ما يحصل اليوم في العملية السياسية في العراق يلفت الانتباه إلى المسارات التي تتجه إليها بعد كل ما اعتبر خطوات إلى الحل أو ضوءاً في آخر النفق السياسي. لماذا وصلت العملية إلى ما وصلت إليه الآن؟! وأين هي القوى التي ادعت نفسها أركان هذه العملية منذ إعلان احتلال العراق رسمياً بعد غزوه عام 2003 ووضع بصمات قوى الاحتلال عليها، وبروز اسم بول بريمر واضحاً لتثبيت قوة النفوذ الصهيو-غربي فيها.رغم هروب بريمر، وتشكيل حكومات من عراقيين، وإجراء انتخابات، واستفتاءات، وأعمال مجالس نيابية، ودستور مكتوب، وغيرها من الخطوات التي وضعت على أساس بناء دولة مدنية ديموقراطية، ظلّت خطط الدول التي احتلت البلد هي السائدة ويجري العمل عليها، وظل نفوذها واضحاً. وعلاماتها الوصول ـــــ كما تقول أوساط سياسية ـــــ إلى «انسداد سياسي»، كخطوة مسبقة لمرحلة أخرى من العملية السياسية.
اعتبرت انتخابات 10 تشرين الأوّل المبكرة مدخلاً لتغيير العملية السياسية القائمة. وبرز بعدها ما يمكن توصيفه بانشطار في جسم القوى السياسية الفاعلة إلى تيارين أو تكتلين في كل «مكوّن»، وإشهار مصطلحات متناقضة بينهما، يخشى من استمرارها عملياً إلى ما لا تحمد عقباه وتحذّر منه حتى أطراف بين التيارين المنشطرين نفسهما. فالمكوّن الكردي له طرفان، تحت قيادة الحزبين البارزين فيه؛ «الديموقراطي» بقيادة العائلة البارزانية في محافظة أربيل، ومحيطها. و«الاتحاد الوطني» بقيادة العائلة الطالبانية في محافظة السليمانية ومحيطها. وانقسم المكوّن السني إلى كتلتين؛ «تقدّم» بقيادة محمد الحلبوسي، و«حسم» برئاسة خميس الخنجر، وتكفّلت الأجهزة الأمنية التركية والإماراتية في جمعهما باسم تحالف السيادة. وظل المكوّن الشيعي منقسماً بين «التيار الصدري» الذي يتزعّمه مقتدى الصدر، و«الإطار التنسيقي» بقيادة تحالف «فتح»- «دولة القانون»، وهذه عناوين جديدة أخذت تدخل مشهد العملية السياسية، حيث كانت هذه المكونات تواجهه بمسمّيات تمثّل كل مكوّن بأجمعه، أي بثلاث كتل أو تحالفات.
سمحت هذه الانشطارات والتفتت الداخلي بتدخلات خارجية أخرى، إضافية. وعمل هذا التدخل دوره في تكريس التفرقة وتعميق التقسيم، وصولاً إلى صراعات إعلامية وسياسية وحتى أخلاقية. أعلن عن زيارات واجتماعات قام بها قائد «فيلق القدس» في الحرس الثوري في إيران إسماعيل قاآني مع «التيار الصدري» و«الإطار التنسيقي» وجهات رسمية أخرى، وكذلك في أربيل، ولم تظهر علامات أو صور لهذه اللقاءات بين العراقيين والإيرانيين. كما حصل في اجتماعات أربيل بين قادة كرد مع جهات أمنية وسياسية أجنبية، أو صورة أنقرة بين الحلبوسي وخنجر مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان ومستشاره الأمني. خلال ذلك، برزت شعارات ومصطلحات تعكس تعصّب كل طرف؛ «حكومة أغلبية وطنية» - «لا شرقية ولا غربية»، لـ«التيار الصدري»، يغرّد به رئيسه مقتدى الصدر كل مرة بعد اجتماع مع «الإطار التنسيقي» أو الزوار الإيرانيين، بينما يؤكد «الإطار التنسيقي» على «التوافق الوطني». ودارت اجتماعات وتصريحات تفاوتت بين أشكال من الاتفاق أو التعثّر فيها، ووضع شروط واشتراطات على استمرارها. ظهرت إلى الواجهة الخلافات بين التحالفات وتعميق الهوة بينها، حتى أصبح مفاجئاً التراجع عن بعضها من مثل الاتصال التلفوني بين مقتدى الصدر ونوري المالكي ــــ أبرز الخلافات والصراعات.
برز بعد الانتخابات ما يمكن توصيفه بانشطار في جسم القوى السياسية الفاعلة إلى تيارين أو تكتلين في كل «مكوّن»


وهذا جزء من المخططات العاملة على التفتيت والتجزئة للقوى الفاعلة في العملية السياسية، شاركت فيها قوى داخلية، من مثل قيادات كردية لعبت دورها التنفيذي في تعميق الخلافات وتوزيع مواقفها بين الإعلان والإضمار، بين التحالف والادعاء بالتعامل المتساوي مع كل الأطراف، وتكريس الصراع والخلافات الداخلية. ومثلها قامت قوى عربية من المكوّن السني باستنساخ دور قيادات من المكوّن الكردي، لا سيما مع طرفي المكوّن الشيعي، للخروج بما يعقّد الصورة ويشوّه مشهدها السياسي. هذا النزوع بتسمية المكوّنات وقبول من يتزعمها سياسياً بذلك، قدّم معطى مقبولاً للمخططات التي أوصلت الأوضاع لما أريد له، واعتمدت على قاعدتها التي نصبتها وكلفتها عملياً.
بعد الانتهاء من تنفيذ الموعد الدستوري الأوّل عقب تثبيت نتائج الانتخابات بانتخاب، أو إعادة تعيين، محمد الحلبوسي رئيساً للبرلمان، ظلّت توقيتات الالتزامات الأخرى، بانتخاب رئيس للجمهورية ومن ثم رئيس للحكومة وتشكيل حكومة، مفتوحة لحد الآن. وهذا التأخير خرق دستوري رضي به من يبرز في المشهد السياسي، كما يبرز دور لسفراء أجانب وعرب في كل هذه الخطوات. وما نقل عن السفير الأميركي لدى بغداد في لقائه مع حزب سياسي شكلٌ من هذه التدخلات والضغوط والنفوذ السياسي عموماً. وظل التوافق عالقاً على مرشح لرئاسة الجمهورية رغم الاختراقات التي تمّت. وقد يكون موعده والخروج بما يتفق مع الأغلبية السياسية حلاً ممكناً لعقد العملية السياسية وإخراجاً لها من الانسداد المعلن لحد الآن.
كشفت العملية السياسية، منذ إعلانها وإلى اليوم، عن قضايا أساسية، أبرزها ضعف دور الأسماء العراقية التي تكلّفت بمهام السلطات في البلاد (اعترف بعضهم بارتكابه أخطاء جسيمة من دون أن يعمل على إصلاحها أو تحمّل المسؤولية عنها أمام القضاء)، وكذلك قوة نفوذ القوى الخارجية، واتساع أدوارها، وبلدانها (تركيا وقطر والإمارات مثلاً)، رغم بقاء التأثير الكبير لطهران وواشنطن. والأخرى هي هزال الثقافة الديموقراطية وممارساتها وتناقض مفهومها عما جرى ويجري باسمها. بالتالي، هذه القضايا تحتاج إلى حلول جذرية، وواقعية، نحو التغيير الحقيقي للعملية السياسية أساساً.
أثبتت الأحداث الجارية في العراق بأن العملية السياسية تفتقر إلى حركة شعبية وطنية (لا تمثّلها الوجوه التي برزت بعد الحراك الشعبي من خريجي دورات تدريب السفارات الأميركية والبريطانية والتركية، وغيرها) وبرنامج عمل وطني ومصداقية مؤمنة حقاً بعملية التغيير الوطني على جميع الصعد والمستويات. تبدأ من تغيير نهج العملية السياسية القائم على أساس المحاصصة الطائفية والإثنية، والعمل على بناء دولة القانون والمؤسسات الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان والاستقلال والسيادة الوطنية.

* كاتب عراقي