِّج لها! تولّى الرئيس الأميركي بايدن بنفسه إطلاق المواعيد لبدئها. مؤكداً، بالمقابل، أن بلاده وكل حلف «الناتو» لن يتدخّلا! الهدف «حرب ناعمة» في حلقة جديدة ضد روسيا نفسها، واستخدام الشعب الأوكراني وأمنه ودمه واستقراره على مذبح الأطماع الأميركية في استنزاف روسيا وإسقاط قيادتها. تواصل واشنطن الآن خطتها من خلال السعي لإطالة أمد الحرب عبر حملة إعلامية واقتصادية ضارية ضد روسيا ورئيسها، وتزويد أوكرانيا بالسلاح والمعدات، ومنع القيادة الأوكرانية من التعقّل والتراجع عن الاستفزاز لجارتها الكبيرة.
تحويل الحرب الحالية إلى حرب استنزاف طويلة لروسيا، هو ما تحاوله واشنطن ومعها مسعورو حلف «الناتو». لا تراعي واشنطن مصالح أوكرانيا ولا مصالح الدول الأوروبية التي تحتاج إلى علاقات تعاون، لا إلى عداء مع روسيا التي طالما مدّت اليد لمثل هذا التعاون وبكل النيات الحسنة والشروط الضرورية، وخصوصاً على المستوى الاقتصادي.
هذه الحرب هي حرب مجموعة عنصرية ومهووسة ونازية جديدة أوكرانية. وهي أيضاً حرب متطرّفي «الناتو» الذين توجّههم واشنطن وهم يغامرون بأمن العالم. لكنها أيضاً حرب مصيرية بالنسبة إلى روسيا التي استُفزّت واستُدرجت بثمن دماء الأُوكرانيين والروس على حدّ سواء. روسيا هي أكبر دول الأرض مساحةً وثروات وطاقات، ليس من السهل تهميشها، أو حتى تجاهلها، وخصوصاً منعها من أن تكون قوة عظمى في عالم تتغيّر توازناته: من التفرّد، المفروض، والمرفوض، إلى الشراكة والتعدّد!
* كاتب وسياسي لبناني