التيارات الفكرية المعروفة في العالم العربي منذ بداية القرن الماضي كانت وما زالت موزعة بين الحركات الاسلامية والقومية واليسارية والليبرالية. ومارست منفردة أو متحالفة أو متحاربة دورها في السلطات المتنفذة، مباشرة أو غير مباشرة، وكان لبعضها فرصة أكبر من غيرها في الحكم والتسلط السياسي. وفُسح لغيرها مجال للمعارضة السلمية أو العنفية أو التصارع بينها.
بينما بقي التناحر هو الابرز في حقب تاريخية ما ولّد ضغائن وأحقاداً وكراهية بينية لم تتمكن من التخلص منها حتى في نضجها السياسي والفكري، أو لم تتعظ من عِبّرها ودروس الحياة وتجارب الشعوب الاخرى. ولعل التيار الاسلامي تاريخياً نموذج بارز منها. خصوصاً احزابه التي اتسمت بتيار الاسلام السياسي، بطوائفه ونوازعه. وبرز الاخوان المسلمون كحركة وجماعة اسلامية دعوية منذ تأسيسها عام 1928 في مصر الانشط سياسياً. وتاريخها حافل بالصدام مع السلطات وأعمالها تشهد عليها، والانقسامات داخلها تكشف بنيتها الرئيسية. سواء في مصر أو في تفرعاتها التي انتشرت في البلدان الاسلامية الاخرى، العربية والأجنبية. ومع سياسات المسايرة والمهادنة، وطيلة تلك الفترة ظلت محتفظة بقوتها وتنظيمها الحركي، كأوسع تنظيم سياسي استخدم الدين وسيلة للتأثير والسيطرة السياسية، ومارس المعارضة بأشكال متعددة، سلمية وعنفية، واغتيالات ونشاطات اخرى وتعرّض جراءها للسجن والأحكام المختلفة.
رغم ايديولوجية الحركة الدينية ومعارضتها التعاون والعمل مع القوى الاستعمارية والدول الاجنبية كما وصفتها ادبياتها بدول كفار ودار حرب، سعت قيادات بارزة في الحركة الى التحالف مع تلك الدول والتشارك مع خططها المعلومة وغيرها، ومع مؤسساتها الاستخبارية، التي تتجهز لها أو تستعد للتعامل وطلب التخادم عبر وسائلها المتنوعة، وبحسب تنوع المراكز والعواصم الغربية توجهت تلك العلاقات. وفي الفترة الاخيرة حاولت الارتباط بالأجهزة الاميركية، مباشرة عبر السفارة الاميركية أو عبر وسطاء، كما كتب اكثر من مرة الدكتور سعد الدين ابراهيم، وغيره طبعاً. وقال ابراهيم في مقابلة صحافية معه: «منذ 2003 - 2010 حدث أكثر من 10 لقاءات بين الإخوان والأميركان، وأذكر (وأشار الى الذي قابله) أنك والمهندس محب زكي حضرتم اللقاء الأول، ورويداً رويداً انزعج النظام من تلك اللقاءات، فكانت السفارة الأمريكية بالقاهرة تدعو نواباً برلمانيين، ومن ضمنهم الإخوان، وهكذا تعمقت اللقاءات، وبعد خروجي من السجن أذكر أن خيرت الشاطر كان الأصدقاء من الصحفيين والحقوقيين الغربيين وبعض المسؤولين يزورونه، وبعد خروجه من السجن اعتمد الغرب والأمريكان على خيرت الشاطر وعصام العريان في الكثير من المهام».
وقبل اندلاع الحراك الشعبي في العديد من البلدان العربية، وبعده كان جواب أو تحذير الحكام العرب مما سموه «خطر» الاخوان المسلمين. وكان الرئيس الهارب زين العابدين بن علي قد تبجح اكثر من مرة بأن كل الحراك الشعبي والغضب العارم الذي هز شوارع المدن التونسية هو تظاهرات يقودها الاخوان المسلمون (حركة النهضة)، وانه سيلمها بالقوة وطلب من سفيره في اليونسكو الذي اذاع استقالته احتجاجاً بالعودة عن الاستقالة. وهذا ما قاله السفير في لقاءات تلفزيونية مباشرة من باريس.
تكررت الحالة نفسها في مصر، وسبقها تحذير الغرب اساساً، وتصريحات رسمية من الرئيس المتنحي والمعتقل حالياً حسني مبارك نفسه، بأن البديل، اذا فتحوا السبل للشعب في انتخابات ديمقراطية حرة هو مجيء الاخوان المسلمين الى السلطة. وحاول احتواءهم في انتخابات مجلس الشعب عام 2005 والسماح بإدخال 88 نائباً منهم الى قبة البرلمان. ولكن لم يتحمل ذلك فنكث وعده لهم وتخلى عنهم في انتخابات 2010 ليمنع رسمياً وبالتزوير الصارخ من الحصول على أي مقعد في البرلمان. الامر الذي ادى الى رفع الاحتقان الشعبي والتصادم مع الحركة واعتقال عدد من القياديين فيها. وتنوعت العلاقات بين السلطة والحركة حتى تنامي الغضب الشعبي العام وانطلاق ثورة 25 يناير 2011. وقد احجم الاخوان عن المشاركة في الحراك أولاً ومن ثم انضموا متفرقين إليها بعد يومين من انطلاقها. مرة الشباب منهم وأخرى مع القيادات السياسية المنتفضة أو المشاركة في الانتفاضة الشعبية المستمرة في الميادين المصرية.
التجربة المصرية مع الاخوان أو الاخوان في التجربة المصرية نموذج واضح للعلاقة بين الاخوان والسلطة. والتحول المتواصل في دور الاخوان ومكانهم في العملية السياسية. فمن التهديد بهم كبديل والتحذير منهم، الى استلامهم السلطة وإدارتهم لها، ليحققوا تلك المواقف والتصريحات منهم وحولهم وعنهم.
فطبقاً لقوانين ومناهج ومبادئ الجماعة فإن الإخوان المسلمين، بحسب نص وثائقهم، «يهدفون إلى إصلاح سياسي واجتماعي واقتصادي من منظور إسلامي شامل في مصر، وكذلك في الدول العربية التي يوجد فيها الإخوان المسلمون مثل الأردن والكويت وفلسطين. كما أن الجماعة لها دور في دعم عدد من الحركات الجهادية والتي تعتبر حركات مقاومة في العالمين العربي والإسلامي ضد أنواع الاستعمار أو التدّخل الأجنبي كافة، مثل حركة حماس في فلسطين، وحماس العراق في العراق، وغيرها من الحركات التي تنشد الاستقلال لبلادها. وتسعى الجماعة في سبيل الإصلاح الذي تنشده إلى تكوين الفرد المسلم والأسرة المسلمة والمجتمع المسلم، ثم الحكومة الإسلامية، فالدولة فأستاذية العالم وفقاً للأسس الحضارية للإسلام عن طريق منظورهم. وشعار الجماعة «الله غايتنا، والرسول قدوتنا، والقرآن دستورنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله اسمى أمانينا».
لكن خلال عام من حكمهم المباشر في مصر لم يتمكنوا من تجسيد شعارات الانتفاضة والثورة الشعبية وأهدافها وأحلام الشباب والوفاء لدماء الشهداء. ولم يتعلموا من دروس التجربة والتاريخ. وصدق المفكر الراحل جمال البنا (شقيق الامام المؤسس للحركة حسن البنا، بحسب توصيف الحركة له) حينما قال إن الإخوان مثل الأسرة الملكية الفرنسية من البوربون خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، (لا ينسون شيئاً ولا يتعلمون شيئاً). بعد ان قص ما مر به البوربون وعبر التاريخ الفرنسي معهم، وهو ما تتشابه به مع غيرها من الحركات ايضاً.
والسؤال: هل حققوا ما ادعوه ونشروه وهل تمكن «مكتب الارشاد» والمرشد العام لهم من ادارة الدولة والحركة في بناء الحكومة الاسلامية في بلد مثل مصر؟
ردّ الشارع المصري في احتجاجاته الكبيرة ضدهم يوم 30 حزيران/ يونيو 2013 ورسم نهاية دورهم وتجربتهم واعلن في يوم 3 تموز/ يوليو 2013 يوم اسقاطهم. ومن ثم اخراجهم من البديل والسلطة الى النزيل في السجون المصرية ومن ثم المحاكمات الدورية لهم، وإصدار حكم قانوني عليهم، بالتحريم والتجريم. ولكن لا يعني هذا ان الحركة انتهت، وتلاشت. انها صفحة من صفحات التاريخ، وعلى الاعضاء والقيادات، سواء من الاخوان أو الاحزاب السياسية الاخرى الاتعاظ بها ومنها.
تحويل قيادات الاخوان من البديل والحاكم الى نزلاء في السجون اعطى درساً بليغاً لغيرهم، خصوصاً لفروع الحركة في البلدان الاخرى. بدأت في تونس مع الاشارة الى دور الحركة العمالية والحركة السياسية التونسية التي تمكنت من تحديد دور حركة النهضة وحجمه في القيادة السياسية للبلاد والتغييرات. كما انعكس هذا في بلدان اخرى وفي تغير توجهات الحركة وفروعها التي انتعشت عاما وأرادت «التمكين» بسرعة ورفضت المشاركة والعمل من اجل المصالح الشعبية والوطنية العامة. ومع كل ذلك ما زالت اطراف من الحركة أو انقسامات منها تنشط في الجماعات المتطرفة أو تمد لها خيوط التواصل والتأثير والتهديد بها.
القضية التي لم تتعلم منها الحركة في التجربة المصرية وغيرها انها لم تعتبر من التجربة الجزائرية المأسوية وما الحقته من كوارث دموية، وقامت بإعادة انتاج الاعلان السريع عن استثمار العملية الديمقراطية وصندوق الانتخابات للوصول الى السلطة أولا ومن ثم العمل على «التمكين» والهيمنة على السلطة والتسلط الاستبدادي بعدها كما رأت وتمردت عليه في فترات سابقة. (ينبغي عدم نسيان تصريحات رئيس الوزراء التونسي الأول حمادي الجبالي وإعلانه عن نفسه بالخليفة وكذلك حوار راشد الغنوشي مع السلفيين الذي نشر في يوتيوب عن التمكين). فهل يستفيد من تبقى منهم، سواء في مصر وخارجها، من تلك الدروس والعِبر والتاريخ!
* كاتب عراقي